يستقطب الدّور الذي تلعبه الآن الجامعة العربية في الأزمة السورية اهتماما خاصا، عربيا ودوليا. وللمرة الاولى، نرى مثل هذا التأييد العربي والدولي لفعلٍ أقدَمت عليه الجامعة العربية إزاء إحدى الأزمات الحادّة فى دولة عُضو بها. هذا التأييد يأتي على خلفية التطلّع نحو وقف آلة العُنف والقتْل، التابعة للنظام ضدّ الشعب السوري، كخطوة أولى، ثم إيجاد مخرَج للأزمة ككُل، تحافظ على سوريا الدولة والشعب من جانب، وإصلاح النظام ووضع لبنات تغييره سِلميا على المدى المتوسط من جانب آخر. صعوبات وأمل ورغم الصعوبات المُنتظرة وما يُعرف عن النظام السوري من قُدرة كبيرة على المُراوغة وتوظيف عُنصر الزّمن لصالحه وإصراره على الحلّ الأمني والتلاعب بمُفردات الحلّ السياسي، فضلا عن تنوّع مواقف القِوى المعارضة، ما بين قِوى في الداخل ترحِّب بالحوار تحت مظلّة الجامعة العربية، وأخرى في الخارج، ترى أن الهدف الآني هو حماية السوريين وتوفير ضمانات لذلك، والهدف القريب، هو تسليم السلطة إلى قِوى المعارضة، ناهيك عن الخِلاف حول مكان الحوار في دمشق أم في القاهرة، حيث مقرّ بيت العرب. فثمّة أمل محاط بالشُّكوك والحَذَر، في أن تنجح الجامعة في السير قُدُما نحو وضع سوريا على طريق الإصلاح والحرية. صحيح أن وضع سوريا الاستراتيجي والجغرافي يضع عِبءً كبيرا على النظام العربي ككل وعلى الإقليم ككل، كما أن طبيعة الأزمة التي تمُر بها سوريا ذاتها، تفتح أبواب الجحيم على مِصراعيه، إن لم تتم السيطرة عليها بأكبَر قدْر من الحِكمة والتعقُّل، إلا أن البيئة العامة التي يمر بها العالم العربي، حيث الثورات الشعبية التي أنهت مهمَّهتا الأولى في الإطاحة بنُظم استبدادية أو تلك التي ما زالت تُجاهد وتُضحِّي، وصولا إلى هذا الهدف المُبتغى، أثارت بدورها التساؤلات حول دور الجامعة في هكذا بيئة لم تعتادها من قبل، وإلى مَن تنحاز، إلى النُّظم المستبدّة أم إلى الشعوب المهضومة وحقوقها المشروعة؟ من منظمة للحكومات إلى منظمة للشعوب لقد كان مصير الجامعة العربية دائما مطروحا على طاولة البحْث، أثناء وبعْد كل أزمة عربية كبيرة، تغير من معادلات القوّة والتوازن التي تحكم عمل الجامعة، وما حدث بعد احتلال الولاياتالمتحدة للعراق في مارس 2003 مِن حوار صاخِب حول بقاء أو اختفاء الجامعة، هو مثل قريب. وعلى الرغم من التوافق العربي الذي انتهى إلى الحفاظ على الجامعة كبيْت للعرب وإصلاح هياكل العمل العربي داخلها، مع تطوير الدور كإستجابة لمطالِب الإصلاح المُتصاعدة في كل بلد عربي على حِدة، إلا أن الأمر لم يصِل إلى حدِّ تصوُّر أن تقوم ثورات شعبية تُطيح بنُظم كاملة أو تفرض معادلات جديدة تماما داخل نُظم أخرى، ومِن ثمَّ يُعاد تقسيم المِنطقة العربية إلى دول ثورية وأخرى على طريق الثورة الشعبية، وثالثة تُجاهد للحفاظ على بقائها كأن شيْئا لم يحدُث. أين المجتمع المدني؟ كان جزء من إصلاح الجامعة مُرتبِطا بالانفتاح على المجتمع المدني العربي، هكذا بشّرنا الأمين العام السابق عمرو موسى، الذي أنشأ إدارة لهذا الغرض، غيْر أن الحصيلة الفِعلية لا تبدو مناسبة مع الآمال التي ثارت في حينه. فالجامعة تظلّ منظمة إقليمية للحكومات والنظم، وأي تطعيم جزئي لتطلُّعات الشعوب يظل محكوما برَغبة النُّظم نفسها، وبالتالي، يظل قاصرا على بعض منظمات المجتمع المدني، التي ترضى عنها تلك النُّظم. ولذا كانت المفاجأة الأكبر هي أن منظمات المجتمع المدني الأكثر ابتعادا عن آليات عمل الجامعة العربية هي الأكثر تأثيرا في انتفاضة الشعوب وثوراتها. الأمر الذي أظهر مدى ابتعاد الجامعة عن نبْض الشارع العربي، وهو ما تَجسَّد في حالة غياب تامّ عن التفاعل المباشر والموضوعي مع مطالب الشعوب، فلم نجد مثلا أي ردّ فعلٍ بالنسبة للثورة التونسية أو المصرية أو اليمنية، وحتى تصريحات الأمين السابق عمرو موسى حول تطلُّعات الشعوب المشروعة وضرورة الاستجابة لها، فجاءَت في إطار دعائي عام، خاصة وأن الرجل كان على أعتاب الخروج من منصِبه الإقليمي إلى آفاق المنافسة على كرسي الرئاسة المصرية، بعد ثورة شعبية أطاحت بنظام سابق ومهَّدت لمولد نظام جديد. نبيل العربي.. التفاؤل المُفرط ومع تعيين