منذ فترة طويلة، قررت الإقلاع عن متابعة صفحات الحوادث في صحافتنا الوطنية، ليس لسبب خطير، ولكن لقناعتي الشخصية بأن مثل هذه الأخبار التي صارت تشكل ثلثي الإعلام الجزائري في مجتمع يبدو أنه ''يتقدم'' للوراء على وزن (اللغة المستعملة في أوساط قابضي الحافلات العمومية)، صارت لكثرتها وتشابهها علينا مثل تشابه البقر على بني إسرائيل دون أدنى أهمية. البارحة، وجدتني على عكس قناعتي مشدودا إلى خبر، نشرته يوميات وطنية من نوع الأخبار التي تملأ صفحات الحوادث، يقول بالمختصر إن قاضي التحقيق لدى محكمة الحراش أمر بإيداع أفراد شبكة خطيرة السجن في انتظار استكمال التحقيق، وأن هذه الشبكة أو العصابة مختصة في النصب والاحتيال وسرقة المركبات الفاخرة، وبيت القصيد في كل هذا أن العصابة تقودها مغنية رايوية أشهر من نار على علم، في حين استعمل بعضهم مصطلح ''فنانة'' بدل مغنية، وفي كل الأحوال لا يهم المصطلح المستعمل، لأن الأمر في الأخير يتعلق بزعيمة عصابة، ونحن هنا نتناول الموضوع من هذا الباب. فنانة أو مغنية أو حتى ''مداحة'' الأمر لا يهم لأن الألقاب أصبحت تباع وتشترى في الأسواق والملاهي الليلية، ومن يملك المال بإمكانه أن يشتري أي لقب يريد، بل ويشتري أي منصب يطمح فيه، لكن الثابت هنا أن زعيمة عصابة السراق التي نتحدث عنها تقدم نفسها ويقدمها الإعلام الوطني حتى الثقيل منه على أنها فرد من الأسرة الفنية، وكلمة ''الأسرة الفنية'' هي مصطلح تعريفي واسع لا يشمل (الغنايين) من أمثال هذه السارقة فقط، بل يمكن أن يمتد ليشمل أسماء ثقيلة في المجتمع، فكاتب الكلمات ''الشاعر'' هو أيضا فنان، والممثل فنان، والرسام التشكيلي فنان، والكاتب فنان، والمثقف بصفة عامة هو فنان، وهنا مكمن الخطر. منذ عشرات السنين كنت وما زلت مقتنعا أن هذا النوع من ''الغنايين''، وأقصد على وجه التحديد من يغنون الراي، بشكله التجاري المبتذل الرائج في أسواقنا، لا علاقة لهم بمصطلح الفن، بل هم أقرب إلى العفن منهم إلى الفن، لأنهم يفسدون بصياحهم الذوق العام ويشنجون الأسماع، ويخربون المجتمع بكلامهم البذيء، ويسيئون إلى القيم العامة، وكنت وما زلت إلى يومنا أعد نفسي من ضمن الفريق الذي يصنف بث أغانيهم في الإذاعات الوطنية من الجرائم التي لا تغتفر.. قبل نحو عشريتين من الآن كان مجتمعنا الجزائري لا يزال يتمتع ببعض القيم الأخلاقية التي نفتقر إلى كثيرها اليوم، وما زلت أذكر جيدا عندما عمد منشط إذاعي شهير في بداية التسعينيات إلى بث موسيقى من نوع الراي ضمن فاصل قصير مدته 51 ثانية فقط، وبعد نهاية فترته التنشيطية وجد نفسه مطلوبا على جناح السرعة أمام مديره الذي أبلغه أن ما قام به يعد ضربا للأخلاق وتجاوزا للأعراف وتجنيا على الذوق العام، بل واستهتارا بالمستمع، وكانت النتيجة أن عوقب المنشط بعد مثوله أمام لجنة التأديب، وتم توقيفه عن العمل لمدة 51 يوما مع إنذاره كتابيا وتدوين العقوبة في ملفه الإداري. نعم، حدث هذا بسبب فاصل موسيقي مدته ربع دقيقة في برنامج إذاعة وطنية، كانت تؤمن أن مجدها ومصداقيتها إنما يتأتيان من احترام الذوق العام للمجتمع واحترام المستمع على اعتبار أنه فرد من مجتمع تسيره منظومة أخلاقية معلومة، أما اليوم فصرنا نرى بأم أعيننا وسائل الإعلام الثقيلة والخفيفة، العمومية والخاصة، تروج لهذه التفاهات التي ننسبها جورا وظلما إلى الفن، ونسمي أصحابها فنانين، مع أن جلهم إن لم أقل كلهم لا علاقة لهم بالفن من بعيد أو من قريب، بعضهم يروج للرذيلة، وبعضهم يدعو للديوثة وكلهم يلتقون في منظومة فاسدة أوجدت نفسها لضرب ما تبقى من قيم وأخلاق في هذا المجتمع، إن لم يكن بالكلمة الهابطة والسلوك المنبوذ في كل الأعراف والتقاليد، فباللصوصية والاحتيال كما فعلت مغنية الراي التي نتحدث عنها هنا.