الطموح والطموح وحده جعله يتحول من الصيدلة إلى ميدان الإعلام، تدرج في الكتابة منذ كان تلميذا في الثانوية، وبقي وفيا لمهنة المتاعب وهو يدرس في كلية الصيدلة، كتب في عدة جرائد عربية ووطنية وساهم بشكل فعال في إثراء المشهد الإعلامي عندنا، إنه عياش دراجي الصيدلي الذي صار صحفيا في قناة الجزيرة أكبر محطة إخبارية عربية وأوسعها انتشارا في العالم أحوالي بخير، الحمد لله.... هناك أشياء كثيرة في الحياة تخطط لها عندما تكون صغيرا وتنجح فيها وهناك أشياء تلاقيك في طريقك فتتلقاها برضا ومرونة، وتتكيف مع متغيراتها، وهناك أشياء تساق اليها فتجد نفسك وسطها فلا تقدر على الفكاك حتى ولو حاولت، والزمن لا يمهلك كي تغير مساراتك كما تريد، وكل ذلك مزيج بين الرغبة والقدر، وعن الصيدلية، كانت تخصصي في الدراسة في الجزائر وعقب هجرتي إلى فرنسا، ولكن لم يبق منها ربما سوى حرف الصاد في البداية الذي صار صحافيا وهكذا كانت الأمور، ورغم أن الأمر من الصعب إثباته أكاديميا لكن لا أجد في الصحافة سوى نوعا من الصيدلة، وسيلتها ليست من كيمياء المواد ولكن من كيمياء الكلمة والخبر وكلاهما فن من فنون الحياة لا أكثر، وفي الواقع لم تكن الأمور تروق لي أن أكون تاجرا يبيع الأدوية كما ينظر عادة إلى أغلب الصيادلة خاصة في دول الجنوب، وبعد دراساتي في فرنسا، لم يكن هناك ما يغريني كثيرا كي أعمل في مخابر البحث العلمي أو في المستشفيات، وكان تيار الصحافة جارفا لي بقوة... وقد يسرت لي الأقدار أن الإعلام فتح عيني على حقائق وأشياء كثيرة في العالم وربما الصيدلة ما كانت لتفتح لي أكثر من "كراتين" الأدوية أو أبواب المخابر! وكل ميسر لما خلق له... وقد كانت لي قدم في الدراسة وقدم في الكتابة منذ المرحلة الثانوية ورغم أن شهادة الباكالوريا التي أحملها هي في شعبة الرياضيات، فإن اهتمامي بالصحافة والعربية كانت إرهاصاته في المرحلة الثانوية بالذات وخلالها نشأ قلمي، في وقت كانت الجزائر توغل تدريجيا في نفق الأزمة، جرني عالم السياسة والأحداث، فانجررت له ومازلت ...وها أنا هنا معكم على هذه الصفحات .... كانت الكتابة ولاتزال متنفسا لما يجول في الفكر والصدر، وقد بدأت كهاو ٍ في صحف عربية وأخرى جزائرية أذكر على سبيل المثال الذي أعتز به صحيفة الحقيقة الأسبوعية قبل نحو تسعة عشر عاما، لمديرها الأستاذ سليم قلالة ورئيس تحريرها الفذ سعيد بن زرقة، وقد كانت لنا جولات في عالم شبابي ينضح بالإبداع من دون اكتراث لكل الحسابات السياسية، وأيضا محاولات ومراسلات لوسائل إعلام عربية لمجاراة من لهم أقلام لها معنى... وعقب مغادرتي للبلاد وبموازاة دراستي تدرجت من الصحافة المكتوبة إلى المسموعة قليلا، حتى صار عملي يرى على الشاشة في القناة الأوروبية للأخبار يورونيوز في قسمها العربي الأول قبل نحو 13 عاما ومنها أدركت أني تلقيت الطعم فعلا، ولم تعد الهواية هواية !! بل خرجت من شرنقتها وصارت مهنة وحرفة ... إذن بدايتي في الإعلام كانت بهواية متوجة بإصرار كبير، لا أقول من أجل النجاح ولكن من أجل الوجود فقط !! لا أعرف قنوات اخرى حقيقة المعرفة سوى الجزيرة ويورونيوز، فيورونيوز تعلمت