مدخل يعد يوم الخامس من شهر جويلية يوما حاسما في تاريخ الجزائر الحديثة والمعاصرة على حدا سواء؛ فهو اليوم الذي سقطت فيه الراية التي رفعت, ورفعت فيه الراية التي أسقطت، اقصد اليوم الذي فقدت فيه الجزائر استقلالها واليوم الذي استعادته فيه، وإذا كان هذا لم يأت إلا بعد كفاح مرير وسجال كبير بين الجزائر ومن والاها من جهة وفرنسا ومن شايعها من جهة أخري، فان أثاره خطيرة وأبعاده عظيمة ومساراته صعبة، وكما أن التحرش الفرنسي لم يبد اء يوم 05جويلية1830م، فانه لم ينته أيضا يوم 05/جويلية/1962م. إذ صادفت الجزائر المستقلة كثيرا من الصعوبات والعوائق, بعضها كان طبيعيا تولد نتيجة لظروف تاريخية وسسيولوجية كان الاستعمار السبب المباشر فيها، وبعضها الآخر كان مفتعلا تولد عن نزعات تسلطية ونظرات سياسية قاصرة إلا أن المثير للدهشة و الذي زاد في تعقيد الأمر كون الكثير من هذه المشاكل والصعوبات لم تكن ظاهرة للعيان، وبالتالي كان لابد من إيجاد تشخيص دقيق للمسالة، حتى يتمكن من إيجاد طرق لعلاج الأمراض والقضاء على المشاكل إلا أن هناك البعض القلائل من الجزائريين أيضا من آمنوا بهذا الشعب وتراثه ودينه وثقافته وحملوا همه؛ وهم الأمة الكبرى التي ينتمون إليها فقدموا تحليلات، وشخصوا بدقة ما يعانى منه المجتمع ووصفوا له العلاج المطلوب؛ ومن هؤلاء مفكر الجزائر وفيلسوفها الكبير ومنظر الأمة العربية والإسلامية في الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين. ونقصد بذلك مالك بن نبي. فمن هو مالك بن نبي ؟ وكيف نظر لقضايا الجزائر المستقلة ومشاكلها؟ وهل كان يرى في هذه المشاكل خاصية جزائرية وبالتالي فان علاجها يكون جزائريا خالصا أم انظر للمسالة في إطار أعم وضمن تصور اشمل وبالتالي فان الحلول لن تكون إلا وفق هذا التصور؟, وإذا ما كانت هذه القضايا والمشاكل كبيرة فهل هناك إمكانية لتجاوزها، وتوفير إمكانية للإقلاع الحضاري أم أن الأمر أصبح خارج السيطرة؟ هذا ما تناقشه هذه الدراسة مالك بن نبي الإنسان والمفكر يعد الأستاذ مالك بن نبي أ حد مفكري الجزائر بصورة خاصة والعالم الإسلامي بصورة عامة؛ بل ويمكن القول أنه أحد مفكري العالم المعاصر الكبار دون تردد.وهذا بحسب القضايا التي عالجها والتحليلات التي قدمها. وقد زادت في مكانته الأحداث التي عايشها والمؤامرات التي تعرض لها إضافة إلى تكوينه العلمي؛ وثقافته المزدوجة قدرة على التحليل وحضور علمي دائم ومتميز في الخارج قبل الداخل عند إشارتنا إلى أن مالك بن نبي كان مزدوج الثقافة فإننا لا نقصد أن له ثقافة عربية إسلامية وثقافة غربية فرنسية ، فقد صادق في قسنطينة طلبة جمعية العلماء المسلمين كما صادق في باريس أعضاء جمعية الشبان المسيحيين بل وأنه من جهة أخرى صاحب تكوين مزدوج فهو علاوة على كونه مهندسا كهربائيا فانه يمتاز بتكوين فلسفي أيضا ، فضلا على كونه عايش فترتين هامتين في تاريخ الجزائر مما أكسبه بعدا لم يتوفر لكثير من أمثاله. من الجانب الاجتماعي الأسري نجده يتزوج مرتين : الأولى من فرنسية أسلمت وأطلقت على نفسها اسم خديجة تيمنا وتبركا بالسيدة