عندما اندفعت الجيوش العثمانية جنوبا وغربا منتشية بانتصارها على إمبراطورية بيزنطة، عجز المسلمون قبلها عن إخراجها من معادلة القوى المتحكمة في العلاقات بين قوى الشرق الكبرى آنذاك، كانت أمام هذه الجيوش أقاليم وأوطان تمتد عبر آسيا وأفريقيا يحكمها رؤساء عشائر يلقبون أنفسهم بالأمراء أو مماليك يتوجون أنفسهم سلاطين وليس بين الواحد منهم والآخر أي نوع من التضامن، بل كان كل واحد منهم يتآمر على جاره خوفا على حوزته من الأرض والحيوان والمخلوقات البشرية. هذا إلى جانب كونهم طغاة ضعفاء تكرههم الجماعات الواقعة تحت نير عسفهم وتتطلع إلى الخلاص منهم على يد أي غاز تعتقد أنه أرحم منهم، فكانت المنطقة في حالة تجعلها "غنيمة لمن غنم" ومشروعا استعماريا منتظرا لأوروبا الناهضة المتوثبة خلف البحار والمحيطات والتي بدأت في قضم بعض أطراف شمال أفريقيا فأخذ أهل هذه المناطق يستصرخون العثمانيين المسلمين الأقوياء لنجدتهم. لعل كل هذه المعطيات هي التي جعلت الجيوش العثمانية تنطلق إلى الجنوب الغربي متحاشية الصدام مع الدولة الصفوية مرة أخرى بعد معركة جالديران لا لأنها شيعية، بل لأن الصدام معها مجرد تكلفة زائدة سواء كلل بالانتصار أو بالتعادل، ولم يكن مجديا بالنسبة للمشروع الإمبراطوري العثماني. فالدولة الصفوية قوة إقليمية متمحورة على ذاتها ولم تظهر أية طموحات ولا نوايا تنافسية مع العثمانيين تجاه المنطقة التي ينوون ضمها لمشروعهم الإمبراطوري الإسلامي. تمددت الإمبراطورية العثمانية في كل اتجاه وضمت كثيرا من الأقاليم التي يدين أهلها بالنصرانية واليهودية بينما حافظت على حدود شبه ثابتة مع الدولة الصفوية فظلت العلاقة بين الجارتين مبنية على الحذر وعدم وجود أطماع متبادلة لعدة أحقاب إلى أن أصبحت كل من إيران وتركيا جزءا من الإستراتيجية الغربية، ولم يعد بإمكان أي منهما أن ينتهج سياسة خارجية تجاه الآخر أو تجاه المنطقة المحيطة به بمعزل عن إملاءات هذه الإستراتيجية، غير أن سقوط نظام القطبية الثنائية الدولي وسقوط النظام السياسي في إيران كانا بمثابة المتغيرين المستقلين اللذين أثرا في السياسة الخارجية لكلا البلدين. رغم اختلاف هذين المتغيرين فإنه تمخض عنهما هدف مشترك بين تركيا وإيران، فساعد ذلك على بروز حراك سياسي ودبلوماسي كل منهما في حاجة إليه. تمثل هذا الهدف المشترك في رغبة كل منهما في إعادة النظر في موقعها وفي علاقتها بالإستراتيجية الغربية في المنطقة. بالنسبة إلى تركيا فمنذ انهيار نظام القطبية الثنائية الدولي، أخذت تسعى إلى التغيير التدريجي لعلاقاتها التي ربطتها لعدة عقود بالغرب والتي لم تكن فيها سوى العربة الخلفية في قطار حلف شمال الأطلسي. أما بالنسبة لإيران فإن المتغير الداخلي كان مصحوبا برؤية إيديولوجية لا تدعو فقط إلى التغيير التدريجي بل إلى التمرد على أشكال العلاقة التي ربطتها في السابق بإستراتيجية الغرب في المنطقة. أدت هذه الرؤية المشتركة لعلاقة كل منهما بإستراتيجية الغرب إلى تقارب بينهما لم تشهد العلاقات بين الطرفين مثله من قبل، إلا أن هذا التقارب ليس من المؤكد أن يتطور إلى تحالف حقيقي في مواجهة الغرب، لأن السبب الذي دفعهما إلى التقارب قد يصبح في ظل متغيرات أخرى –غير مستبعدة- هو الدافع إلى بعد إحداهما عن الأخرى، وذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق بطبيعة علاقة كل منهما بالغرب، وبعضها