أجمع مجاهدون ومؤرخون بداية الأسبوع الجاري على أهمية إعطاء أولوية لكتابة التاريخ، بالاعتماد على شهادات من عايشوا الحدث وشاركوا في الثورة، للتصدي لكل المحاولات الرامية إلى تزييف الحقائق، تمجيدا للاستعمار، من خلال الكتب الأوروبية التي تتحدث عن الثورة وتحاول تشويهها للتخفيف من حدة جرائم المستعمر. مؤكدين أن الجزائر تمكنت بعد 50 سنة من الاستقلال من تجسيد الكثير من المشاريع، بالرغم من حداثة استقلالها، غير أنها اليوم مطالبة ببذل المزيد من الجهود لحفظ الذاكرة والتعريف بحقائق الثورة وحماية هذا الاستقلال، وهي الحماية التي تتحقق بتعريف الأجيال الصاعدة بحقيقة تاريخهم، للدفاع عن وطنهم من كل المؤامرات الخارجية. ذكر السيد نور الدين يزيد زرهوني، نائب الوزير الأول وعضو قيادي في وزارة التسليح والاتصالات العامة “المالغ” إبان الثورة، أن الجزائر تمكنت من تحقيق عدة معجزات في فترة قصيرة لا تتجاوز 50 سنة من الاستقلال، لأن الاستعمار الفرنسي خرج من الجزائر وتركها في نقطة الصفر، لتنطلق في مرحلة التشييد والبناء اعتمادا على وسائل بسيطة.
وثمّن زرهوني هذه الجهود التي سمحت للجزائر بتحقيق تقدم في عدة مجالات وتكوين إطارات من حاملي الشهادات الجامعية العليا الذين لم يكونوا ليتحصلوا عليها لولا الاستقلال. وبالرغم من بعض النقائص ،لأنه مهما كان، لا يمكن لأي بلد مهما كانت قوته أن يحقق كل أهدافه بنسبة مائة بالمائة ، فإن الجزائر وصلت إلى مراحل تحسد عليها تمكنها من منافسة عدة بلدان لم تكن مستعمرة. وتوقف السيد زرهوني الذي كان عضوا في وزارة التسليح والاتصالات العامة، عند أهمية كتابة تاريخ الثورة التي تعد أعظم ثورة في العالم، تمكن من خلالها المجاهدون من الانتصار على أكبر قوة في العالم آنذاك بالبندقية ووسائل بسيطة جدا.
وفي هذا السياق، توقف المتحدث عند المهام الصعبة التي أوكلت له ولرفاقه الشباب الذين غادروا مقاعد الدراسة والتحقوا بالثورة في وزارة التسليح والإتصالات العامة، حيث كلفوا بترصد تحركات العدو والتنصت على الإتصالات اللاسلكية للجيش والدرك الفرنسيين. وأشار المتحدث إلى أن هذه التفاصيل ما هي إلا جزء صغير من الثورة التي تبقى أكبر وأعظم من ذلك، وهو السياق الذي دعا من خلاله السيد زرهوني المؤرخين لإعطاء أهمية لكل مراحل التاريخ الجزائري، حتى قبل الاحتلال الفرنسي سنة 1830، مبديا أسفه لإهمال جوانب مهمة من تاريخ الجزائر في الكتابات الحالية التي ركزت في مجملها على مراحل الثورة من 1954 إلى 1962، و تناسوا مراحل مهمة من هذا التاريخ، خاصة ما تعلق بالمقاومات الشعبية وصمود الشعب الجزائري. بالإضافة إلى الإشارة للحضارات المتعاقبة على الجزائر منذ العهد النوميدي.واقترح السيد زرهوني على المهتمين بكتابة التاريخ، استغلال فرص تواجد المجاهدين ومن عايشوا أحداث التاريخ والثورة لجمع الحقائق وتدوينها، لنقل روايات حقيقية للأجيال الصاعدة بعيدا عن الأفكار المزيفة التي تحرف هذه الحقائق. محتشدات ومراكز تعذيب نموذجية لكشف جرائم الاستعمار للشباب
ومن جهته، أكد المؤرخ محمد عباس أن كتابة التاريخ في الجزائر بعد 50 سنة من الاستقلال عرفت جهودا معتبرة، غير أن هذه الجهود لا زالت ناقصة وغير كافية، بالنظر إلى الكتب التي تطبع في فرنسا، والتي تسيء للتاريخ الجزائري والثورة المجيدة وتمجد الاستعمار الفرنسي كأنه إيجابي. وللرد على هذه المحاولات الهادفة للمساس بتاريخ الجزائر وبتضحيات شهدائه، بات اليوم أكثر من الضروري، يقول المتحدث، بذل المزيد من الجهود لحماية الذاكرة الوطنية ومواجهة هذه المؤامرات التي تحاك من طرف من ما زال يحن للجزائر المستعمرة ويبكي دما لمغادرتها. وأضاف المؤرخ محمد عبّاس أن الجزائروفرنسا اليوم خصمان أمام محكمة التاريخ، لذا فلابد للجزائريين أن يكونوا سباقين لتقديم شهاداتهم، لأن الوطن بحاجة إلى روايات حقيقية تسلط الضوء على الجرائم البشعة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي ضد الإنسانية، والتي