الفساد عند البعض صار مثل الملح إذا غاب يصير الأكل بلا طعم، حتى صرنا نسلّم حقا أنه صار حتمية لابد منها، ومن دونه تنزلق الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، لاعتقادنا أنه شر لابد منه لتفادي الأسوأ منه. والمصيبة أن الفساد لم يعد استثناء بل صار قاعدة تبنى عليها حسابات وتشكّل من حولها لوبيات وتعقد لأجله صفقات وتحالفات، ومن فرط ما استفحل صرنا نخشى أن تُمطرنا السماء حجارة، ونصير مثل أمم خلت أفسدت في الأرض فحقّ عليها العذاب والفناء، الكل يتكلم عن الفساد والمفسدين وعبث الشياطين ولكن لا أحد كانت له الجرأة أو الشجاعة للاعتراف بحقيقة أننا مجتمع ينحدر بفساده نحو الهاوية، حتى الأحزاب التي تضحك على الناخبين في كل مناسبة والتي يفترض أن تكون بديلا للوضع القائم، صارت تشارك في ما هو قائم وموجود، وتنهل من عطايا وهبات السلطة التي تنتقدها ولكنها تتكلم عن فساد هي أصلا تشارك في انتشاره لتدخل الفساد من أوسع أبوابه تحت شعار الديمقراطية والتعددية. وأصاب بهستيريا من الضحك حينما أتذكر شعارا رفعه أحد الأحزاب الإسلامية خلال حملة انتخابية سابقة تحت عنوان "الفساد قف " وبدلا من أن نغير ما يمكن تغييره من موقعنا صرنا نأمر الفساد بالتوقف، كأن كلمة "قف" السحرية مثلها مثل "افتح يا سمسم" نقولها لمغارة "علي بابا" فتنفتح! لكن المشكلة حين نقول للفساد "قف" لا يتوقف ولا يأتمر بأوامرنا، بل المفسدون حينما يسمعون هذا الشعار يستلقون على ظهورهم من الضحك وهم ينعمون بما نهبوه من هذه الجزائر التي لم يعد يرحمها سوى القليل من أبنائها، حتى التغيير صار بالقلب وبأضعف الإيمان فلا يوجد من يوقف الفساد بالفعل أو حتى يحد منه على الأقل. مع الأسف الفساد لم يعد حالة استثنائية تقع مرة كل شهر، حتى وإن كان الفساد مرة كل شهر كارثة حقيقية تشحن همم الجميع لإيقافه، بل صار ضروريا مثله مثل الماء والهواء، واشتركنا فيه جميعنا بمختلف مستوياتنا وأعمارنا ومسؤولياتنا، وبدلا من أن نجمع وثائق ومستندات لنصفّي بها الخصوم عند كل موعد انتخابي، علينا أن نجمع ملفات ضد أنفسنا لنصلح من أمورنا ولنخرج شيطان الفساد الذي يسكننا، لأن اتهام الخصوم بالفساد وكشف ملفاتهم، أمر مقبول، لكن الصمت عنها إلى الأبد هو فساد أيضا.