خديجة أم المؤمنين، والثانية جزائرية تزوجها بعد أن طلق خديجة التي لم تستطيع أن تنجب له أطفالا، في حين أنجب من الجزائرية ثلاث بنات هن: رحمة ، نعمة وأخيرا إيمان. ولد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة سنة 1905م؛ من أسرة فجعت بالاستعمار ولم تقبل البقاء تحت سلطته ففرت إلى تونس ثم إلى مكة لتعود للجزائر فيما بعد. يصف مالك بن نبي لحظة الفرار من قسنطينة في كتابه مذكرات شاهد القرن في جزءه الأول المسمي الطفل بقوله:"أن جدتي الحاجة زليخة, ستقصها لي على وجه الخصوص كيف أن أمها؛ الحاجة باية؛ غادرت قسنطينة مع أسرتها يوم دخول الفرنسيين. إن الأسر القسنطينية؛ لم يكن همها بعد احتلال مدينتهم إلا صيانة العرض من المحتلين خصوصا العائلات التي كان بينهن كواعب جميلات فخرجن بهن من ناحية وادي الرمال من تلك الهاوية التي بجنب الجسر المعلق وتشرف على مطاحن كوكى اليوم. فكانت بنات قسنطينة وعائلاتهن يغادرون المدينة من الناحية الرهيبة في اللحظة التي كان يدخل فيها الجيش الفرنسي من الناحية الأخرى، وكانت الحبال التي يتعلق بها أولئك المهاجرون المذعورون تنقطع أحيانا فيقع في الهاوية السحيقة كل من كان متعلقا بها من بنات ونساء وشيوخ. إن جدتي الحاجة باية عاشت هذه الفاجعة، قد ساقها أبوها ذلك اليوم في شوارع مدينة استولى عليها الذعر...وذهبت هكذا جدتي مهاجرة مع أسرتها إلى تونس؛ ثم إلى مكة قبل أن تعود إلى الجزائر وهى متزوجة وأم أولاد. وماتت بعد أن عمرت طويلا ولكن ذكرى المأساة التي عاشتها في شبابها كما لخصتها هنا لم تمت معها..وقد يدرك المرء مفعولها على مخيلة أبناء أحفادها مثلي" (1) دون شك فان مثل هذه المشاهد وغيرها كثير تركت أثار بالغة على مخيلة الكثير من الجزائريين الذين عايشوا مثل هذه المآسي؛ ومالك من هؤلاء, أما عن تعليمه فقد كان مزدوجا ففي الوقت الذي تلقى فيها تعليما في مدارس فرنسية بقسنطينة، تلقى تعليما عربيا إسلاميا في كثير من الأحيان لم يكن منتظما. في كل الأحوال كانت القضية الوطنية ومأساة أمته ووطنه تشغله حتى بعد انتقاله لفرنسا للدراسة؛ كما زادت المؤامرات العديدة التي تعرضت لها أسرته الصغيرة حيث طرد أبوه في أحيان من ممارسة عمله بسب ميولات ابنه الرافضة للأوضاع ومعانات أسرته الكبيرة التي هي الجزائر (2). وقد شغلت باله قضايا العالم الاسلامى بعامة والجزائر بخاصة فأصدر مجموعة من الأعمال تهدف في مجملها إلى بعث نهضة جديدة, وبحسب تواريخ وأماكن صدور هذه الأعمال يمكن تصنيفها على النحو التالي: - كتابات فرنسا: ونقصد بها الأعمال الفكرية التي ظهرت بفرنسا وبطبيعة الحال كتبت بالغة الفرنسية التي كتبت بها في الواقع أغلب أعماله وهى: - الظاهرة القرآنية؛ لبيك؛ شروط النهضة؛ وجهة العالم و الاسلامى؛ الفكرة الإفريقية الآسيوية. -كتابات القاهرة: وهي الكتابات التي أنتجها في القاهرة بمصر منذ سنة 1956 تاريخ لجوئه إليها وقد كتب هذه المرة بعضها بالعربية وترجم البقية إليها -كتابات الجزائر: وهي الأعمال والكتابات التي ظهرت منذسنة1963م تاريخ عودته إلى الجزائر والى غاية وفاته