يتصل بالهدف الذي تسعى كل منهما لتحقيقه من وراء هذا التقارب، وبعضها وثيق الصلة بعلاقة كل منهما بالمنطقة المحيطة به. لعل أول الأسباب التي تجعل التقارب بين الدولتين مفتوحا على كل الاحتمالات هو حدود المصلحة التي تسعى كل منهما لتحقيقها من خلال هذا التقارب، فلاشك أن هناك اختلافا بين حدود وحجم المصلحة التركية في التقارب وبين حجم وحدود المصلحة الإيرانية، فتركيا تبدو متريثة وتسعى خطوة خطوة بادئة بتحقيق المصالح الأكثر تواضعا والتي لا تمثل استفزازا لإستراتيجية الغرب في المنطقة. فدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يعد مصلحة حيوية بالنسبة إليها ترى من حقها السعي لتحقيقها بعدة وسائل بما في ذلك التقارب مع إيران وهذا قد يعد نوعا من الاستفزاز بالنسبة للغرب ولكنه ليس تحديا، لأن العبرة بالهدف المراد تحصيله لا بالوسيلة التي يمكن التخلي عنها عند بلوغ الهدف، والغرب يدرك هذا الفرق جيدا ويتفهم في نهاية الأمر هذا السلوك التركي, وكذلك الأمر بالنسبة لمصلحة تركيا في أن تكون لاعبا إقليميا أصيلا وليس مجرد وكيل وذلك في إطار المبادئ والأسس التي تقوم عليها إستراتيجية الغرب. بينما تبدو إيران من خلال إيديولوجيتها الإسلامية وخطابها الرسمي وسياستها الخارجية المعلنة، تسعى إلى تحقيق مصالح تراها شرعية بصرف النظر عن درجة خطورة اصطدامها بإستراتيجية الغرب، فإصرار إيران على إنجاز برنامجها النووي السلمي بشروط ومواصفات ترضى هي عنها، لا يعد مجرد احتكاك بإستراتيجية الغرب بل تحديا لثوابتها، لأن هذا الأخير يعتبر البرنامج النووي الإيراني مهما كان سلميا هو أقصر الطرق لبروز دولة نووية عسكريا في منطقة تقتضي ثوابت هذه الإستراتيجية أن تكون تابعة ومنزوعة السلاح. كما أن إيديولوجيا إيران الإسلامية وخطابها الرسمي وبعض أفعالها، كلها تتبنى جملة من القضايا التي يعتبرها الغرب من المحرمات فموقف إيران المعلن من إسرائيل يصل إلى حد عدم الاعتراف بشرعية وجودها ومؤازرة من يقاومونها بالسلاح، وهذا موقف يختلف قطعا عن الموقف التركي الذي يهدد إسرائيل بالشرعية الدولية التي يتحكم في قواعد لعبتها الغرب الحليف الإستراتيجي لإسرائيل. هذا الموقف من جانب إيران يعد في نظر الغرب تجاوزا لخطوط حُمْر سبق لقوى الغرب الكبرى أن أنزلت جبروت عقابها على من حاولوا التلويح فقط بالاقتراب منها. إن الفارق في حجم ونوعية المصالح التي ينوي كل طرف تحقيقها من وراء تقاربه مع الآخر يجعل هذا التقارب عرضة للافتراق ولاسيما من الجانب التركي الذي لا يقتضي تحقيق مصالحه المتواضعة مرحليا، الذهاب إلى التحالف مع طرف كل مصالحه المعلنة تقود إلى التناطح مع الغرب. ليس حجم المصالح ودرجة تناقضها مع إستراتيجية الغرب القانون الوحيد الذي يحكم مسألة التقارب والافتراق التركي الإيراني، بل أيضا علاقات كل منهما بالغرب وبالمنطقة التي حولهما تعد من العوامل المؤثرة في هذه المسألة، فتركيا تعد آخر إمبراطورية إسلامية نازلت الغرب على اقتسام السيادة العالمية وبالتالي فإن طبيعة علاقتها وخبرتها بالغرب تختلف عن كل دول المنطقة بما في ذلك إيران، التي لم تعرف الغرب الحديث إلا مستعمرًا لها. فهذا الإرث من الصراعات والتحالفات مع الغرب ربط تركيا بعدد من المصالح والتفاهمات لا يرقى إليه إرث العلاقة الإيرانيةالغربية الحافلة بالمرارات والإذلال كحال بقية شعوب المنطقة، وهذا