يتوجه حوالي أربعة ملايين سوداني من مواطني الجنوب اليوم إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء الأول من نوعه حول تقرير مصير جنوب السودان. مواطنو الجنوب السوداني اليوم في موعد تاريخي مع الاستفتاء ابتداء من الساعة الثامنة صباحا من الشهر الجاري على أن تتواصل عمليات الاقتراع لمدة أسبوع بسبب صعوبة المسالك في الولايات العشر التي يتألف منها الجنوب السوداني. وحسب ما أبرزته المؤشرات والأحداث المتلاحقة، فأن السودان يمر في الوقت الراهن بمرحلة مخاض تكتنفه صعاب جمّة على الصعيد الداخلي، والإقليمي والدولي. إلا أنه اليوم على موعد مع انتخابات مصيرية وحاسمة من شأنها أن تغير الخريطة السياسية للسودان إذ ستعيد هذه العملية الانتخابية تركيب البنية السياسية للسودان بأكمله. نظرة تاريخية وجغرافية على إقليم السودان لا يشبه السودان أي دولة عربية أخرى على مستويات كثيرة، فعلى المستوى الجغرافي، يمتد هذا البلد على مساحة 2.5 مليون كيلومتر مربّع، وهو أكبر بلد عربي وإفريقي، وتحدّه تسع دول بما فيها إثيوبيا، منبع نهر النيل الأزرق الحيوي الذي يلتقي مع النيل الأبيض في السودان ويوفّر مياه الشرب لثلث سكان العالم العربي في طريقه إلى المتوسط. ولقد أعيت مظاهر الانقسام القطر السوداني، ما بين الجنوب، ودارفور المُتأهب للانقسام، والشرق الذي ربما تتَّقد نيرانه مرة أخرى، في أي آن . والجنوب المتمرد من السودان هو الجزء الجنوبي، والذي تم توحيده رسميًا معها، في عام 1917، باتت جوبا كبرى مدن الجنوب، تبعتها مدينة واو، وملكال، ورومبيك، وأويل، وياي. وسيشكّل هذا الاستفتاء حجر أساس لاتفاق معاهدة سلام تاريخية كانت قد وُقّعت في نيروبي بين الأغلبية المسلمة الحاكمة في الشمال والمتمردين الذين ينتمون إلى الأقلية المسيحية في الجنوب، ما وضع حداً لصراع دموي دام عقدين من الزمن وأودى بحياة أكثر من 1.5 مليون شخص. إذ سيصوّت سكان الجنوب المستقل على البقاء ضمن بلد السودان أو الانفصال عنه وإقامة دولة مستقلة. وحسب المقدمات والمؤشرات فإنها تشير إلى أن أغلب مواطني الجنوب سيدعمون -بلا تحفّظ- انفصال جنوب السودان كدولة مستقلة عن شماله وهذا ليس بالأمر اليسير إذ أن خروج نتائج الاقتراع على لا وحدة أو بالأحرى الانفصال لربما ستكون بداية ثورة جديدة أم ستكون حقا وحدة سلام فالجنوب هو أكثر المناطق السودانية حيوية على الرغم من إهماله، لذا فأنه من الصعب أن تسمح حكومة السودان الحالية بانفصال الجنوب كدولة مستقلة، حتى وإن صوّت أغلب سكانه لصالح الانفصال. فجنوب السودان ليس مجرد قطعة أرض لا تُذكر، فهو أكبر مساحة من فرنسا، وبه جميع موارد السودان النفطية، ولكنه مقارنة بشمال السودان، سنجد أن الشمال أكثر تقدّما، كما أن عاصمته الخرطوم هي مدينة بالمعنى الحقيقي مقارنة بنظيرتها في الجنوب "جوبا". الولاياتالمتحدة تؤيد الانفصال وأمام تداعيات القضية إلا أن الجنوب السوداني يتفاءل بنتائج ايجابية لصالحه بتأييد الولاياتالمتحدة لقرار الانفصال إذ وعدت هذه الأخيرة الرئيس البشير بشطب السودان من قائمة الدول الإرهابية ، حيث إن السودان مدرج بهذه القائمة منذ 17 عاما...