يوم30/10/1971 م بها أيضا؛ والتي عالج فيها بصورة خاصة مشاكل وقضايا الجزائر المستقلة؛ وقد صدر بعضها في البداية في مجلات؛في حين ظهر بعضها الآخر في محاضرات وندوات كان يلقيها سواء أكان ذلك داخل الجزائر أم خارجها وهي: آفاق جزائرية؛ يوميات شاهد القرن؛ مشكلة الأفكار في العلم الإسلامي؛ المسلم في عالم الاقتصاد. أصل المشكلة لكي نكون موضوعيين وغير منحازين؛ يمكننا القول أن هناك محاولات كثيرة وجادة قام بها العديد من المفكرين ورجال الإصلاح, تهدف جميعها إلى اكتشاف سر تخلف الشرق وضعفه وتقدم الغرب وتفوقه, وفي هذا الإطار يمكن أن نشير إلى مجهودات جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده الذي زار الجزائر في زمن مولد مالك بن نبي؛ وقد تجلت أرأوهما في ما نشراه في مجلتهما المسماة العروى الوثقى؛ كما يمكن أن نتحدث عن ما كتبه فيها الأمير شكيب ارسلان في كتابه سر تخلف العرب والمسلمين؛ وفي الهند كتب الندوي كتابه 'ماذا خسر العلم بانحطاط المسلمين. وفي الجزائرالمحتلة أسس بعض المخلصين من أبنائها جمعية أطلق عليها اسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عملت على علاج المجتمع الجزائري من الآفات؛ وحاولت بعثه من جديد. الحقيقة أن دراسة أسباب التخلف هذه لم تقتصر على المسلمين في مشارق ومغارب بلادهم بل شملت الغربيين أيضا رغم أن الكثير منا يعتبرهم سبب التخلف ونتيجة له؛ فهذا ارنست رينان في دراساته عن الرشدية يرى أن التخلف في العالم و الاسلامى بعامة والعربي بخاصة مرتبط بالدين والعرف ؛ فحسب هذا التصور فان الإسلام والعقلية الشرقية التبسيطية السطحية مسؤلان عن التخلف الذي تجاوزته العقلية المسيحية المتنورة الصارمة والدقيقة وبغض النظر عن هذا التفسير الساذج و الخاطئ ؛ فانه يمكن القول أن العديد من هذه التفسيرات يجتنبها الصواب؛ وبالتالي فالاعتماد عليه لن يزد الإشكال إلا بروزا ولن يساهم في التطور وإنما يدفع إلى مزيد من التطاحن. أما مالك بن نبي فينظر للمسألة من زاوية أخرى, فهو قبل أن يعالج يشخص ويرى أن الإقلاع الحضاري لابد أن يمر حتما عبر اقتلاع التخلف. ولكن ماهي أهم القضايا التي اصطدمت بها الجزائر بعيد استقلالها حسب مالك بن نبي؟. إن العودة إلى أهم أعمال بن نبي الجزائرية وخاصة بين الرشاد والتيه,والقضايا الكبرى؛ والمسلم في علم الاقتصاد تكشف عن إجابات دقيقة عن هذا السؤال. والتي يمكننا أن نختار منها مايلي: - المرأة. -تصفية الاستعمار. - الإنسان. المرأة المشكلة والحل من القضايا الاجتماعية التي تصدى لها مالك بن نبي في كتاباته المختلفة،قضية المرأة المسلمة الجزائرية والواقع أن هذه القضية لم تكن جديدة في الجزائر، كما أن إثارتها لم تكن خاصية جزائرية ، وإنما هي قضية عالمية،فقد طرحت في الشرق كما طرحت في الغرب، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن العديد من الباحثين من تصدى لها في المشرق بالبحث وتكونت على اثر ذلك الجمعيات والمنتديات التي تتجاذب القضية بين من يدعون إلى تحريرها من العبودية والاضطهاد والتخلف و بين من يدعون إلى تخليها عن