الفرق يرجح كفة تركيا حسب منطق الغرب، باعتبارها قوة إقليمية يمكن الوثوق بها وتقديم بعض التنازلات لها لمنع ظهور قوة أخرى تحمل رسالة إيديولوجية وتسعى إلى تقويض قواعد الإستراتيجية الغربية في المنطقة. إن إمكانية تقديم تنازلات إلى تركيا ومنحها بعض الأدوار في المنطقة يضع التقارب الإيراني التركي في محك صعب ويرجح احتمال الاختلاف والافتراق. لا شك أن علاقة القوتين الإقليميتين بالمنطقة العربية بالذات تلعب دورا في التباعد بينهما أكثر من التقارب، فالمنطقة تعتبر الجزء الأكبر من مسرح أفعالهما وردود أفعالهما وكل منهما تطمح إلى دور القيادة فيها، فعلاقات إيران متشابكة ومتشعبة مع كل قضايا المنطقة ولا تستطيع أن تعزل نفسها بحكم إيديولوجيتها الإسلامية التي تتبناها وبحكم موقعها الجغرافي والإرث المشترك، وبحكم طموحاتها وصراعاتها مع الغرب، كما أن تركيا أيضا تستطيع أن تجد مدخلا إسلاميا إلى كل قضايا المنطقة إلى جانب علاقاتها التاريخية والجغرافية مما يزيد في قدرتها على محاورة الغرب من موقع القوي وليس من موقع الرجل المريض الذي ما انفك يستند على الكتف الأوروبية منذ بداية القرن التاسع عشر. في مقابل كل ذلك تبدو علاقات المنطقة العربية مع الخارج لا تمليها المصالح الوطنية ولا إرادة شعوبها، بل محصورة ومقصورة على خدمة حكام مهمومين بالمحافظة على سلطانهم وتثبيت سلالاتهم ومواريثهم، مما يجعلهم متوجسين من ظهور أية قوة على تخوم إقطاعياتهم، ولاسيما إذا كانت لها روابط ثقافية أو دينية مع محكوميهم مثلما هو الحال مع إيران وتركيا. غير أن هذه الأخيرة تمتاز في نظر هؤلاء بأن أطروحاتها ومقارباتها لا تثير حتى الآن شكوكهم وريبتهم، عدا مشاحناتها الدبلوماسية المحسوبة مع إسرائيل والتي تسبب لهم حرجا في بعض الأحيان، ولكنها تظل مقبولة لديهم مقارنة بالأطروحات الإيرانية المحرضة على الإستراتيجية الغربية التي يرون في ثباتها ورسوخها شرطا لازما لاستقرار الأوضاع التي تؤمن بقاء إقطاعياتهم واستمرارهم حكّامًا لها، لهذا فإن هؤلاء يجدون في تركيا مرحليا قوة إقليمية لا تزال حليفة للغرب ويمكن إغراؤها اقتصاديا وماليا في مقابل تحريضها واستعدائها على إيران وليس على إسرائيل. لاشك أن مثل هذا الإغراء الذي يكون في الغالب مدعوما بتشجيع من الغرب، لا يصب في قناة التقارب الإيراني التركي. ومع ذلك فإن المحافظة على هذا التقارب في هذه المرحلة يصب في مصلحة الطرفين، فتركيا تجد في التقارب مع إيران ورقة ضغط قوية وأكثر مصداقية على مائدة مفاوضاتها مع الغرب بينما لا يشكل تحالفها مع الحكام العرب ورقة ضغط يعتد بها في مواجهة الغرب الذي يستطيع في كل لحظة أن يأمرهم فيطيعوه بقطع كل تعاملاتهم الاقتصادية والمالية مع تركيا، بل ويتآمرون معه عليها إذا ما اقتضت مصالح الغرب ذلك. أما إيران فلعل أقصى ما كانت تتمناه من تركيا هو وقوفها على الحياد وعدم انجرارها إلى حملة العداء الغربي، فما بالك إذا وصل الأمر إلى أن تتقارب معها وتعلن عن تفهمها للمطالب الإيرانية، فمن مصلحة إيران أن تحافظ بأقصى ما تستطيع على هذا التقارب مع قوة إقليمية جارة بمكانة وهيبة تركيا في وقت تتكتل فيه قوى الغرب ضد إيران ولا يستبعد استخدام القوة ضدها، بينما يقف معظم جيرانها من الحكام العرب على أهبة الاستعداد للمشاركة بأجوائهم ومياههم وأراضيهم ودولاراتهم في أية حرب يشنها عليها الغرب أو إسرائيل.