كنت جالسا في مقهى باريس بالدارالبيضاء الذي يقع بالقرب من باب مراكش الشهير وهو يعد من أهم المقاهي في هذه المدينة الجميلة، ولما كان أغلب زبائن المقهى من المترددين عليه بانتظام فإن بعضهم يعرف بعضا، ولهذا يحيي كل واحد غيره من زبائن المقهى، وليس من السهل أن تجد في المقهى مكانا شاغرا وأحسن مكان فيه هو عندما تكون ممتدا بظهرك على الحائط لذلك ترى الزبائن يتسارعون ليجلسوا مستندين بظهورهم على الحائط في حين يجلس آخرون داخل المقهى وخاصة منهم كبار السن وأجمل ما في المقهى بالإضافة إلى موقعه الاستراتيجي عمال المقهى الذين يستخدمون بعض الحركات الايمائية التي تضيف الحيوية والاستمتاع. بعد حوالي نصف ساعة من الجلوس جاءني أحد الشباب وقال لي: الطاولة التي تجلس فيها هي الوحيدة التي فيها كرسيان شاغران لذلك أطلب منك أن تسمح لنا بالجلوس إذا لم يكن ذلك محرجا بالنسبة إليك، فقلت له بالعكس إن ذلك يسعدني وخاصة أنك مرفوقا بإمرأة جميلة جدا. ابتسمت الشابة وبعد قليل لاحظت أنها قد أدارت وجهها نحو الشاب وراحت تحدق فيه وكأنها تعيش معه أيامها الأخيرة، فرفع الشاب يده ووضعها على ذراع الشاب وبعد قليل صوب الشاب نظرة إلى الطاولة وقال يبدو أن هذه صورتك فقلت نعم هذه روايتي الأخيرة التي كتبتها فقالت الشابة وعن ماذا تحكي هذه الرواية قلت لها عن الحب والأمل والإعاقة، فقال الشاب من الغلاف يكتشف الإنسان أنها تحكي على إمرأة تسير على كرسي متحرك وبعد صمت قال لو تعرف حكايتنا لكتبت رواية تروي فيها قصتنا فقالت الشابة إنها قصة محزنة. فقال الشاب سأسرد عليك ملخص حكايتنا لعلها تحزنك وتكتب علينا قصة جميلة وبدأ يسرد الحكاية ''قبل أن أتعرف عليها كانت لي صداقات عديدة من الغجريات، وكنت عندما التقي صديقاتي في المناسبات نتحدث في أمور شتى ومنها النزعة العنصرية التي استفحلت في بعض البلدان الأوروبية وسبل محاربتها، وشيئا فشيئا تعلقت بهذه الغجرية وقد عقدت العزم أن أتزوج منها لأنها بكل بساطة تكافئني في الفكر والرأي وكنت أحلم أن أبني لنفسي أسرة سعيدة يسودها جو التفاهم والحب ودعوت الله في قلبي أن يساعدني على تحقيق رغبتي، لكن عندما فاتحت الأمر مع أهلي رفضوا ذلك كونها غجرية، غير أنني تشبثت بموقفي وبعد مدة التقى أبي بها ونشأت بينهما علاقة مودة وصداقة فتراجع الأب عن موقفه الرافض للزواج وقال لي إنها شابة تستحق التقدير والاحترام وأعتذر لك كوني رفضت زواجك بها، فكان ذلك اليوم من أسعد أيام حياتي. في هذه اللحظة تدخلت الشابة وقالت كنت أعامل أباه معاملة رائعة وأحترمه بشكل مفرط، لهذا وافق على زواجنا وقد تعلق بها أبي أكثر عندما أصبحت تخفف أعباء البيت عن أمي الطاعنة في السن، فهي تساعدها في غسل أواني الطعام بعد الأكل وتنظف البيت لذلك أحبتها أمي فقد وجدت فيها الانسانة المخلصة والصادقة تؤدي عملها بكل تفان. وفي أحد الأيام بينما كنا على طاولة العشاء لاحظت أن أبي في حالة غير طبيعية فاعتقدت أن الأمر يتعلق بارتفاع الضغط الدموي، وبعدما أنهينا الأكل نظر إلينا وفي حالة يرثى لها وقال يؤسفني أن أخبركم بأن الرئيس قرر ترحيل الغجر إلى بلدانهم. بدأ جسمي كله يرتعش، أحسست حينها أن قلبي سيتوقف. لم