تختلف الجرائد التي أتت بها رياح الانفتاح الإعلامي من حجمها في السوق وكذا سحبها وتصنيفها، غير أن ما يميز عنوان عن آخر هو خطه الافتتاحي وهو على هذا النحو يخلق تميزا بين هذا الكم الهائل من العناوين التي تزخر بها الساحة الإعلامية. وتعد صحيفة La Nouvelle Republique من الصحف التي ولدت في عز الأزمة الأمنية التي عاشتها الجزائر وهي على هذا النحو تأثرت بالمناخ الإسلامي الذي كان سائدا. كيف بدأ الصحفي والمسؤول عبد الوهاب جاكون العمل في السلطة الرابعة؟ عبد الوهاب جاكون: بصراحة لم أكن في بداية مشواري المهني أفكر في مهنة الصحافة لأن اختصاصي كان علم الاجتماع وبعد تخرجي في الجامعي التحقت بمعهد العلوم الاجتماعية بالخروبة لتحضير شهادة الدراسات المعمقة، وموازاة مع ذلك وظفت كمترجم في جريدة ''الثورة والعمل'' لترجمة المقالات من العربية إلى الفرنسية والعكس، كما كنت أشغل منصب معيد في معهد العلوم السياسية والاتصال وكانت لي الفرصة هناك لاكتشاف عالم الإعلام والاتصال، وهكذا تحولت من مترجم في المجلة المذكورة إلى محرر وقد مكثت بجريدة ''الثورة والعمل'' حوالي 01 سنوات وبالتحديد إلى سنة 0991، وبعد مجيء مرسوم رئيس الحكومة الاسبق مولود حمروش القاضي بإنشاء الصحف الخاصة التحقت بجريدة ''الجزائر الجمهورية'' وعملت هناك لمدة عامين، وبعد الأزمة التي مست هذا العنوان وتوقفه انضممت إلى الفريق الذي أنشأ جريدة ''لومتان'' وكنت أحد مؤسسيها، وبالمناسبة أذكر أني خلال فترة وجودي بهذه الجريدة استفدت من تربص بألمانيا لمدة ثلاثة أشهر بهدف الرسكلة في المجال الإعلامي، حيث سمح لي ذلك التربص بالاحتكاك بالمهنة وملامسة واقعها. وبعد ذلك؟ في سنة 7991 ولأسباب خاصة ولا داعي للحديث عنها قررت مغادرة هذا العنوان والمساهمة في إنشاء عنوان آخر إلى جانب زملاء آخرين ممثلا في LA NOUVELLE REPUBLIQUE وهي الجريدة التي مازلت أترأسها لحد الآن منذ 11 سنة كاملة. وكيف يقيم جاكون مسؤول النشر صحيفة La Nouvelle Republique التي يرأسها وسط هذا الزخم من العناوين والمواقف المختلفة؟ ما أريد الإشارة إليه في البداية هو أننا غداة إنشاء هذا العنوان في شهر فيفري 8991 حاولنا أن نكون مخلصين للوطن نظرا للأزمة المتعددة الأشكال التي كان يعيشها وكان دور الجريدة ومهمتها هو التنوير وتقديم مقاربات قريبة جدا من الواقع إلى درجة أننا صنفنا في خانة العناوين الموالية للسلطة. وفي تلك الفترة لم تكن الجزائر في حاجة إلى معارضة وهذا ليس دورنا بل كانت في حاجة إلى تضافر جهود الجميع من أجل الخروج من الحقبة الحمراء التي عاشتها وعاشها كل الجزائريين، وليس بالضرورة أن يكون الأشخاص، وأقصد هنا الصحف التي كانت تعتبر نفسها معارضة أن تكون مواقفها وآراؤها هي الصحيحة، بل في كل الأحوال كانت تزيد الطين بلة وتتسبب أكثر في الغموض حول ما يحدث في بلادنا خلال فترة عصيبة، لهذا أعتقد، وهذا إيماني بأنه كان علينا نحن في الجريدة أن نكون وطنيين لأننا لم نكن في ظرف عادي، حيث تكون الأشياء عادية والممارسة الإعلامية عادية. اليوم وبعد عودة الهدوء إلى هذا البلد هل مازالت جريدتكم تؤمن بالأفكار التي رافقت بدايتها؟ في الحقيقة اليوم أستطيع القول أن اهتمامنا الكبير هو بالجانب المهني، فمع قدوم شهر فيفري ستظهر الجريدة في حلة جديدة بمناسبة ذكراها الحادية عشرة، وفي هذا الإطار فقد كلفنا مكتب دراسات فرنسيا في باريس مختص في عملية الإخراج و''الماكيت'' لمدنا ببعض الاقتراحات بهدف إدخال تغييرات جوهرية على مظهر الجريدة، أما خطنا الافتتاحي فيظل كما هو عليه في السابق لأننا نحرص على مصلحة البلاد أكثر من أي شيء آخر، مع حرصنا على تأدية مهمتنا إعلاميا مثل بقية الصحف. ولعل ما يجعلني كمدير لهذا العنوان أقر بنزاهة ممارستنا الإعلامية هو أننا لا نفرق بين تغطية نشاطات السلطة أو الأحزاب أو المجتمع المدني وحتى المتخندقين في المعارضة، لأن رسالتنا بالدرجة الأولى هي إعلامية، ويبقى موقفنا مما يجري نضمنه في الافتتاحية ليس إلا. وبعد 81 سنة أين تضع حرية التعبير في الجزائر؟ لو قمنا بفحص للتجربة الإعلامية في الجزائر ومدى علاقتها بحرية التعبير نستخلص أن الإعلام الجزائري عاش تجربة فريدة من نوعها مقارنة مع البلدان التي هي في نفس المستوى التنموي. وأذكر بالأخص البلدان العربية والافريقية وحتى بعض البلدان من المعسكر الغربي مثل بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية. حقا كانت تجاوزات من كلا الطرفين سواء من طرف السلطة أو من طرف الاعلاميين الجزائريين ونضع هذا على عاتق التجربة. لقد شاهدنا في بداية التجربة نقصا فادحا في الجانب المهني، وأصبحت أغلبية المقالات تعاليق تخضع أكثر إلى اعتبارات سياسية وإيديولوجية، ولربما هو الشيء الذي زاد في شراسة السلطة في بعض الأحيان ضد ''الصحافة المستقلة'' الأمر الذي أدى ببعض الصحافيين أن يطرحوا إشكالية المهنة وأخلاقياتها وألحوا في عدة مناسبات على ضرورة الاهتمام بالجانب التكويني حتى يتفادوا بعض الانزلاقات. والآن فيما يتعلق بالمضايقات التي تعيشها العناوين مع العدالة ليست مقياسا يقاس به مدى حرية الصحافة في الجزائر أو انعدامها. فعلى سبيل المثال الجريدة التي أديرها جل القضايا مع العدالة كانت في أغلب الأحيان قضايا تخص الأشخاص والخواص ولم تكن معها أي إشكالات مع السلطة أو مؤسسات الدولة، وإن كانت هذه القضايا موجودة إلا أن نسبتها وعددها جد ضئيل. وهذه القضايا التي أتحدث عنها والمتعلقة بالعدالة هي في الواقع تخص كل الجرائد ولا توجد جريدة سواء كانت عمومية أو خاصة لم تكن لها مشاكل مع العدالة، وأقصد هنا إدخال بعض النسبية في هذه المسألة حتى لا تستعمل كحجة أو ذريعة للتقليص من الحرية التي تتمتع بها الصحافة الجزائرية مقارنة بفترة ما قبل التسعينيات. إذا الصحافة من وجهة نظرك قطعت عدة مراحل منذ فتح التعددية الإعلامية؟ أعتقد أن المراحل التي عاشتها الصحافة الجزائرية تتعلق بالدرجة الأولى بالأحداث التي عرفتها البلاد، وإذا أردنا تقسيمها مرحليا، فأظن أن المرحلة الأولى صادفت بداية التعدد والانفتاح الإعلامي وما أسفرت عنها من تغييرات وانحرافات، حيث أن اللهجة كانت شديدة نوعا ما، وجاءت بعض ذلك مرحلة الإرهاب وكانت الصحافة الجزائرية في طليعة النضال ضد هذه الآفة، ونظرا لالتزامها والتحول إلى طرف في هذا الصراع، فقد دفعت الصحافة الجزائرية ثمنا باهظا. والدليل على ذلك عدد الصحفيين الذين اغتيلوا على يد الإرهاب الهمجي الذي أتى على الأخضر واليابس، حيث تشير اليوم الأرقام إلى اغتيال 60 صحفيا من كل وسائل الإعلام الجزائرية وهو رقم في اعتقادي كبير دفعته مهنة المتاعب خلال سنوات الجمر. ثم جاءت مرحلة الاستقرار حيث أصبحت الصحافة الجزائرية طفا في النزاعات السياسية وانقسمت إلى اتجاهين بل وتخندقت في طرف ما، إلى درجة أن بعض الصحف اعتبرت نفسها بمثابة السلطة ولا سلطة بعدها، وهذا الأمر في نظري أثر إلى حد ما على مصداقية هذه الصحافة التي تعتبر نفسها هي المعارضة الوحيدة، بل وقالت بعضها إنها كانت وراء إبعاد الرئيس السابق اليامين زروال من السلطة، وهذا أصنفه في خانة الغرور الذي انتاب بعض العناوين والأقلام، وقد ظهر هذا الأمر جليا خلال العهدة الثانية (2004) إلى درجة قامت هذه الصحف بالانحياز المفرط والظاهر لمرشح على حساب آخر، ضاربة عرض الحائط أخلاقيات المهنة لأن دور الصحافة هو تغطية الحدث وإيصال المعلومة الصحيحة إلى القارئ دون مزايدات أو انحيازات، ويبقى للصحفي إمكانية الإنخراط في أحزاب حسب قناعاته وميولاته للنضال من أجل أفكارهم ومواقفهم، حتى وإن كانت مناهضة للسلطة ولا تخدم مصالحها. ألا ترى أن من حق الصحيفة الوقوف مع أو ضد ترشح شخص ما؟ هذا ممكن، إذا أعلنت الصحيفة المعنية أنها صحيفة رأي وهي لسان ناطق لتنظيم معين لا أن تتخندق في صحافة مستقلة مهمتها نقل الأخبار وموازاة مع ذلك تتبنى أفكارا حزبية وتؤيد المرشحين في الاستحقاقات المختلفة، وعلاوة على ذلك، فالجريدة لها الحق أن تفصح عن مواقفها وآرائها في خطها الافتتاحي على أن لا يؤثر ذلك على محتوى صفحاتها الأخرى التي من المفروض أن تتقيد بمهمة الأخبار والإعلام ونقل المعلومة كما هي للقارئ. مع كل النقائص التي يسجلها البعض، ألا ترون أن للصحافة الجزائرية خصوصايتها وتجربتها التي تميزها عن غيرها من التجارب الإعلامية الأخرى؟ أولا أجيب على هذا السؤال من خلال ارتفاع عدد الصحف والعناوين، إذ تشير الأرقام والإحصاءات إلى وجود أكثر من 60 يومية بالإضافة إلى الأسبوعيات والدوريات، أما الجانب الجمالي فقد أصبحت جل العناوين ملونة وتطبع بنوعية راقية. ويكفي في هذا المجال أن أقول أن هناك اليوم من الجرائد من أصبحت تملك مطابعها مثل الخبر، الوطن، L'AUTHENTIQUE و ، بالإضافة إلى أن بعض الصحف ارتفع عدد صفحاتها إلى 23 صفحة. كثر الحديث مؤخرا عن قانون الإشهار هل تعتقد بأن ظهوره أصبح أمرا محتوما ؟ بما أننا خضنا حرية السوق، لم تصبح الوكالة الوطنية للنشر والإشهار هي الوحيدة في الميدان الاشهاري والأساسي، إذ أن الكمية التي تحوز عليها الجرائد من إشهار هذه الوكالة لا يتعدى 81٪ وبما أنها هي مؤسسة عمومية وأموالها عمومية من حق الدولة أن تستعمل هذا الاشهار كمساعدة للصحف التي من الصعب أن تحصل عليه بالقنوات العادية، لأن الهدف المرجو هو إقرار نوع من التعددية في هذا المجال. كما أن بعض الصحف تستعمل حجة إسناد مهمة توزيع الإشهار لهذه الوكالة في خانة أنها تريد خنقها، فهذه الجرائد في السابق ومنذ سنوات عديدة إلى غاية 1996 كان الممول الوحيد لهذه الجرائد الوكالة المذكورة، وأنا أتساءل لماذا تغيرت نظرة البعض لهذه المؤسسة بمجرد أنها توقفت عن مد الصفحات الاشهارية لهذه الصحف. وأكثر من ذلك فقد صرح مسؤولو هذه الجرائد بأنهم ليسوا في حاجة بتاتا لإشهار الوكالة. أما فيما يتعلق بالإشهار والقانون الذي يتحدثون عنه فأعتقد أن المتعارف عليه هو أن ثلث الصفحات تكون مخصصة للإشهار والأمور واضحة، والإشهار الذي تقدمه أو تمنحه الوكالة هو عبارة عن مناقصات أو إعلانات وهذا النوع من الإشهار يخضع لأموال عمومية كما قلت في السابق، فالدولة لها كل الصلاحيات في التصرف فيه والجزائر ليست الأولى في هذا المجال. فمثلا الوزير الفرنسي السابق ''بلادور'' أول أمر أمضاه تعلق بموضوع الإشهار المؤسساتي حيث يعطي للدولة كل الصلاحيات لتوزيع أموال هذا الإشهار حسب أهداف السلطة الفرنسية في المجال الإعلامي، وكما نعلم فإنه لا توجد في الجزائر ميكانيزمات تحدد طبيعة المساعدات المباشرة وغير المباشرة المتعارف عليها في دول أخرى. أي مستقبل للصحافة المستقلة في الجزائر؟ من الصعب التكهن بما ستكون عليه الصحافة في الجزائر مستقبلا، ولربما هذا العدد الهائل من الجرائد سيتقلص بسبب السوق زيادة على أن الأزمة المالية ستؤثر لا محالة على الجانب الإشهاري، وربما تكون فيه تجمعات لصحف في كارتل.