من تكلم عن نفسه بما يحب .. تكلم الناس عنه بما يكره هكذا أردتها مقدمة لهذا المقال، والأمر بطبيعة الحال يتعلق بمناسبة إحياء الذكرى الخمسين للثورة التحريرية المجيدة، فمنذ أيام قلائل عاشت الجزائر من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها ذكرى عزيزة على قلب كل جزائري وجزائرية، كيف لا والجزائر خرجت ذات الفاتح من نوفمبر عام 1954 طواعية من نير الذل الاستعماري بإقرارها مبدأ تحرير مصيرها بيدها، حتى وإن تعلّق الأمر حينها بأعتى قوة استعمارية في العالم، والمقصود بها فرنسا. ثلّة من خيرة ما أنجبت الجزائر، اجتمعوا وناقشوا وقرروا أخذ زمام الأمور بأيديهم والرمي بالثورة إلى الشارع ليحتضنها الشعب (مثلما قال الشهيد البطل محمد العربي بن المهيدي). شباب آمنوا بالثورة سبيلا للخلاص من يد المستدمر الغاصب، شباب آمنوا بعدالة قضية شعبهم فهبّوا إلى أرض الوغى ولم يحيدوا عن العهد الذي قطعوه على أنفسهم أبدا، لكن وللأسف أصبحت ثورة الجزائر (وهي من أكبر وأعظم ثورات القرن العشرين) محط كلام متهرئ، زائف، لا يحمل أدنى احترام للثورة وللثوار، كيف لا والألسنة تجري بما لا تشتهيه الصدور، فكل من هبّ ودبّ أعطى لنفسه حق الكلام باسم الثورة والخالدين من شهدائنا الأبرار، وكل يثني على ما قام به من أعمال بطولية حيّرت العدو قبل الصديق... لم يعد هناك تأريخ للأحداث بقدر ما هناك عرض حال بيوغرافي للراوي... الحقيقة أنّ الكثير من آبائنا المجاهدين فقدوا الحسّ الزمني فلم يعودوا يفرّقون بين الأمس واليوم، والأمر هنا في غاية الخطورة لأنّ الجزائر بالرغم من المجهودات الجبارة التي ما فتئ يبذلها القائمون على المتاحف والمراكز التاريخية، لم تتمكن بعد من جمع كل الوثائق المتعلقة بالثورة التحريرية، لرفض الكثير من المجاهدين تقديمها لمن يهمه الأمر، وللاستدلال أكثر والخوض في هذه المسألة أروي قصّة عشت أطوارها بنفسي، ففي مناسبة وطنية وبقاعة المحاضرات لمركز ثقافي يتواجد بالجزائر العاصمة، قدّم أحد إطارات جيش التحرير الوطني (كانت رتبته ضابطا) شهادات حيّة عن الأحداث التي عاشها، وفي معرض حديثه قال بأن بحوزته رسالة خطية كتبها الشهيد الجسور العقيد اعميروش للشهيد البطل العربي بن المهيدي، يهنئه من خلالها بمناسبة عيد الفطر، وبعد انتهاء المحاضر من الإدلاء بشهاداته طلبت منه أمام الملأ بأن يسمح لي بتصوير الرسالة لدراستها وإطلاع الرأي العام الوطني عليها من خلال دراسة الجوانب الإنسانية فيها، وهي بالنسبة لأي باحث ودارس في التاريخ تعد مرجعا مهما، لكن كم كانت خيبة أملي كبيرة عندما اصطدمت برفض المحاضر تلبية طلبي دون أن يعطيني أدنى تفسير وهو الذي تحدث مطولا عن ضرورة تسليم الوثائق لأنّها ملك للأمّة الجزائرية. هذا مثال من غيره، والمقصود به تعرية مثل هؤلاء وإظهارهم للعامّة، فالمرجّح أنّ بعض الذين يملكون وثائق عن الثورة الجزائرية لا يريدون مشاركة الجزائريين لهم باطلاعهم على فحوى تلك الوثائق أو لأنّ تلك الوثائق قد تكون شهادة إضافية تحسب لأحد الأبطال، وهو أمر يؤرّق مالك الوثيقة وإلا كيف سيمدح نفسه؟ كيف سيتعرّف عليه الغير خاصّة من شباب اليوم الذي لم يشهد أطوار الثورة التحريرية المجيدة؟. إنّ جيل اليوم لا يملك حصانة تاريخية، فهو لا يعرف الشيء الكثير عن ثورتنا المجيدة، لأنّ العديد من المجاهدين الأحياء يزكّون أنفسهم ويتحدثون عن بطولاتهم ويتناسون الحديث عن الثورة تحديدا، فيجدوا أنفسهم في آخر المطاف محلّ انتقادات لاذعة من لدن الشباب، بل هناك من يذهب لحدّ التشكيك بماضيهم الثوري، حتى أضحى الأمر بغاية البساطة والسذاجة دون إعارة صاحبه أدنى احترام، ولكن يجب الإشارة إلى أنّ الشعب قد ملّ الكلام المعسول والافتخار بالمآثر الذاتية وجهل الآخرين، لأنّ الثورة من الشعب وإلى الشعب، ولا يجوز لأحد أن ينقص منها أو يزيد، ولا يحق لأحد استصغار من كان شاهد عيان إبان الثورة التحريرية الكبرى، والمقصود بهم ''المجاهدون''، فكلّ ضحّى على مستوى المسؤولية المنوطة به، سواء كان مجاهدا أو فدائيا أو مسبّلا أو دليلا أو طاهٍ للطعام... الخ، فالهدف واحد وهو تحقيق النصر الأعظم ''الاستقلال''. وإن أراد آباؤنا المجاهدون تجنب سماع ما لا يشتهون فما عليهم سوى التقيّد بالموضوعية في طرح الأمور وسرد الأحداث بعيدا عن تمجيد الذات. فمن تكلم عن نفسه بما يحب.. تكلم الناس عنه بما يكره.