قيمها ومعتقداتها بل ومن انتمائها وحضارتها وإلحاقها بالحضارة الغربية. إذا عدنا لمالك بن نبي نجده يتنبه لمشكلة المرأة هذه قبل الاستقلال ، ليواصل الاهتمام بالقضية بعده،وهذا ما نجده في المقالة التي نشرها في جريدة الجزائر الجمهورية بتاريخ1954/2/26م حيث قال :" إن تطور المجتمع يرتبط فعلا بتطوير المرأة والعكس صحيح، وطبيعة هذا الرباط... تستحق دراسة منهجية" (3). لابد من التأكيد هنا أن مثل هذه الدراسة كما يرى مالك بن نبي لا يجب أن تهتم بالجانب القشري أو السطحي من حياة المرأة في حين أن المشكلة كبيرة لا تنفع معها الدراسات السطحية. ولهذا لابد وأن: نعيد إلى المرأة الكرامة التي وهبها لها الإسلام، عندما أنقذها من عادات الجاهلية القاسية، ولكن فلنعد لها كرامتها لنجعل منها السيدة التي توحي للرجل الشريفة لا الفارسة التي تسيطر عليه (4). يواصل ابن نبي بحثه وتصديه بعد الاستقلال لقضايا المرأة حيث يطرح قضية تكوين حركة نسائية جزائرية مرتبطة بقيم المجتمع وتاريخه حيث يقول: هكذا نجد الثورة قد دفعت الحركة النسائية إلى الأمام، لكنها ما تزال حركة فتية، لها من الشباب حيويته وإقدامه، لكن شبابها قد يعوقها إذا أهملنا شأنها ولم نراقب نباتها كما ينبغي. لابد أن نطرح منذ الآن مشكلة إنباتها حتى لا نغرس جذورها أينما كان وكيفما كان. فهناك أسمدة تعين على إنبات النبات الطيب ، وهناك مزابل لا ينبت فيها إلا النبات العفن....على حركتنا النسائية أن تختار إذن لغرس جذورها، تلك التربة النقية الطاهرة ، التي أنبتت: سمية و لآلة فاطمة نسومر وفضيلة سعدان..... ينبغي أن تطبع حركتنا النسائية بطابعنا لا بطابع ما يصنع في الخارج، وعلى أية حال فالمرأة ليست كائنا يعيش وحده ويطرح مشكلاته على هامش المجتمع، إنها احد قطبيه وقطبه الآخر الرجل... ولا ينبغي لنا أن نتصور قطبا ينفصل عن الآخر، ولو حدث هذا بفرض لا يتصوره العقل، فالمجتمع نفسه يتبخر (5). تصفية الاستعمار يمتاز الأستاذ مالك بن نبي عن غيره من المفكرين بنظريته الشهيرة عن القابلية للاستعمار، حيث يذهب إلى اعتبار الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي بخاصة ولشعوب العالم المتخلف بعامة لم يكن نتيجة لقوة الغرب فحسب ، بل وان تخلف الشرق و تشرذمه منذ فترة زمنية طويلة تمتد إلى فترة ما بعد الموحدين هي التي أدت إلى الاستعمار بصورة خاصة ، وهذا لا يعني تبرير الاستعمار كما يعتقد البعض وإنما يقصد به وضع النقاط على الأحرف :"ونحن نرحب دائما أن نصطلي بنيران المعركة بدلا من أن نفر منها ذلك أن عصر الهروب من المشكلات الواقعية قد غبر، سواء أكان ذلك في المشرق أو المغرب.وتلك علامة صحية، وهي تبشر بخير" (6). وإذا كانت العديد من البلدان المستعمرة قد نالت استقلالها، إلا أن فكرة القابلية مازالت مسيطرة عند الكثير من أبناء المستعمرات بما فيها الجزائر مما يطرح مسألة تصفية الاستعمار من القضايا الهامة والتي لا تتصل بالجانب المادي والبنية التحية والقواعد العسكرية وإنما تتعداه إلى الإرث الثقافي وهو ما يوضحه مالك بن نبي بقوله: " هكذا نرى أنفسنا أمام ضرورة ملحة كثيرا...