علم عمر رضي الله عنه أنَّ الخلافة أمانة لا استعلاء، وتكليف لا تشريف، وغُرْمٌ لا غُنْم، فقام يمشي في الأسواق بلا مواكب ولا مراكب، يطوف الطرقات يقضي حاجات الناس ويقضي بينهم، يَخْلُفُ الغزاة في أهلهم، يتفقد أحوال رعيته، همُّهم همُّه، وحزنهم حزنه، لينٌ، قوي، حازم، رحيم، راعٍ أمين، يقول تحت وطأة المسئولية كما روى مجاهد عن عبد الله بن عمر يقول: لو مات جَدْيٌ بطرف الفرات لخشيتُ أن يحاسب الله به عمر يوم القيامة. وفي رواية: لو عثرت دابة بضفاف دجلة لخشيتُ أن يسألني الله عنها لِمَ لمْ تُمهِّد لها الطريقَ يا عمر؟ يا لله؛ كلمات تدعو للتأمل في شخصية ذلك الرجل الذي ضربت به الأمثال في العدل والزُّهد والحرص على رعاية الأمة بالليل والنهار. فلا عبقري يفري فريه في ذلك العهد وفي ذلك الزمن. ويذكر المؤرخون أن حمامة باضت في فسطاط عمرو بن العاص والي مصر آنذاك، فلما عزم على الرحيل أمر عماله أن يخلعوا الفسطاط، فلفت أنظارهم عُش حمامة فيه بيض لم يفرخ بعد، فلم يُزْعِجُوا الحمامة، ولم ينتهكوا حرمة جوارها، بل أوقفوا العمل، وذهبوا إلى عمرو رضي الله عنه يعرضون عليه الأمر، ويأخذون رأيه فيها، فقال: لا تُزْعِجُوا طائرًا نزل بجوارنا، وحلَّ آمنًا في رحالنا، أجِّلُوا العمل حتى تَفْرُخَ وتطير. فيا للعظمة ويا للرحمة؛ حتى الطير ينعم في ظل الأمن والعدل! مع العدول رضوان الله عليهم، إن المسلم وهو يستعرض مثل هذه المواقف ليأسى ويحزن يوم يصبح المسلم في عالمنا الإسلامي يتمنى أن يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به الحيوان والطير، في زمن عمرو، وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما، فهنيئًا ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك المجمع وذلك الجيل، الذي عمَّ عدله الطير والحيوان.وكان عمر رضي الله عنه يرى مسئوليته عن كل فرد في سربه، وأيِّمًا في بيتها ورضيع في مهده، هو القائل: ما مثلي ومثل هؤلاء إلا كقومٍ سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر منها بشيء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين، قال: فكذلك مَثَلِي ومَثَلُكُم. وفي عام الرَّمادة؛ وهو عام شديد القحط والجدب، ما قُدمت له لقمة طيبة فأكلها، بل كان يؤثر بها الفقراء والمساكين، ويوم زار الشام جِيء له بطعامٍ طيب فنظر إليه وقال: يا لله! كل هذا لنا، وقد مات إخواننا لم يشبعوا من خبز الشعير؟! والله لا أطعمه.يتغير لونه في عام الرمادة من أبيض حتى يصبح مسودًّا من شدة الهمِّ بأمر المسلمين، يأكل الخبز بالزيت، ويمسح بطنه ويقول كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح: والله لتمرننَّ أيها البطن على الخبز والزيت مادام السمن يباع بالأسواق، والله لا تشبع حتى يحيى الناس. لقد عجزت نساء الأرض أن يُنْجِبْنَّ مثلك يا عمر. يقول أسلم: كان يقوم يصلي من الليل، فيذكر ما حلَّ بالمسلمين فلا يدري ماذا يصلي، يقول: إني لأفتتح السورة فما أدري أنا في أولها أم في آخرها، لما أعلم مما يلاقي المسلمون من الشدة. وحدث الواقدي قال: حدثنا هشام عن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كان عام الرَمَادَة جاءت وفود العرب من كل ناحية فقدموا المدينة، فأمر عمر رجالا يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلة من الليالي: أحصوا من يتعشى عندنا، فأحصوهم في القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل، أما المرضى والعيال الذين لا يحضرون تلك المائدة فقد بلغوا أربعين ألفًا، فكان يرسل إليهم عشاءهم في بيوتهم. فما برحوا حتى أرسل الله السماء. فوكل عمر بهم من يخرجهم إلى البادية ويعطيهم قوتًا، وحملانًا، ومتاعًا، وكان قد وقع الموت فيهم فأراه قد مات ثلثاهم، وقد كانت قدور عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم لها العمال من وقت السحر ليعملون الطعام، ونفذ ما في بيت المال، فلم يبق منه قليل ولا كثير. يروي ابن كثير في تاريخه: أن عمر عس ذات ليلة في ذلك العام، وقد بلغ بالناس الجهد كل مبلغ فلم يسمع أحدًا يضحك، ولم يسمع متحدثًا في منزله كالعادة، ولم يرَ سائلا يسأل، فتعجب وسأل فقيل: يا أمير المؤمنين قد سألوا فلم يجدوا فقطعوا السؤال؛ فهم في همٍّ وضيق، لا يتحدثون ولا يضحكون، ولا يمزحون. فيا لله ماذا يفعل عمر؟ قد نفد كل ما في بيت المال، فألزم نفسه ألا يأكل سمينًا؛ فكان يبث له في الخل بالزيت حتى اسودَّ لونه، وتغير جسمه، وخشي عليه خشية عظيمة رضي الله عنه وأرضاه، وتبلغ الأمور ذروتها، وحينها يلجأ مضطرًا إلى الله عالمًا علم يقين أن رفع البلاء بالتوبة والاستغفار، لا بفصاحة المتشدقين، وتصدي المتبجحين، فعن أبي وِجْزة السعدي عن أبيه قال: رأيت عمر خرج بنا يوم الرمادة إلى المصلى يستسقي فكان أكثر دعائه الاستغفار حتى قلت: لا يزيد عليه، ثم دعا الله وأوصى الناس بتقوى الله عز وجل فقال: اتقوا الله في أنفسكم، وما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السَّخطة عليّ دونكم أو عليكم دوني، أو قد عمَّتكم وعمتني، فهلمُّوا فلندعُ الله أن يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا البلاء، فرُئِيَ يومها رافعًا يديه يدعو الله ويبكي، والناس يدعون وراءه ويبكون، ثم نزل فلم يزلْ هذا شأنه حتى جاءت الرحمة من الله، وأذن الله للناس بالغُياث والفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، فله الحمد أولا وآخر، وظاهرًا وباطنًا.