سمعت بالصدفة أن فريقا صحفيا من قناة المنار "اللبنانية" يحضر لملف إعلامي حول ثورة التحرير الجزائرية، وعرفت عن طريق الفضول أن فريق العمل الصحفي المكلف بالملف، يسعى جاهدا للظفر بحديث مطول مع المجاهدة جميلة بوحيرد التي ستكون محور الملف. وبعملية حسابية بسيطة، وجدتني مقتنعا أن الملف - في حال إنجازه- سيكون بمثابة خبطة إعلامية كبيرة تنفرد بها قناة المنار، لأن عملا من هذا النوع، يتوفر بالتأكيد على كامل عناصر النجاح.. تاريخنا فيه الكثير مما لم يفصح عنه بعد، وجميلة بوحيرد لها الكثير مما يمكن أن تقوله بعد صيام عن الحديث دام أكثر من نصف قرن. وبين هذا وذاك، تملك قناة المنار من الجدية والاحترافية ما يؤهلها للخروج بملف إعلامي غاية في الإتقان، ولكن ليس هذا المهم، إنما الأهم منه أن تنجح قناة المنار في استنطاق جميلة بوحيرد بعد كل هذا الصمت، وهي قناة محدودة الإمكانات، كونها ممولة من طرف حزب سياسي، بينما عجز تلفزيوننا الممول من طرف الدولة أن يقدم الجزائرية جميلة بوحيرد لجمهور جزائري، نصفه، أو أكثر من النصف، يصنفها في تعداد الشهداء، ونصفه الآخر لا يعرف عنها سوى الإسم، بل وهناك من الجزائريين من يعتقد أن جميلة بوحيرد هي ممثلة تلفزيونية معتزلة، وتلك هي الطامة الكبرى. جيل ما بعد الاستقلال، المسكين لم يعرف عن هذه المرأة " الملحمة" سوى ما تصدق به الآخرون، والفضل طبعا يعود بالدرجة الأولى إلى الفنانة الكبيرة ماجدة الصباحي والمخرج البارع الراحل يوسف شاهين، ولولا هذا الثنائي الذي قدم لنا جزءا من تاريخنا المنسي عبر رائعة "جميلة بوحيرد"، لكنا جميعا نصنف المجاهدة في خانة الشهداء، وربما لا نسمع عنها شيئا. في بداية شهر ماي المنصرم، نظمت تركيا مهرجان أنقرة الدولي لسينما المرأة، وبعد تنقيب وبحث في الأرشيف، توصلت إدارة المهرجان إلى نتيجة مفادها أن أهم عمل سينمائي يمكن أن تعول عليه الدورة هو فيلم " جميلة بوحيرد" الذي يجسد فعلا وجها مشرقا ويترجم أمجاد ثورة التحرير الجزائرية، ومن خلالها كل الثورات العادلة في العالم، ويومها تحدثت الممثلة القديرة ماجدة الصباحي أمام وسائل الإعلام العالمية عن تجربتها في الفيلم، وتحدثت أيضا عن قصة نضال وكفاح الشعب الجزائري، وقالت بحرقة كبيرة:"بعد أكثر من أربعة عقود لا تزال الثورة الجزائرية تعطي وتجزل في العطاء لكل من اقترب منها بخير وبالأخص أنا، حتى أنني أشعر بالندم لأنني لم أقدم أعمالا أخرى لبطلات جزائريات أخريات وما أكثرهن، وأعتقد أنه من بين 56 فيلما قدمتها يظل فيلم جميلة الأهم في مسيرتي وسيظل كذلك بعد رحيلي، فقد خلدني". وهكذا اكتشف الأتراك، والعالم كله فصلا من فصول تاريخنا المجيد على لسان من مثلته وليس على لسان من صنعته رغم أنها ما تزال على قيد الحياة. قد تتحمل المجاهدة بوحيرد شطرا من مسؤولية صمتها وصيامها عن الكلام، ولكن ذلك لا يشفع لنخبنا أمام محكمة التاريخ عن تقصيرها في التعريف بامرأة هي أطول نخلة لمحتها واحات المغرب، وأجمل طفلة أتعبت الشمس ولم تتعب كما وصفها الشاعر السوري الراحل نزار قباني، فجميلة بوحيرد ليست مجرد مواطنة جزائرية ببطاقة التعريف وجواز السفر، هي أيضا فصل من تاريخ مشترك من حق الجميع أن يعرفه حتى يقدره حق تقديره، ومن الإجحاف أن نحصر تاريخ الجزائر في " الأفيون والعصا" و"دورية نحو الشرق"، و"أبواب الصمت"، أو حتى بعض الشهادات المحتشمة التي يتطوع بها أناس في مناسبات محدودة حول معركة الجبل الفلاني وواقعة الاشتباك الفلاني.. سعيد مقدم