عادت اسرائيل لتفجر قنبلة من العيار الثقيل، قنبلة ليست كباقي القنابل المعهودة، فلا هي عنقودية ولا هي هدروجينية ولا هي نووية.. إنّها ببساطة قنبلة إنسانية، ضحيتها هذه المرة مواطنون من 40 جنسية، يمثلون شرائح اجتماعية متعددة ببلدانهم. الهمجية الصهنونية طالت الضمير الإنساني واخترقت العهود والمواثيق الدولية، لم تأبه حتى لنداء حلفائها من الغرب والعرب المنافقين، لأنّها ببساطة شديدة كانت تقتل.. نعم، نحن نتحدث عن قتل مع سبق الإصرار والترصد، أو ما يصطلح على تسميته لدى الجهات القانونية والأمنية بالقتل العمدي، قتلت إسرائيل على المباشر أمام أعين العالم برمته، والجميع يتفرج على المشاهد ''الهوليوودية'' التي لم يكن أبطالها سوى أفراد من الكومندوس الصهيوني.. لكن قتلوا من؟ ولماذا؟ إنّها الأسئلة اللغز التي باتت تحيّر بال الصديق قبل العدو، فالهجوم الذي شنّه جيش ''الجهلة المارقين'' طال سفينة السلام التابعة لأسطول الحرية، الذي كان يحمل المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء لأهالي غزة المحاصرين من طرف اليهود الصهاينة واليهود العرب.. قتلت إسرائيل ناشطين دوليين، دعاة السلام حاملي رسالة الأمل لأهالينا في غزة، ومع ذلك لم نلمس من الحكام العرب سوى الشجب والتنديد.. إنّه الصمت المطبق الذي عهدناه من لدن الحكام الموالين لبني صهيون، صمت قابله قتل وحجز، وفي الجهة المقابلة اعتصام وتنديد ومطالبة بفتح الحدود (والمقصود بها طبعا الحدود المصرية والأردنية). ما عسانا نقول أمام هذا الصمت العربي الرهيب، أوصل ''الرخص'' إلى حدّ السكوت أو في أضعف الحالات إلى الكلام الذي يزيد من تعميق جراح العرب والمسلمين، كتلك التفاهات التي نطق بها الفرعون المصري والتي طالب من خلالها إسرائيل بتخفيف ضرباتها، فهذه المرة (حسبه) كانت شديدة، وبهذا ينطبق عليه القول المأثور ''سكت دهرا ونطق كفرا''، إنّ مثال حي عن الخيانة العربية وتواطؤ بعض الحكام العرب منع الكيان الصهيوني، وهذا طبعا ليس بجديد عن الخونة. أسطول الحرية الذي كانت تتقدمه السفن التركية، يحمل اليوم أكثر من دلالة ومغزى حي عن التحولات التي يشهدها عالمنا اليوم وعلى كل الأصعدة، فتركيا أعادت إلى أذهاننا أيام الحكم العثماني، أين كان ''الصدر الأعظم'' وهو الخليفة بالأستانة (الباب العالي) يدافع عن الإسلام والمسلمين بأسطوله البحري القوي، وكان أشباه الحكام العرب آنذاك يحيكون له الدسائس مع حاملي مشعل ''الحملات الصليبية'' وبإيعاز من اليهود، كما أعادت لنا هذه الحادثة صور الخيانة والتخاذل العربي، لتسقط حينها كل الدول العربية الواحدة تلو الأخرى في أيدي المسيحيين والصهاينة.. إنّنا اليوم نبكي على الأطلال ونشيد بما فعله الأجداد أيام الدولة الإسلامية الأولى ونردد قصصهم من على المنابر في خطب الجمعة، لكننا للأسف الشديد ننسى أو نتناسى الفضائل والخصال الكبيرة التي كان يتحلى بها السلف الشريف من عزّة وكرامة وشهامة والذود عن أراضيهم، فإمّا النصر أو الشهادة. أسطول الحرية لم يتعرّض للهجوم الإسرائيلي لأنّه يشكل خطرا على حكومة اليمين المتطرف الذي يقوده السفاح ناتنياهو بقدر ما كان رسالة مختومة بختم الصهاينة واللوبي اليهودي، موجهة للحكام العرب والمسلمين مفادها أنّ مجرد التفكير في كسر الحصار سيدفعهم إلى كسر أنوفهم وأمام العالم بأسره.. رسالة موجهة للعالم الغربي أيضا وعلى وجه الخصوص المنظمات الإنسانية والجمعيات الحقوقية التي تساند القضية الفلسطينية، تدعوهم من خلالها إلى العدول عن نواياهم والابتعاد عن هذا الملف الذي لا يحل طلاسمه سوى بني جلدتهم. لكن ولأول مرة أعتقد أنّ إسرائيل قد اقترفت خطأ جسيما بإقدامها على ضرب أسطول الحرية الذي كان رواده من الأتراك، وهو ما يجعلنا نجزم بأنّ العلاقة الوطيدة التي تربط الحكومة الصهيونية بنظيرتها التركية ستعرف تغيرا جذريا، كما أنّ هذه الحادثة ستلقي بظلالها على الشرق الأوسط برمته، فالتقارب التركي - الإيراني الأخير، سيعطي الملف الشرق أوسطي بعدا آخر ستكون فيه الحكومة الإسرائيلية الخاسر الأكبر. هي إذن مجموعة تداعيات ستغيّر وجه المنطقة إن آجلا أم عاجلا، بما أنّ الأمر قد تعدى الحدود العربية ليرمي بكل ثقله في نهر ''البوسفور'' وهو ما لا تتقبله الحكومة التركية بأي حال من الأحوال، لكن هذا الأمر من جهة أخرى لا ولن يغيّر شيئا في سياسات القادة العرب الذين أصبحوا منذ زمن طويل أسرى أطماعهم وتعنتهم وجبروتهم وجهلهم، لكن التاريخ علّمنا بأنّ دوام الحال من المحال، ومع ذلك لا زلنا نسمع بصوت خافت يأتينا من بعيد يردد: صمتا.. إنّنا نقتل..