لكن بشرط الالتزام بما سيقضي به استفتاء التاسع جانفي. الاستفتاء... مواطنو الجنوب السوداني سيغير خارطة السودان من بين بنود الاستفتاء أن تبلغ نسبة المشاركة 60 % من الناخبين كي يصبح نافذا. وحسب آخر الأخبار فقد بلغت نسبة الذين سجلوا أنفسهم للتصويت حوالي أربعة ملايين شخص، أكثر من 95% منهم في جنوب السودان. ورغم كل ما تناقلته تصريحات السياسيين، وتعليقات وسائل الإعلام من اتهامات بالتزوير، وأحاديث عن الخروقات، وأخطاء فنية وإجرائية صاحبت البدايات الفعلية لعملية التصويت، إلا أنها -أي هذه الانتخابات- تمثل نقلة سياسية نوعية في تاريخ السودان، خاصة بعد أن شهدت البلاد وقفًا للحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، ورتبت صراعات الإقليم الشرقي، وتتصل المساعي لإيجاد حل عادل للأزمة في دارفور. فالمستقبل بالنسبة لهاتين القضيتين واعد مثلما هو غامض إلى حد كبير. وتدل المؤشرات والأحداث المتلاحقة، أن السودان يمر في الوقت الراهن بمرحلة مخاض تكتنفه صعاب جمّة على الصعيد الداخلي، والإقليمي والدولي. ومما لاشك فيه أن النخبة السياسية الحاكمة في الخرطوم، تُدرك تمامًا أنها في وضع سياسي حرج لا تُحسد عليه مطلقًا، رغم مظاهر الفرح بالفوز الكبير؛ فما التردد والمقاطعة والانسحاب الذي طبع مواقف الأحزاب السياسية، والتشكيك الكبير الذي شاب العملية الانتخابية من جهة، والتصريحات المتناقضة لرموز النظام باستيعاب الآخرين في العملية السياسية من عدمه، إلا دليل على هذا الإدراك لحجم التحديات والصعوبات، يعكس مدى الحيرة حول مستقبل هاتين القضيتين بالذات، والمشاركة السياسية برمتها. وفي ظلّ التطورات السياسية التي ستحقق بعد الانتخابات، والأخبار المتلاحقة حول ما ستكون عليه سياسة الحكومة الجديدة في الأعوام المقبلة، وما سوف تشهده علاقة الشمال والجنوب – مع التوحيد أو بالانفصال- من تقلّبات قد تبدو في أحيان مثيرة وفي أخرى خطيرة، وما يحتمل أن تنتهي إليه قضية دارفور في ظل التحولات الجديدة للمشهد السياسي، يتساءل المرء إن كان في المستقبل ما يُطمئن على واقع أفضل، وهل يمكننا -استنادًا إلى المقدمات- أن نتوصَّل إلى وضعِ تصوّر، يكون قريبًا من الواقع لما سوف يكون عليه مستقبل هاتين القضيتين؟ ويمكن أن نستند في استنتاجاتنا المستقبليّة إلى مؤشرات نستخلصها من معاينة التصريحات المعلنة، ونحاول أن نبني عليها أحكاما قد تصحّ، وقد تتغيّر بتغيّر تلك المؤشرات. وما الاستفتاء إلا لحظة إجرائية لتدشين الدولة الجديدة في جنوب السودان؛ لأن العملية الانتخابية برمتها عززت أزمة الثقة المستفحلة أصلاً بين الشمال والجنوب، ليبقي الانفصال هو الاحتمال (الخيار) المحتوم. رغم أن الرئيس السوداني المنتخب عمر حسن أحمد البشير كان قد أعرب -في أكثر من مناسبة خلال الفترة الأخيرة- عن إقراره بما يتراضى عليه الجنوبيون في الاستفتاء ، وعن التوجه نحو تبني نهج تصالحي، وأكثر مرونة في تعامله مع الجنوب. هذا، مع إصراره -الذي صرَّح به قبل الانتخابات- على أنه يريد للسودان أن يظل موحدًا، مؤكدًا أنه في حال ما إذا قرر الجنوبيون الانفصال، فإنه سيكون أول من يعترف باستقلال الدولة الجارة الجديدة. تداعيات ما تتمخض عنه نتائج الاستفتاء ومثلما تبدو مواقف القوى السياسية السودانية متباينة حول ما يمكن أن تتمخض عنه نتيجة الاستفتاء، تتأرجح نظرة الموقف الغربي من قضية الوحدة والانفصال؛ ففي حين يرى البعض أن مصالح الغرب تقتضي بقاء السودان موحدًا لاعتبارات محلية وإقليمية عديدة، تتعلق أولاها بسعي الغرب لإيجاد حكومة موالية في بلد بسعة السودان تتهدده مخاطر الانهيار. ويتخوف ثانيها من احتمالات عدم استقرار دولتي الشمال والجنوب -في حال الانفصال- وما يمكن أن يفرزه ذلك من تداعيات لا تحمد عقباها، وليس في مقدور أحد السيطرة عليها، وستتعدى حدود السودان إلى جواره. وهذه نظرة قد لا يتفق معها المتعجلون لفصل جنوب السودان في الغرب، والذين يبررون مواقفهم بأن تجربة (الخرطوم) و(جوبا) السابقة غير مشجعة على الاستمرار في الشراكة بينهما؛ ولهذا، يعملون على دفع المواقف الأميركية لتبني فصل الجنوب رغمًا عن الرغبة الداخلية في الوحدة، ورغما عن التخوف الإفريقي من انفراط عقد السودان، والتداعيات الخطيرة المترتبة على هذه الخطوة، وفي مقدمتها تهديد دول الجوار باحتمالات التفتت والانقسام. إن كل الاحتمالات تتبدى بشكل أكثر وضوحًا بعد الانتخابات عمّا كان قبلها، ومثلما تُرجح الانفصال مؤشرات قوية، تبقى للوحدة أسبابها الموضوعية، التي هي في مصلحة جميع الأطراف. وقد يكون في وعد حزب المؤتمر الوطني الداعي لإيجاد صيغة جديدة للحكم تكون أكثر توازنًا وعدالة، وما يتطلبه ذلك من توسيع لقاعدة الحكومة المقبلة لتشمل أغلب ألوان الطيف السياسي -وما يقتضيه ذلك من تراض وتوافق وطني، يعلى الاهتمام بالمستقبل، ويتكاتف لرسم أبعاد المشروع الوطني، ووضع إستراتيجية واضحة المعالم لإنجاز مهام الخروج من أزمات الاختناق السياسي، وتجنب مأزق الانفصال، بإعلاء كل ميزات الوحدة الحافظة لأصل العلاقة بين الجنوب والشمال- قد يكون في ذلك الوعد سبيل للمساعدة في إتمام الوحدة. وبالنظر إلى المواقف التي صدرت عن الحركتين الرئيسيتين؛ فقد أكدت حركة العدل والمساواة وحركة التحرير والعدالة مسبقًا موقفهما الرافض لإجراء الانتخابات حسب الموعد المقرر، لاعتقادهما بأن إجراء انتخابات حرة ونزيهة ضرورة حتمية لحل أزمة الحكم في السودان، لكنهما ربطتا ذلك بتحقيق السلام العادل والشامل في كافة أرجاء البلاد، وعودة اللاجئين والنازحين طوعًا إلي مناطقهم الأصلية، وتعويضهم. وتشترك الحركتان مع بقية القوى السياسية السودانية في المطالبة بإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات، ووضع قوانين جديدة تنظم العملية الانتخابية، بما في ذلك قانون الصحافة والمطبوعات، وقانون الأمن، وإعادة إجراء الإحصاء السكاني في كافة