حظيت بدعوة كريمة من طرف إدارة ''مهرجان الحرير''، لزيارة الجمهورية العربية السورية. كانت الدعوة تشمل نحو مئتي إعلامي من أربعين دولة، يمثلون العرب والعجم، بهدف الترويج الإعلامي للمنتوج السياحي السوري الذي قفز في السنوات الأخيرة إلى هرم اهتمامات الدولة، وصار بمثابة المادة الثقيلة في برامجها التنموية، لاعتبارات قد يطول تفصيلها في هذا المنبر، ولكن يكفي القول إن أبرزها يكمن في كون سورية توصلت إلى قناعة راسخة بأن واجهتها السياحية هي المفتاح الذي يروض أبواب العالم المقفلة أمامها بحديد السياسة. إلى غاية اليوم ما قبل الأخير في برنامج الزيارة، كنت محتارا في ما سأكتبه عن هذه الجولة السياحية.. كل شيء في سورية يستحق التدوين، ومشكلة الكتابة الصحفية دائما تكمن في وفرة المادة الإعلامية وليس في ندرتها.. عندما تتوفر لدينا المادة الإعلامية، نجد أنفسنا أمام حتمية الاختيار والانتقاء، وهنا تضيع منا صفة الحياد التي تعد شرطا في ميثاق المهنة. فكرت في الكتابة عن سحر الطبيعة في سورية وكيف روضها الإنسان لأغراضه، ولكن تراجعت عن الفكرة في الأخير موقنا أن قلمي لن يكون أكثر بلاغة من ملايين الصور التي تبثها الفضائيات يوميا هنا وهناك. فكرت ثانية أن أكتب عن بساطة الإنسان السوري وإيمانه الكبير بوطنه ''أرضا وانتماء وليس شعارا''، وتراجعت عن الفكرة أيضا، لاعتقادي أن موضوع الوطنية كلما كان مقرونا بالدعاية، صار تزلفا ونفاقا.. راودتني أفكار كثيرة، ولكنها ألغت نفسها بنفسها، إلى أن وصلنا إلى آخر محطة في برنامج الزيارة وهي منطقة معلولا. ومعلولا هي قرية صغيرة، تقع في قلب جبال القلمون بنحو خمسين كيلومترا شمال شرق العاصمة دمشق، تستمد شهرتها من أهميتها الدينية والتاريخية، ومن لغة سكانها، إذ تعد المنطقة الوحيدة في العالم التي ما يزال سكانها يتحدثون باللغة الآرامية وهي اللغة الأصلية في الشرق في عهد المسيح عليه السلام. واسم معلولا، يعود إلى الآرامية، ويعني بالعربية ''المدخل''، ويعتقد أن القرية سميت كذلك، لموقعها في مدخل الفج الصخري، كما أنها تتوفر على معالم تاريخية ودينية هامة، أهمها كهوف الإنسان الحجري، بالإضافة إلى ديرين قديمين، هما دير القديسة تقلا، ودير القديس سركيس اللذان يعودان إلى القرنين الثالث والرابع ميلادي، لذلك، تشكل هذه القرية الصغيرة والجميلة قبلة للسياح من شتى بقاع العالم على مدار أيام السنة، خاصة في بداية شهر سبتمبر من كل عام، حيث توافق ليلة الثالث عشر إلى الرابع عشر من كل عام، احتفالا تقليديا ضخما، يترجم ما يعتقدون انه ذكرى العثور على الصليب المقدس من قبل القديسة هيلانة عام 523 ميلادي في مدينة القدس، ويومها انتشر الخبر من القدس إلى القسطنطينية بإشعال النيران على قمم الجبال، ومنها جبال قرية معلولا، ومن يومها يتوافد إليها في هذه الذكرى عشرات الآلاف من أنحاء سورية ولبنان، للاحتفال بإشعال النيران على قمم الجبال من وقت الغروب حتى الصباح. عندما وصلنا إلى معلولا في حدود الواحدة، كان صوت خطيب الجمعة يصل إلى مسامعنا من مسجد صغير، أحيط بعدد كبير من الدير والكنائس تحت صخرة بحجم جبل، ينتصب بقمته مجسم السيدة مريم العذراء، وكان برنامج الزيارة يقضي بأن نتوجه مباشرة إلى دير القديسين ماركوس وباخوس، وعندما توقفت السيارة التي تقلنا بساحة الدير، وجدت زميلي الصحفي ومرافقي في الرحلة سعد طرافي من الإذاعة الوطنية يلقن جماعة السياحة درسا في العقلية الجزائرية، عندما أقسم أن لا ندخل الدير سائحين قبل أن نزور المسجد عابدين. بعد صلاة الجمعة، عدنا إلى فصل السياحة بالدير، وكان القوم على مائدة الغداء بفندق ''سفير'' المجاور للدير، وهنالك واجهنا مشكلا آخرأملاه خوفنا من كون اللحم غير مذبوح، لكن سائقنا الذي أجرته وزارة السياحة، وهو شاب ملم بشؤون السياحة وجد الحل سريعا عندما خاطبنا يقول: يمكنكم اختيار فيش ''سمك'' بدل اللحم، فهو محضر على الطريقة الاسلامية.. ضحكت كثيرا من اقتراح السائح الذي قضيت رفقته خمسة أيام كاملة ولم أكتشف أنه مسيحي، حتى آخر لحظة، لأن سلوكه مع الوفد الجزائري كان أقرب بكثير من سلوك المسلمين، وهنالك فقط عرفت لماذا نجحت السياحة في سورية وفشلت في بلدان أخرى.. عرفت أيضا أن العقل وحسن التدبير هما من أقوى مقومات السياحة والدعاية لها، وليس المعالم الأثرية، فكثير من المدن العالمية تزخر بمعالمها وآثارها، ولكنها مجرد مقابر مهجورة، وفضاءات مفتوحة للغربان.