أستطع أن أستوعب كيف يعيش هؤلاء الغجر في تلك الظروف القاسية في بلادنا وكيف ستكون حالتهم عندما يعودون إلى بلدانهم، أكيد أنها ستكون قاسية أكثر وهذا زاد من ألمي وجعلني أشعر أن حياتي انتهت وخاصة عندما نظرت إلى حبيبتي ودموعها تنهمر، فكانت صدمتي شديدة، لقد ترك هذا اليوم بصمة راسخة في ذهني، أخذ جسدي يرشح بالعرق أدور يمينا وشمالا، كانت عيون أبي تتابعني فشعر أن عليه أن ينقذ الأمر فنهض وقال عندي فكرة ربما تساعدكما على البقاء معنا. هز رأسه وابتسم وقال سأعطيكما مبلغا من المال لتسافرا إلى المغرب والبقاء هناك لبعض الوقت ربما يغير الرئيس ساركوزي رأيه في الموضوع في ظل الانتقادات المحلية والدولية، وربما تجد هناك عملا وتعيش في المغرب في سلام، خاصة وأن لي الكثير من الأصدقاء الفرنسيين هناك ومنهم رجال أعمال، كدت أطير من الفرح فقالت الشابة: هناك لا يلومونك على صحبة غجرية فقال المهم في الوقت الحالي هو البحث عن الأمان هيا نخرج الآن نتنفس خارج المنزل ونعبر عن سعادتنا، فقال الأب لا يمكنكما الخروج فمن المحتمل أن تلقي الشرطة عليها القبض سأخرج وأشتري لكما تذاكر السفر، كانت العجوز تتحدث ببطء على غير عادتها وقد أدهشني ذلك وقلت هناك شيء تخفيه عني يا أمي، فقالت أنا حزينة لما يجري في بلدنا هذه الأيام من الإساءات للمسلمين وتهجير الغجر. إنني أشعر كفرنسية أنني ظلمت هذه المخلوقات التي لا تختلف عنا في شيء. لقد اكتشفت أن ابني يحبك حبا لا يوصف لذلك فإنني مطمئنة على حياتكما، فقالت الشابة أنا كذلك مستعدة أن أموت من أجله إنني أحبه أكثر من نفسي ولم يسبق لي أن أحببت شيئا آخر. في هذه اللحظة دخل أبي وفي يديه تذاكر السفر، أخذت أشعر بالانتشاء، وقال السفر غدا نحو الدارالبيضاء. لم ننم طوال الليل واتجهنا نحو المطار دون نوم ولو لدقيقة، كنت خائفا عندما أخذ الشرطي يتصفح أوراق جوازها وينظر إليها من الحين والآخر ولم أرتح إلا بعد تسليمها جواز السفر. لقد تأثرت كثيرا عندما رأيت أمي تبكي وهي تودعنا وها نحن نعيش في المغرب في سلام تام، فقلت له أتعلم أن الأندلس كان يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود جنبا إلى جنب وهي نموذج حي للتعايش، فقال أعرف هذا ولهذا اخترت بلدا إسلاميا لكي أعيش فيه، إنما يجب أن أجد عملا. ابتسمت الشابة وقالت بصعوبة إن شاء الله، فقلت لها شعرك جميل، هل تعلمي أن كثيرا من الشعراء تحدثوا عن الشعر الغجري، فقال الشاب أعرف أغنية لعبد الحليم حافظ يقول فيها والشعر الغجري، فقلت له إنك تعلم كل شيء عن الغجر، فقال هذا طبيعي. في هذه اللحظة قلت لهما حان وقت الغداء ربما نلتقي مرة ثانية. قال وهل أعجبتك قصتنا، قلت أكيد إنها قصة محزنة وسأكتب عنها مباشرة بعد وصولي إلى الجزائر. انصرفت وأخذت أنظر إلى العاشقين وقلت في نفسي لقد حرم الرئيس ساركوزي هذا الشاب أن يعيش في وطنه وفضل الابتعاد عن البلاد وما فيها حتى يعيش في أحضان حبيبته إنها مفارقة ساركوزي العجيبة الذي اختار كارلا المغنية وعارضة الأزياء والممثلة الإيطالية ومنح لها الجنسية الفرنسية بعد دخولها الإليزي لتبقى إلى جانبه. أما الآخرون ف''باسم الأخوة والحرية والمساواة .. ارحلوا عنا''.