أنحاء السودان، وإعادة توزيع الدوائر الانتخابية، أو استيعاب المستوطنات الجديدة في دارفور كدوائر انتخابية. وفي نهاية هذه القراءة، يمكن القول باطمئنان: إن الأيام القادمة تحمل كثيرًا من التطورات، التي يمكن وصفها إلا بالمصيرية بالنسبة لمستقبل السودان. ورغم تشاؤم الكثيرين، الذين لا يرونها مدخلاً لهدوء العواصف السياسية في البلاد، باعتبار أنها يمكن أن تضيف تعقيدًا جديدًا لعناصر تأزمها؛ إذ وضعت هذه الانتخابات الناس في حالة عامة من عدم اليقين، إلا أن هناك قدرًا من التفاؤل يحمل على الاعتقاد بأن التغيير المنشود قد بدأ، وأن عملية التحول الديمقراطي قد خطت خطواتها الأولى، دون التقليل من التحفظات والملاحظات والاتهامات التي ساقتها كل القوى السياسية على التجربة الانتخابية؛ فالمفارقة تبقى في أن السير نحو سلام في الجنوب، أو معه، وفي دارفور هو الأمل الوحيد الذي يُخرج الجميع من هذه الوضع المتأرجح؛ فاستقرار الوضع للمؤتمر الوطني في الشمال، والحركة الشعبية في الجنوب، أدعى للتعاون على إنفاذ ما تبقى من استحقاقات اتفاق السلام الشامل "نيفاشا"، بين الطرفين الشريكين. وفيما بلغت عملية السلام في دارفور خطوات متقدمة في الدوحة، ومراحل حسّاسة، ينبغي أن يكون واضحًا الآن أي طريق سوف تسلكه الحكومة السودانية الجديدة. ورغم أن نقطة الإجماع الوحيدة في السودان الآن هي أن البلاد في مفترق طرق، وأن هنالك مخاوف جدية من تجدّد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، واستمرار الأزمة في دارفور، واستمرار الاحتقان السياسي الداخلي، والإقصاء من المجتمع الدولي، يشير المتفائلون إلى أن السودان سيعيش في حالة سلام، رغم كل المؤشرات السلبية، التي يحاجج بها المتشائمون وتدعمها مظاهر الأزمات الماثلة. غير أن الحقيقة تكمن -بلا شك- في مكانٍ ما بين الروايتين: المتفائلة والمتشائمة؛ فالتوتر الذي أوجدته نتيجة الانتخابات الأخيرة محسوس، إلا أنه يمكن تلمُّس ما يمكن أن يُحدث تحولاً إيجابيًا في القضايا الشائكة، خاصة الاستفتاء ودارفور. فالمقياس الآخر للتفاؤل في السودان هوإمكانية حدوث وحدة حقيقية قائمة على التراضي بين الشمال والجنوب. كما أن حاجة الحكومة في الشمال لموازنة استحقاقات هذه الوحدة -إن هي تمت- أو أخفقت، تتطلب أن تكون دارفور ضمن المعادلة الوطنية الصحيحة، التي لا يمكن أن تتحقق إلا بشروط السلام العادل والدائم، الذي يستصحب كل الكيانات والقوى الفاعلة ضمن إطار التسوية الشاملة، وفي مقدمتهما حركتا العدل والمساواة، والتحرير والعدالة. ومثلما هناك حاجة لتكريم أهل دارفور على ما أظهروه من إيجابية ومشاركة فاقت كل التوقعات في العملية الانتخابية، ينبغي أن تُبدي الحكومة اهتمامًا وجدية أكبر لاستكمال ما تبقى من مسيرة سلام منبر الدوحة مع هاتين الحركتين؛ لأن الحاجة لهذا السلام الآن أكبر مما كانت قبلُ؛ من أجل مواجهة تحديات الوحدة، أو تداعيات الانفصال، أو إذا كانت إستراتيجية التمكين للمشروع الوطني هي هدف هذا التحول الديمقراطي.