في أوائل شهر سبتمبر عام 2014 رصدت قوات روسية إطلاق صاروخين في البحر المتوسط فسارعت كل من المملكة المتحدةوالولاياتالمتحدة وفرنسا وإسرائيل رداً على التصريحات الروسية إلى نفى ضلوعها فيه غير أن أضطرت تل أبيب في غضون ساعات لاحقة معدودة إلى الإعتراف بأن لها علاقة مباشرة بالحادث حيث تم إطلاق الصاروخين الباليستيين من طراز "أنكور" أو "سبارو" (عصفور) وفقاً لتسمية أخرى للتأكد من أداء ومدى كقاءة منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية التي تطورها تل أبيب تحت إشراف واشنطن. ليس هناك سراً للجميع أن أسرائيل تطوّر ومنذ زمان نظامها للدفاع المضادة للصواريخ "القبة الحديدية" تطبيقاً لأهداف إستراتيجيتها، مثلما يُزعم، الدفاعية وعلاوة على ذلك يعرف الجميع أن المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي يدأب على هذا المشروع طويل الأمد الذي تسدد الولاياتالمتحدة قسط الأسد من تكلفته، فيتابع تحقيقه العديد من دول العالم ليست روسيا فحسب بل حلفاء واشنطن على حد سواء. قد صرحت بي بي سي البريطانية في برنامجها بالعنوان " أسرائيل مدججة بالسلاح" بأنه " رصدت محطة الرادار من النظام ARROW-2 صاروخ Sparrow )"أنكور"( الذي إطلاقته مقاتلة أف – 15 في حوض البحر المتوسط” . ومن اللافت للنظر في هذا البرنامج ليست سخرية أنيقة على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو (علماً أنه تميل الأوساط الليبرالية البريطانية الحاكمة تقليدياً في تعاطفها إلى الديموقاطيين في واشنطن أكثر من إلى الجمهوريين) بل معلومات تم كشفها عن مصمم برنامج الدفاع المضاد للصواريخ الإسرائيلي ورأي المحلل المستضاف الذي لم يشاطر إبتهاج نتنياهو. إن المصممَ أوزي روبين، إن كان المصدر البريطاني يستحق التصديق، له الصلة المباشرة بإنشاء عناصر أساسية لمنظومة الدفاع المضادة للصواريخ الإسرائيلية فمثلما يقال إنه من أباء مؤسسيها ويعرف الصاروخ الهدف "أنكور" حق المعرفة. كان أوزي روبين يتولى رئاسة مكتب التصاميم المتعاون مع وزارة الدفاع الإسرائيلية وقتَ بداية عصرنة أنظمة "أنكور شاحور" و "أنكور كحُل" و"أنكور كسييف" (العصفور الأسود والعصفور الأزرق والعصفور الفضي). أنبثق مشروع "أنكور" من الفكرة التصميمية لصاروخ أمريكي تم وضعه بأيدي مختصي شركة "رايثون" (Raytheon) فيشابه هذا الصاروخ في مواصفاته صاروخاً باليستياً فيعمل بالوقود الصلب ووزنه 2 طن ويتجاوز طوله 6 متر فضلاً أن يمكن إطلاقه من المقاتلات، فيجدر الإشارة إلى أنه ألقيت مهمة تطوير هذا النموذج من الصاروخ على عاتق المؤسسة الحكومية الإسرائيلية "رافائيل" ذات التداول التجاري يبلغ سنوياً ملياري دولار وحتى أكثر وإن هذه المؤسسة بالذات قد كسبت صفقة "القبة الحديدية" بالكامل. شارك في ذلك البرنامج بصفة الخبير جونتان ماركوس ، الناشط والمختص في مجال الأسلحة والدفاع الذي أجاب على أسئلة صحفيي بي بي سي وأشار إلى أنه أُضطِرّت تل أبيب إلى الاعتراف بضلوعها في إطلاق الصواريخ في شهر سبتمبر 2014 في البحر المتوسط وثم ركز على واقع رصد وكشف الاطلاق من قبل الأطقم القتالية الروسية ولكن غلف كلامه بالغموض قائلاً : "لماذا يا ترى كان يجب أن تتحقق هذه التجارب في هذا الوقت بالذات ؟ لا نعرف الجواب على هذا السؤال." إذا كان لا يعرف الجواب – هذا شيء أما الإحتفاظ بنصف الحقيقة فهذا شيء مختلف تماماً. يتمتع جونتان ماركوس إن نظرنا إلى وظيفته المحلل في بي بي سي، بالمعلومات الكافية غير أنه كمثله من المختصين الأنجلوساكس يفضّل التخلى عن دور الباحث النزيه ويذهب إلى إتّباع المشوار المتعمد. فهو على اليقين أنّ هناك صدفة خالصة في تزامن التجارب الصاروخية مع تصعيد الوضع في الشرق الأوسط وبالأخص زيادة التوتر في المثلث "سوريا – إيران – إسرائيل" بالإضافة إلى ذلك لا يخجل ماركوس من إعلان وقائع بديهية ولكن يعلنها بالعبارات والألفاظ المتماشية مع سياسة واشنطن، فهو يقول : "يمكن القول بكل التأكيد لو أقدمت سوريا على توجيه ضربة على إسرائيل وأوقعت الضربة الضحايا بين السكان المدنيين لكان رد إسرائيل جدياً جداً وفتح الجبهة الثانية مثل هذه هو آخر شيء يصب في مصلحة الأسد". يا ريت لو أضاف المحلل البريطاني أن هذا الشيء يتصدر الأجندة الإسرائيلية ويصب في مصلحة نتنياهو وهؤلاء الصقور من جناح الجمهوريين في واشنطن الذين لديهم المنافع الشخصية في تطوير وترويج المجمع الصناعي العسكري الأمريكي. من البديهي أن كلاما وألفاظا رنانة مثل هذه يمكن إيجازها بالجملة "توفر دمشق ممرات لمقاتلي حزب الله" هي ذرائع ومبررات لتزكية العدوان الأنجلوساكسي في الشرق الأوسط وفي هذا السياق لم يعلن "المختص البريطاني في شؤون الدفاع" شيئاَ جديداً بل كرر مرة أخرى أن إسرائيل تقف موقفا دفاعيا وتستعد لصد تحديات الإعتداء الخارجي. ومع ذلك الإطلاق الصاروخي في شهر سبتمبر والضجة الإعلامية التي أثارها رصد الروس لهذا الإطلاق تتزامن مع محاولات لحرف الإنتباه عن هذه القضية بينما يتلخص جوهرها في أنه توظف الولاياتالمتحدة حلفاءها (وبالتحديد إسرائيل) لمواصلة تطوير تقنيات الصواريخ الباليستية. وفي حقيقة الأمر يدلّ كل هذا على أنه قد إخترقت واشنطن في الواقع بصورة أحادية الجانب بنود المعاهدة بشأن الصواريخ ذات المدى القصير والمتوسط التي تم عقدها مع موسكو. فالمنطق واصح: لم تعقد إسرائيل هذه المعاهدة مع روسيا ولا تتوفر لدى الولاياتالمتحدة القاعدة التكنولوجية المتطورة في المنطقة التي يمكن إستخدامها لإجراء التجارب إلا في إسرائيل. وإتضح الأمر أنه لا تتوفر لدى واشنطن صورة كاملة بخصوص قدرات المجمع العسكري الصناعي الروسي التي تتيح رصد أطلاقات الصواريخ الباليستية على سطح الكرة الأرضية برماتها مهما كانت تقطة إطلاقها بعيدة أو قريبة فمنذ وقت غير بعيد أربكت هذه القدرات خطط البيت الأبيض حينما أصبح واضحاً أن الجيش الأمريكي كان يخوض تجارب النظام الصاروخي "هيرا" لتأكد من تأدية منظومتها المضادة للصواريخ. في ذلك الوقت أصرت روسيا على ضرورة إلتزام الأمريكان بتعهداتهم فتجارب صواريخ "هيرا" قد توقفت. أما واقع رصد إطلاق الصواريخ في البحر المتوسط فأدهش الإسرائيليين والأمريكان ووضعهم على حافة الصدمة النفسية. على كل الحال قد تأكدوا بأنفسهم في قدرات روسيا لمراقبة المجال الجوي في كل نقطة من كوكبنا. ومن الجهة الأخرى تتميز صواريخ "أنكور" المذكورة أعلاه بمقدرات جدية ويبلغ مداها 3000 كم. أما إذا زُوّدت بالرأس المدمرة القابلة للمناورة فتتحول من الصاروخ الهدف إلى السلاح الفتاك.