إلا وهي تصفية الاستعمار في العقول قبل كل شئ... فتصفية الاستعمار من العقول تتطلب أشياء كثيرة يتضمنها مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة، فهي لا تتحقق إذن بمجرد انسحاب جيوش الاستعمار، ومجرد إعلان الاستقلال وتحرير دستور كما هو بالنسبة للتراب الوطني"(7). بسبب ارتباط هذه القضية بمسألة بناء الإنسان الجديد. - مشكلة الإنسان بالنسبة لمفكر مثل مالك بن نبي تكتسي تحليلاته طابعا دقيقا ومميزا فان المعرفة بنفسية الشعوب وطبيعة تركيبها يعطي صاحبها قدرة كبيرة على تحليل الحقائق والكشف عنها؛ ومن ثم تقديم الحلول التي تعالج مشكلاتها. وفي هذا السياق يقدم في كتاباته المختلفة نماذج لهذه التحليلات وخاصة في كتابه المسلم في عالم الاقتصاد الذي يناقش فيه الأسباب الحقيقية وراء نجاح الاقتصادي الألماني الشهير شاخت في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية بعد تسلم هتلر الحكم ؛ وفشل مخططه في اندونيسيا وهو ما يوضحه بقوله :" ولا شك ان فشل مخططه في النهوض باقتصاد أندونسيا كان لم يتوقعه؛ لما التزم فيه من دقة فنية من ناحية ؛ ولما توفر في نظره من وسائل مادية وبشرية كفيلة بتحقيقه؛ في رقعة من الله عليها بأخصب تربة تنبت من كل أنواع الخيرات؛ في مناخ يجعلها تنتج ثمراتها في ثلاثة مواسم؛ وأسكن فيها مئة مليون من العباد يعجب الإنسان من ذكائهم ومن ذوقهم الجمالي المرهف"(8). الجدير بالذكر هنا ان الدكتور شاخت نفسه قدم خبرته للنهوض بالاقتصاد الألماني ونجح هذا المخطط رغم ان ما يوجد عند هؤلاء اقل مما لدى الاندونسيين:" إذ كان المخطط يتطلب من تراب ألمانيا الفقير ومن استعدادات الشعب الألماني في كل شروط النجاح؛ وقد نجح فعلا النجاح الذي خول ألمانيا ان تواجه اقتصاديا بالظروف العسكرية والمدنية أثناء الحرب العالمية الثانية وتصمد فيها"(9). وإذا ماكان البعض تسأل عن سر الفشل حيث كانت إمكانيته من الوجهة النظرية غير مطروحة؛ والنجاح فيها كان النجاح مشكوكا ؛ وهذا دون ان نجد جوابا دقيقا محددا؛ إلا ان ابن نبي يحاول تقديم تفسير مختلف يرجع ذلك إلى اختلاف في طبيعة الإنسان الاندونيسي والألماني. فإذا كان الدكتور شاخت وضع خطته وفق تفكير وتصور مختلف ومنهجية متميزة وأن هذه الخطة جاءت من أعماق هذا المحور الذي يمتد من طوكيو مار بكل من موسكو، برلينروما؛باريس ولندن وصولا إلى واشنطن الواقع شمال خط 35 درجة.وهذا ما يفسر النجاح هنا والفشل هناك ؛ حيث تنتمي اندونيسيا إلى محور جاكرتا طنجة الواقع في جنوب الخط سابق ذكره. بالنسبة لمالك بن نبي لا يملك القدرة على:" ان يغير أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تفتق أبعاده النفسية ؛ وتخلصه من عصر ما بعد الموحدين؛ من خرافاتها؛ من عقدها ومسلماتها الوهمية؛ يجب ان تتضمن النهضة الاقتصادية هذا الجانب التربوي الذي يجعل من الإنسان القيمة الاقتصادية الأولى؛ كوسيلة تتحقق بها خطة التنمية؛ وكنقطة تلاقي تتلقى عندها كل الخطوط الرئيسية في البرامج المعروضة للإنجاح"(10). لم تختلف مشكلة الإنسان في الجزائر عن