لا تزال آثارها وأضرارها قائمة إلى حد اليوم بعد 50 سنة من الاستقلال. كما استنكر المؤرخ محاولات بعض أبناء الحركى والمؤرخين الذين تحركهم جهات مسؤولة عن هذه الجرائم في فرنسا، لإغراق السوق بروايات كاذبة ومزيفة تمجد الاستعمار، وتحاول إقناع القراء بأن الشعب الجزائري والجيل الحالي نسي هذه الجروح ويرغب في مصالحة مع فرنسا، وأن السلطة هي التي تعيق هذه المصالحة والصداقة، كما جاء في كتاب جديد صدر مؤخرا وقدم ملخصا عنه في إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية. غير أنه يمكن القول لمن يروج لهذه الإشاعات، بأن الجرائم الوحشية التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر لن تنسى ما لا يزال أحرارها على قيد الحياة، وما لا تزال الأجيال الحالية والقادمة متشبعة بالروح الوطنية ورسالة الشهداء. وفي هذا السياق، ألح السيد عباس على ضرورة تجنيد كل الجهات القادرة على تقديم يد العون لكتابة التاريخ من مجتهدين، مساعدين، وكتاب للقيام بجمع الشهادات الحية لإعلام الأجيال الصاعدة والرأي العام العالمي بالحقائق التاريخية وبالجرائم التي ارتكبتها فرنسا التي ترفض اليوم الاعتراف بها والاعتذار عنها رسميا. وتوقف محدثنا عند أهمية الإسراع في القيام بهذه الأعمال بعد 50 سنة من خروج المستعمر، داعيا الكتاب الشباب للاهتمام بهذه المواضيع، لأن المؤرخين القدامى تقدموا في السن وأغلبهم لم يعد قادرا على الكتابة، الأمر الذي يتطلب منا مواصلة المشوار وغرس ثقافة حماية الذاكرة ووقائع الثورة والتاريخ في الأجيال الصاعدة، داعيا إلى البحث عمن عايشوا هذه الوقائع للاستفادة من شهاداتهم مباشرة بدون وسيط، لتفادي الوقوع في أي تحريف، في الوقت الذي يصعب فيه الوصول إلى الوثائق الخاصة بالثورة، والأرشيف الذي لا زالت السلطات الفرنسية تحتفظ به وترفض منحه للسلطات الجزائرية، كونه يحتوي على صور وأفلام مؤلمة تشوه صورة فرنسا التي تدّعي السلام وحماية حقوق الإنسان. وأشار المؤرخ إلى أهمية فتح أبواب الأرشيف وتوفير كل المعلومات اللازمة بأقسام التاريخ بالجامعات الوطنية للمؤرخين المهتمين بتاريخ الجزائر، لتمكينهم من إيصال الرسالة للجيل القادم والتصدي لمحاولات تشويه الحقائق.
واعترف السيد عباس بما وصفه ب “التقصير” في حفظ التاريخ وتخليد الذاكرة، بحيث تم الاكتفاء بكتابة الكتب وتصوير بعض الأفلام السينمائية والتلفزيونية القليلة جدا، في الوقت الذي يحتاج فيه الشباب والجيل الذي لم يعش الاستعمار صورا حية ومشاهد تجسد حقيقة ما حدث، وهي الصور التي لا تتجسد بالكتب، يقول السيد عباس الذي اقترح على السلطات المبادرة بإنشاء معالم تذكارية ومتاحف إضافية خاصة بفترة الاحتلال والثورة، من خلال تخصيص أماكن في شكل محتشدات نموذجية تعبيرا عن المحتشدات التي كان الجيش الفرنسي يُرحِّل إليها سكان الأرياف والقرى عند حرق أراضيهم، لإبعادهم عن مناطقهم وعزلهم عن الثورة، وأيضا تحويل مراكز التعذيب التي تجسد صور المقصلة إلى متاحف وأماكن يقصدها الزوار الذين يرغبون في الاطلاع على تاريخ الجزائر، مثلما هو موجود في عدة دول من العالم، لأن الصورة هي الأقرب إلى ذهن الشباب من الروايات المكتوبة في زمن بات يعرف غزوا للروايات الأوروبية الكاذبة الهادفة لتزييف الوقائع الحقيقية، لأن الوطن اليوم وبعد مرور وقت عن الثورة، لا يزال بحاجة إلى من يدافع عنه بالقلم والصوت والصورة، بحفظ حقائقه التاريخية ومحاربة كل محاولات التشويه والمساس بتضحيات شهدائه.
من جهتها، أكدت المجاهدة باية ماروك أن التاريخ الجزائري لم يعط حقه، وتعددت فيه الروايات وتضاربت الآراء حول بعض المعارك والأحداث وأصبح الكل يروي قصة مختلفة، بناء على ما قرأه في الكتب. ولوضع حد لهذه الروايات التي قد تسيء للتاريخ وتحرف الحقائق، أكدت المجاهدة أن التاريخ يتطلب شهادات حية من الذين عايشوه وشاركوا فيه لتدوين حقائق ووقائع تتمكن الأجيال الصاعدة من تداولها دون أي شك، لأنها حقيقية وغير مزيفة.