من الجلي أنه تحاول واشنطن بالإستعانة بإسرائيل أن تلف بنود المعاهدة حول الصواريخ ذات المدى القصير والمتوسط ما يتناقض مع أعراف القانون الدولي غير أن ومثل هو المعروف أصبحت المعايير المزدوجة وتهميش الاتفاقيات التي تم التوصل إليها والتي تفرض الإلتزامات تحت مظلة الولاية القضائية الدولية من صفات منتشرة لتصرفات الولاياتالمتحدة. تنبع خطورة الواقع الناشئ ليس من توتّر الأوضاع في الشرق الأوسط فقط بل جدير بالذكر أن هلال عدم الاستقرار الجيوسياسي الذي يدأب الحلف الأنجلوساكسي على خلقه تجسيداً لإستراتيجية ردع اللاعبين البارزين في قارة أوراسيا - روسيا والصين – يتمدد ويتثبت في شرق وجنوب شرق أوروبا وحوض بحر قزوين وآسيا الوسطى ففي هذا السياق من الواضح أن واشنطن لن تتخلى عن برنامجها الصاروخي وتحاول ستره وراء إنشاء نظام المضاد للصواريخ في أوروبا والدرع الصاروخية الإسرائيلية لكنهما قي الحقيقة الجزء من بناء نظام التفوّق الصاروخي على المستوى العالمي. يمكن الافتراض أن هدف أساسي من هذا الإطلاق للعصفور الأمريكي الإسرائيلي هو التأكد من مدى الاستعداد للقوات الروسية الإستراتيجية لأن البحر المتوسط إذا نظرنا إليه عبر منظور القدرات التكنولوجية المعاصرة في مجال الرصد الراداري ليس بيعداً عن حدود روسيا فبالتالي بإمكان رادارات المراقبة الروسية رصد إطلاق صاروخ وتحديد من أطلقه ، فمهما كانت تفسيرات يمكن القول بكل التأكيد إن الولايات المتحدو وحلفاؤها يخالفون قواعد اللعب فمن الصعب تنبؤ عواقب الخطوات مثل هذه غير أن أمراً وحيداً لا يقبل تأويل هو إحتفاظ روسيا بحقها الشرعي للدفاع عن مصالحها. اذا كانت تسريبات موقع ويكيليكس ومعلومات صحافيي غارديان غير بعيدة عن الصحة يمكن التأكيد أن الولاياتالمتحدة تعمد إلى الحصول على نوع جديد من الصواريخ ذات المدى المتوسط قبل بداية عام 2015 . فهناك معطيات جديدة من مصادر أخرى تقول أن واشنطن تعتزم على إعتماد تريليون دولار لتحديث مقدرتها النووية. فيدل كل ذلك على أن يشهد المستقبل القريب الزيادة في تجارب الصواريخ الأمريكية (أو غيرها من أنواع صواريخ تحت ستارة مشروع عصفور أو غير عصفور). ويترتب على واشنطن عاجلاً أو آجلاً أن تعترف بأنتهاكاتها لمعاهدة الحد من تصميم وإنتاج الصواريخ ذات المدى القريب والمتوسط وعلاوة على ذلك – دون الشك – غيرها من المعاهدات الدولية التي تهمشها أو تفسر بنودها لصالح المجمع العسكري الصناعي الأمريكي. ولكن الصاروخ ليس حبة شعير والمليارات من الدولار ليس مذخر عجوز.. هل يدرك هذا الساسة الأمريكان المنهمكون في لعب كاوبوي