فيها وسط مناخ أوروبي ثري وغني بأساليب عمل ومدارس أوروبية مختلفة، تعلمت فيها حق الاختلاف والنظر إلى المسائل من زوايا مختلفة مع الأوروبيين والجزيرة تعلمت فيها ولا أزال أتعلم، وهي بحق الجامعة العربية ( الحقيقية) !! وأعتقد أني مازلت بعيدا عن القدرة على التقييم وأشعر أني دائما في بداية المشوار رغم أني في الجزيرة منذ عشر سنوات ... ثم إن الجزيرة، تجاوزت تسمية التجربة، ولم أعد أحب من يسمينا ب: "سي أن أن" العرب !! وقد أقول للآخرين إذا رأيتم قناة غربية ناجحة فسموها جزيرة العرب أيضا! ! وهي اليوم قدوة حتى لقنوات أوروبية مثل قناة فرانس24، كما تقول القناة الفرنسية في أدبيات تأسيسها قبل عامين، فالجزيرة صارت مؤسسة لها قواعدها وروحها وعندما تصير للموسسة روح لا يمكن للرداءة أن تضيق عليها لتخرج منها الروح !! وأبشع شي يصيب كل المؤسسات هو عندما يتحول العاملون فيها الى تبني التفكير في الاسترزاق و(أكل العيش) ، وهذا ينطبق على كل المؤسسات الاعلامية أو غير الإعلامية ، وكلما استطاعت أي مؤسسة أن تبعد عنها شبح الاسترزاق كلما حافظت على العطاء والريادة وكذلك أحسب قناة الجزيرة، لاتزال في المقدمة...بشهادات الاصدقاء والضرائر. وإذا أردتني أن أتكلم لك عن القنوات الأخرى ، فأعفني من الخوض في أساليبها أو في ما أنشئت له، فلكل طريقته وأسلوبه وفي النهاية ، الزمن ثم المشاهد هما المحك .. في الحقيقة، لسنا ظواهر إعلامية، فالظاهرة ربما لها أسباب نشأة جدلية ومثيرة وربما محتوم عليها بحتمية الغياب لذلك تسمى ظاهرة، ولكن الإعلاميون عندنا قد يصنفون في خانة (مغني الحي لا يطرب)، وآلية الاحتكار تقتل الإبداع وتئده في مهده. ثم إن العصفور اذا غادر عشه ليس له خيار إلا الطيران والتحليق، وفي الواقع أن هذا السؤال لابد أن يقلب ، لأن العامل الناجح لا يجب أن يسأل كثيرا وبإلحاح : لماذا نجحت وكيف استطعت؟ ، لأن ببساطة إذا عمل أي شخص فإنه سينجح هذا إذا توفرت له ظروف عمل مناسبة طبعا.... إذن لابد من أن نطرح أسئلة ملحة على الذين أخفقوا هنا أو في الهجرة ، هؤلاء هم الذين يجب أن نستمع إليهم، ونعرف ما هي العراقيل التي حطمت أحلامهم ؟ ومن وقفوا في طريقهم كي لا يصلون ؟ أي سحر تعرضوا له حتى إصابتهم وعكة مهنية ؟؟ إن الطبيب يسأل المرضى كي يشخص مرضهم ولا يضيع وقته في سؤال الأصحاء عما أكلوا ... فالذين خرجوا ، خرجوا، نجح منهم الكثير واضطر منهم البعض إلى التظاهر بالنجاح مخافة أن يصير أضحوكة وسخرية في أرض الوطن، وهناك من كانوا أكثر مرونة وتركوا مهنة المتاعب واشتغلوا بأعمال أخرى، ولهم الحق ، وهناك من لايزالون يصرون في الخارج على أنهم صحافيون رغم أن مهنة الصحافة تتبرأ منهم يوميا، وهكذا !! يعني الأمور نسبية جدا . .. وليس الفعل (خرج) مرادفا للفعل (نجح) بصيغة مطلقة... وبجملة خاتمة للجواب على سؤالك أيضا: أن القنوات الأجنبية تفتح لك المجال للعطاء بحرية أكثر وإذا حسبت عدد المسؤولين عنك لا تجد في الغالب سوى الضمير والمدير ورئيس التحرير من دون حسابات صحافوية ( على وزن سياسوية، رغم أني أكره هذه الكلمة المفعمة بالفذلكة والتقعر ) . وهنا