جمعية العلماء والزوايا تكامل تاريخي ومستقبلي * "الأمة العربية": في البداية، هل يمكن لرشيد محي الدين أن يحدثنا عن الدور الذي لعبته الجمعية في وضع اللبنة الأساسية لثورة نوفمبر؟ ** جمعية العلماء بلغت مكانة لم يبلغها أي تنظيم آخر خلال فترة الاحتلال، من غير انتقاص من مكانة باقي التنظيمات، لأنها اعتمدت أساسا على العلم؛ فمكانة العلم والمتعلم هي الأعلى. ومن هذا المنطلق، فالجمعية حررت عقول الجزائريين تمهيدا لتحرير أجسادهم، وقد قال الشيخ البشير الإبراهيمي: "محال أن يتحرر جسد يحمل عقل عبد". كما أن هذه المسألة حساسة جدا، حساسية تاريخ الثورة الجزائرية، وأرى بحكم اطلاعي على جزء من تاريخ هذه الجمعية أن جمعية العلماء هي الثورة، دون أن أنتقص من دور باقي التنظيمات. أضيف إلى هذا، من له القدرة على إنكار علاقة بعض مفجري الثورة بالجمعية، إذ من الإنصاف أن نذكر شهداءها منذ اندلاع تلك الثورة، وهل يخفى على عين كل رقيب وباحث أريب، دور مكتبها في بداية الخمسينيات في إعداد العدة وجمع العتاد والتشهير لها، والحث على الأخذ بسبيل الثوار في مختلف المستعمرات لبلوغ الحرية، والأمثلة على ذلك كثيرة. أما القول إنها التحقت بالثورة سنة 1956، فأرى أنه إعلان رسمي سبقته إعلانات أخرى كثيرة نشرت في جريدة البصائر، لسان حالها. فجمعية العلماء كانت تمثل الحكومة الجزائرية آنذاك، "والمؤمن كيّس فطن"، إذ ليس من الحكمة أن تعلن ثورتها مباشرة دون الأخذ بالأسباب وتأسيس قاعدة ثورية صحيحة ومتينة. فعند ذاك، يمكن لها أن تجهر بثورتها بعد أن جهرت بعدائها للاحتلال الفرنسي منذ أيامها الأولى. وفي نشيد "تحية المولد النبوي الشريف"، أو "شعب الجزائر مسلم"، ما يغني الباحث والسائل عما سواه. * هناك من نفى دور جمعية العلماء في الثورة؟ ** موجود هذا النفي، إلا أنه نفي خاطئ. إن إنكار الدور الإيجابي للجمعية في الثورة، مبني على اختلاف الإيديولوجيات والتوجهات في المجتمع الجزائري، وما هذا النفي إلا محاولة من بعض الأكاديميين والقادة العسكريين والسياسيين الذين عايشوا أحداث الثورة أو أثروا فيها، صرف النظر عن التأثير الديني في الثوار (المجاهدين) وربطها بالثورات العالمية في تلك الحقبة، لأن جمعية العلماء تمثل كما نعلم التوجه الديني. ومعروف أن الكلمة التي سبقت أية رصاصة، أطلقها المجاهدون هي "الله أكبر"، فما هذا النفي إلا ذر للرماد في العيون، ومحاولة لقطع شريان الثورة الجزائرية الذي هو الدين الإسلامي. * من الباحثين من تحدّث في وقت من الأوقات عن شبه صراع بين الجمعية والنظام عقب الاستقلال مباشرة، فهل يمكن أن تحدثنا عن بعض ملامحه؟ ** برأيي، لا يوجد صراع مباشر بين النظام والجمعية، بل إن أبناء جمعية العلماء المسلمين وخريجي معهد ابن باديس التابع لها، وغيره من المدارس الحرة، كما تسمى، أوكلت إليهم مهام إدارية وتربوية وعلى مستويات متفاوتة في النظام الجزائري، ربما على شكل أفراد لا كأبناء لجمعية العلماء، وفي ظني أن هذا ينفي هذا الطرح. وإذا وجد صراع، فهو صراع بين الأفراد لا صراع بين النظام والجمعية ككيان. * ألا ترى أن انسحاب الجمعية بعد الاستقلال لم يخدم التعليم ومناهجه؟ ** لن يكون مستوى التلميذ أحسن من مستوى أستاذه، إلا في حالات تشذ. ومن هنا، أرى أن مستوى أبناء الجمعية في تعاملهم مع الأحداث الواقعة لن يكون في مستوى مؤسسيها، وإيمانهم بها لن يكون كإيمان بُناتها، ولذلك أرى أن استعمال "لو" ليس له من فائدة، لأن رسالة هؤلاء قد بلّغوها، وبقي على من يحيا هذه الأحداث أن يحسن التعامل معها وفق تلك الرسالة: "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا" * في نفس السياق؛ تطرح كذلك قضية أخرى وهي الصراع بين الزوايا والجمعية، وهناك من يطرح قضية التكامل، أيهما يمكن لنا أن نقرر؟ ** هناك من يدعي أن الصراع بين الزوايا وجمعية العلماء أزلي أبدي، وهذا برأيي هذيان، لأنني أرى أن الزوايا هي الرافد الأساسي لجمعية العلماء؛ فجل شيوخ جمعية العلماء من أبناء الزوايا ذات الطريقة الرحمانية وغيرها، فالإبراهيمي ابن زاوية "سي الحواس في أولاد سي أحمد سطيف"، كما نقل في مجلة الشهاب سنة 1931م، ونلمس تأثر الشيخ ابن باديس بالخطاب الصوفي الذي تمثله الزوايا، في رسالة وجهها إلى شيخه في الزيتونة سعد بن قطوش حوالي سنة 1914م، كما أن المراسلات التي تبادلها العلماء وشيوخ الزوايا تفيض ودا وتعاونا بينهما؛ فالصراع وأكثره مفتعل إنما هو أكرر على مستوى الأفراد دون الجماعات؛ فمن شيوخ الزوايا من وإلى الاستدمار ربما، ومن واجب الجمعية أن تقاطع هذا الشيخ أو تلك الطريقة، لأنها تخدم الاحتلال، ولكن من ينكر عشرات الزوايا التي دمرت، وعشرات المدارس التي أغلقت واعتقل معلموها، وآلاف الشهداء من أبناء الزوايا وأبناء الجمعية، فإن وجد صراع حقيقي فلن يكون إلا في كيفية الوصول إلى الحرية، لأنني أراهما متكاملين. * في الآونة الأخيرة زار الجزائر بعض الدعاة من أمثال عائض القرني وعمرو خالد، ولم تكن الجمعية في المشهد، كيف ترى الأمر؟ ** غياب جمعية العلماء عن ذاكرة أي عربي مستحيل، فهؤلاء الدعاة الذين يزورون الجزائر تأتي زياراتهم وفق برامج من قبل الهيئة المستضيفة. وإذا لم تبرمج الجمعية ضمن المزُورين، فلا أرى أن الضيف يغض الطرف عن وجودها، ولست في مقام الذود عن الجمعية والتمكين لها، لأن لها أهلها و(أعطوا القوس باريها). * منذ حوالي السنة، أنشئ الفرع الدولي ل "مؤسسة القدس" في الجزائر وعين على رأسها الشيخ عبد الرحمن شيبان، ألا ترى بأن هذه المبادرة محاولة لصهر الجمعية في هذا التنظيم العالمي؟ ** لا أرى ذلك، لأن جمعية العلماء سبّاقة كتنظيم وأعلام إلى الدفاع عن مقدسات ومقومات الأمة الإسلامية، ولك أن تطلع على مواقفها في هذه القضية منذ نشأتها في آثارها، وموقف رئيسها الحالي الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس فرعها في الجزائر في كتاباته منذ أربعينيات القرن الماضي، لذا أرى أن جمعية العلماء المسلمين هي التي تفرض وجودها ودورها في مثل هكذا هيئات بحكم ما سلف.