الدكتور نبيل العربي كأمين عام للجامعة العربية، ثار تفاؤُل غيْر مسبوق بشأن تطوير دوْر الجامعة، لمناصَرة مطالِب الشعوب العربية وحقوقها في الحرية والعدالة والديمقراطية. غيْر أن آليات عمل الجامعة وطبيعة دوْر الأمين العام، المحكوم بتقاليد وأعراف معيَّنة ومستقِرة، وصعوبة تجاوُز التوازنات القائمة في بنية الجامعة ذاتها، فضلا عن تمسُّك كل الحكومات العربية بمبدإ عدم تدخُّل الجامعة في أي شأن داخلي، كل ذلك وضع سقْفا محدودا على رغْبة ومسعى د. العربي في التدخل أو النّصح أو اتخاذ قرارات تهُم الشعوب العربية، كما كانت تأمل وتتمنّى، خاصة وأن الرجل حين عُيِّن لأقل من شهرين وزيرا لخارجية مصر الثورة، أخذ عددا من المواقف التي أعادت البريق مرّة أخرى للدبلوماسية المصرية، عربيا وإقليميا، فكان الطموح والأمل أن يفعل التأثير نفسه، وهو أمين للجامعة العربية، غيْر أن القيود المُشار إليها أتَت بنتائج مُختلفة تماما. غياب الجامعة وأسبابه في ضوء ذلك، غابت الجامعة عن أزمة اليمن، التي ما زالت مُستعرّة، وتُرك خيار التدخّل في مسارها للمجموعة العربية الخليجية، باعتبارها الأقرب جغرافيا، والأكثر دِراية وخِبرة بالسياسة اليَمنية ولديها أوارق ضغْط عديدة على أطراف اللُّعبة اليمنية، وقد أوضح ذلك أن خيارات الجامعة في التدخل أو في الغياب، تظل مرهونة أساسا بتوازُن القِوى الداخلي بين أعضاء الجامعة أنفسهم، ونظرا لأن الكفّة تميل للمجموعة الخليجية، فكان طبيعيا أن تنسحب الجامعة العربية من الشأن اليمني، ولا يملك أمينها العام سِوى المُطالبة عن بُعد، للرئيس اليمني بالالتزام ببنود المبادرة الخليجية والتفاعل الإيجابي معها، حقْنا لدماء اليمنيين، ولقاءات محدودة مع بعض الشباب اليمني الذي يزور القاهرة لجمع الحشْد والتأييد للثورة، التي تتمسّك بالبقاء في الشوارع والميادين، حتى يرحل الرئيس من المنصِب ومن البلاد معا. الحالة الليبية.. الثمن الباهظ للتدخل العسكري وحين أقدَمت الجامعة العربية على توفير غطاء للتدخّل الغربي في الثورة الليبية، كان ذلك أيضا نتيجة ضغْط مجموعة مهمّة من الدول العربية الخليجية تحديدا، والتى استطاعت أن تشكِّل أغلبية عددية، أقرّت تجميد عضوية ليبيا أولا، ثم أقرّت ثانيا حق التدخّل الدولي في الشأن الليبي لحماية المدنيين من جنون القذافي وأبنائه وجنون آلته العسكرية، التي وُجهت للمدنيين باعتبارهم جرْذان يستحقّون القتل، وإن كانت الجامعة ربطت ذلك بالعمل تحت مظلّة الأممالمتحدة وتوافر شرعية دولية عامة فكان ما كان من تدخّل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقرار دولي، فتحوّلت ثورة ليبيا إلى عمل عسكري بامتياز، نجح في القضاء على حُكم القذافي، غير أن الثمن الذي دفعه المدنيون كان باهظا. هذا الثمن الإنساني والمادي الباهظ، الذي دفعته ليبيا، شَّل بدوره إطارا جديدا لعمل الجامعة العربية. فالعمل العسكري، أيا كان نُبل أهدافه ومراميه، يقتل البشر ويدمِّر الحجر ويثير الفوضى، بقدر أو بآخر، ويزيد من عِبْء البناء بعد الهدْم. خبرة دامية وتعقيدات سورية هذه الخِبرة الدامية تشكِّل قيْدا على عمل الجامعة بالنسبة لأزمة سوريا، التي تبدو حسابات التدخّل العسكري فيها أشبه بمَن يُلقي قنبلة نووية في بحيرة صغيرة ليصطاد سمكة ملوَّنة، ومن هنا، تتجسّد صعوبة المهمّة العربية في الأزمة السورية. فالتلويح بتجميد العُضوية، كما يطالب الثوار السوريون، لا يجد الكُثرة المؤيِّدة، كما أن التلويح بخيار عسكري تحت مظلّة دولية، يدخل في باب المستحيلات، وإقناع نظام عنيد كالنظام السوري بالاستجابة لطموحات الشعب المشروعة، دونها عقبات ومراوغات وتحايلات، لا حصر لها، كما أن إقناع المعارضة بقبول الحوار مع النظام السوري على قاعدة الإصلاح والمشاركة في الحُكم، يواجه شكوكا ورفضا بأشكال مُختلفة. والأهم من كل ذلك، أن قُدرة الجامعة على فرض شيء بذاته، تتطلَّب موارد كبيرة، مادية ومعنوية، فضلا عن تكاتف الأعضاء جميعهم وراء هذا القرار.والشرط الأخير، هو القيد الأكبر الذي يجعل حركة الجامعة طموحة، من حيث الشكل، ومحدودة التأثير من حيث الجوهَر، ويبقى أن ننتظر قليلا لنرى النتائج، لعلّها تأتي بشيء مُفيد.