مثيلاتها في العالم الإسلامي؛ ولهذا نجده يقترح في مقال نشره بمجلة الثورة الإفريقية في ماي1967م؛ ان تقوم الجزائر المستقلة بالعمل على الاهتمام بالإنسان الجزائري بتغير طرق تفكيره التقليدية . لان تحريره من هذه الطرق هو واجب الثورة التي سبق وان حررته من الاستعمار ؛ معتبرا ان لا معنى لتغير لا يمس الإنسان وهو ما يعلنه بقوله:" وبالفعل فالثورة التي لا تحركها هذه تكاد تكون شطحة صوفية فليست بثورة؛ والتغيرات الثورية تصبح حلما من الأحلام إذا لم تقم على هذا الشرط ؛ فتحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى ؛ وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة؛ وتغير العمل. وتعديل النظام الاقتصادي؛ هذه كلها أمور تدخل بطبيعة الحال في نطاق الظاهرة الثورية؛ وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن؛ وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها؛ وقد تستبدل بالحروف اللاتنية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت؛ إلا ان التغيرات هذه جميعها تصبح مجرد سر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه" (11). من هنا نجد مالك بن نبي يؤكد على ان التغير المنشود ليس ذلك الهادف إلى مجرد تحسين ظروف بعض جوانب الحياة لديه كالزيادة في راتبه أو تحسين مستوى معيشته لان هذا لا يتطلب ثورة مثل التي قام بها وكان بإمكانه إذا ماكان هذا هو هدفه القبول بمشاريع فرنسا التي هدفت إلى تحسين بعض جوانب الحياة كما هو الحال بالنسبة لمشروع قسنطينة:"الذي كان يمنيه ويعده الاستجابة لكل ما قد يكون له من رغبات مادية"(12). إذن فالتغير المنشود هو ذلك الذي ينقل الإنسان الجزائري من ذلك الخانع للاستعمار والقابل لوضعه:" ففي هذه الحقبة الطويلة من الزمن كان الإنسان يحتقر نفسه وان يتحلى بصفة الأنديجين كي يتناغم مع وضع استعماري لا شفقة فيه... وكذلك المثقف الجزائري الذي نشرعام1925م كتابا عنوانه يا الله؛ وأردف هذا العنوان بعنوان آخر يفسره أو كيف يأمر الأوربي الأنديجين حتى يطيعه... ولم تكن هذه البضاعة السخيفة ليحتكرها مثقفونا؛ بل نجد هذا النوع من أدب العبودية منتشرا في العالم الثالث... فأينما حل الاستعمار كان يلوث الإنسان؛ حتى أصبحت تصفيته من رواسب الاستعمار؛ أهم عمل ثوري في الثورة"(13). لينتقل إلى إنسان جديد يمتاز بصورة تفرض التقدير والاحترام وهو ما أبرزته ثورة نوفمبر عندما استخدمت لغته الثورة الخاصة بها؛ وبتغير الكلمات تتغير العقول(14). وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة التي اتخذها ابن نبي منطلقا لمنهجه:" ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (15). وهكذا يمكننا القول ان قضايا الجزائر بخاصة والشعوب النامية بعامة كثيرة و متعددة وان كنا اكتفينا بقضيتين أحداهما اجتماعية والأخرى ثقافية فان ما يجب التأكيد عليه بالنسبة لمالك بن نبي في كل ما كتب وعالج هوان لا نأتي بغيرنا ليفكر ويضع حلولا تقنية لمشاكلنا بل لابد من أن نفكر نحن في قضايانا لأنه لا يمكن لغيرنا أن يفهمنا أكثر مما نفهم أنفسنا.