السر!! هي علاقات مثل أي علاقات أخرى ، يحكمها الاحترام والتقدير، والطيور على أشكالها تقع في الوطن أو المهجر، ومن صفا صفي له، وبحكم طبيعة مهنتنا فإن لنا علاقات مع زملاء في الجزائر وفي خارج الجزائر... شرقا وغربا. نحن معشر الصحافيين عندما ينتهي سؤالنا بكلمة ( بكل صراحة ) يعني أن في الأمر إن ، وفي الغالب (إن) من الحجم الكبير !! ولو امتنعت مثلا أنا الآن عن الإجابة وقلت لك اعفني من هذا السؤال لصارت (إن) أكثر حجما ... عندما نقول الإعلام الجزائري، يخيل لنا أنه جسم واحد ولابد أن نعطي رأينا فيه جملة لا تفصيلا، وهذا خطأ ! ربما هذا يخصنا نحن الجزائريين أكثر من غيرنا لاننا تعودنا على الكتلة الواحدة ومن قبل الحزب الواحد، وحتى المعارضة أحيانا تحلم بأن تتكتل كلها في حزب واحد !! أمر عجيب لا ؟ لا علينا ... كل هذا من سؤالك المحرج ... يا زميلي العزيز الإعلام الجزائري : فيه وعليه، الإعلام عندنا إعلامات، إعلام يرتزق بأي ثمن، وإعلام يلتصق بأي عباءة أو تبعية، وإعلام يختلق، يختلق القصص والأخبار الاجتماعية ويدخل في هذا الإطار الصحافة الصفراء المحشوة بأشياء تعرض على المراهقين والكُسالى، وإعلام يختنق، بسبب الديون والمضايقات، وإعلام يحترق، بسبب الأعصاب والتشنج الذي تجري فيه ظروف العمل مثلا، وهناك، نعم هناك إعلام مهني جاد هادف .... شايف؟؟ عندنا تشكيلة واسعة تدخل كلها ضمن باقة الإعلام الجزائري .... وأترك لك أنت الذي تعيش في الوطن كي تحدد نسبة وجود كل صنف من هذه الأصناف الإعلامية، ورغم هذا التفصيل فقد تقول لي إنني لم أجبك بصراحة ! يعني أن الأمر يبقى دائما فيه (إن) !! قدمت لي مساحة حرية واحتراما، وقدمتُ لها جهدا ووفاءً ... ولازلنا نقدم لبعض كلما تقادم بنا العهد... الجزائر أقدم لها عياش دراجي من خلال عياش دراجي. نحن لسنا فلسطينيين تطرح مسألة العودة لدينا بالحاح ! لأننا هاجرنا ولم نهجر قسرا ... والمهاجر منا حر، إذا أراد أن يعود ، فلا أحد يمنعه ، واذا أراد البقاء في المهجر فالأرض واسعة ، وبالنسبة لي الأمر غير مطروح في الوقت الراهن...وكل شيء تحكمه الظروف هنا وهناك.... لابد من توضيح أمر، وهو أنني رافقت السفينتين في أوت 2008، كصحفي، رافقت ناشطين إنسانيين كسروا الحصار، إذن هم الكواسر ولست أنا ، أنا قمت بعملي بشكل عاد في ظرف غير عاد، الرحلة كانت شاقة واستغرقت أربعين ساعة وبقيت ذكراها الآن... كانت محاطة بالمخاطر، كان من العيب على الأقل مهنياً الخشية على الحياة أصلا، فإذا عمت خفت، ووجودي مع أكثر من أربعين ناشطا إنسانيا وأغلبهم من الدول الغربية، عزز رغبتي في تغطية الحدث، وتلك الرغبة كانت تسيطر على أغلب مشاعري، ثم إنني كنت مستعدا لتغطية الحدث كيفما جرت الأمور، فلو كانوا قد منعونا من الدخول بالقوة ، لكنت قد غطيت ما يجري حسب ما يتاح في حينه، ولو اعتصم الناشطون الإنسانيون في البحر وقد كانوا يعتزمون ذلك فعلا لكنت قد غطيت اعتصامهم، وإن دخلنا غزة غطيت الدخول وهذا الذي حدث، وإن غرقنا وهذا ما لم نجونا منه ، فإن هناك صحافيين آخرين كانوا سيغطون الحدث !! كانت الاحتمالات كلها واردة، وانتهت التغطية بسلام.