حاولت "الأمة العربية" أن تعرف أسباب تنامي ظاهرة التسول بولاية غليزان بشكل بات يخيف الهيئات الرسمية المحلية ودفع بالمتتبعين إلى الاعتقاد بأن الفقر بالولاية طال كل العائلات بالنظر إلى مئات بل آلاف الأسر التي انتهجت التسول الفاحش وسيلة للعيش. ولعل الطريقة الأسهل في التعامل معها هي التقرب أكثر منها، ولذا دفعت أجرة لأحد المتطوعين للعب دور متسول بمعية ومراقبة مكتب "الأمة العربية" بغليزان ولا أخفيكم سرا إن قلت لكم بأن الأمر فيه مشقة أكثر من إعداد روبورتاج عن التنمية المحلية، حيث يصعب على المرء اقتناص الأحاديث حول هذا المسؤول أو ذاك لخوف البعض من الانتقام. العملية دامت أربعة أيام كاملة وحاولنا بالطبع إدراج يوم الجمعة ضمن الأيام المذكورة لتمكين القارئ من استظهار الواقع المعيش بأن التسول لم يعد يقتصر على يوم الله وهو الجمعة بل كل أيام الأسبوع والشهر والسنة بل ومن المتسولين من بقي في الخدمة أكثر من سبعين سنة وآخرون دفنوا وهم يجرون وراء المال.... ذهبنا رفقة صديقنا إلى حي شمريك حيث تقرر أن يبدأ العمل مع عائلة احترفت التسول بكامل أفرادها الست، بنتان وولدان وأبويهم البالغين على التوالي حوالي 50 وأربعين ورغم أن البيت الذي تسكنه العائلة تم بناؤه ذاتيا إلى أن مظهره الخارجي لم ينسجم مع محيط الجيران لإيهام الناس بأن ساكنيه معوزون. ركبت العائلة سيارة من نوع رونو 19 بيضاء يبدو وأنها ملك للابن الأكبر يستغلها في النقل من دون رخصة "كلونديستان" وأسرع صاحب الأسرة إلى اصطحاب فراش من الكارتون وسلة من بعض الأغراض عرفنا فيما بعد- أي بعد أن استقرت العائلة في جناحها المعهود- بأن الأمر يتعلق بأغراض فيها ملابس رثة للولدين وأشياء أخرى. بسرعة فائقة انتقلنا إلى ساحة المدينة حيث وجهة الأسرة، إلا أنه لم يسعفنا الحظ في هذا اليوم الأول إذ سرعان ما مرت بنا في هذه الساعة المبكرة ذات السيارة فقررنا اقتفاء خطاها علّنا نتوصل إلى ما لا نعرفه، لكن ومع الأسف لم نتمكّن من ذلك بسبب عطل أصاب السيارة بعدما نفد منها البنزين، وبالطبع ضيعنا المهمة في اليوم الأول لأنه لا يمكننا التزود بالبنزين خشية أن ينجلي الخيط الأسود ليتنفس الخيط الأبيض قليلا وتنكشف ألاعيبهم ويرى الناس أن العائلة تنتقل راكبة في رحلة جديدة لاستنزافهم باسم الإحسان. فوت علينا العطب هذا مراقبة العائلة التي صممنا أن لا نضيعها في يوم الغد، وعلمنا بعد طلوع النهار أن المكان المعهود بقي طيلة اليوم خاويا على عرشه لأن ملاكه غير الشرعيين ارتأوا نقل مركزهم إلى وجهة أخرى لكن إلى حين، إذ بعد تكرر المحاولة في صبيحة الغد عاين فريق الجريدة نفس السيناريو ولكن مع تغيير وجهة الرحلة ناحية البنك الوطني وسط مدينة غليزان تماما كما وصف لنا المراقبون. توسط رب العائلة المكان ووضع السعفة أمامه إلى جانب الولدين في حين التصقت ربة الأسرة على يساره وضرب في المكان سكوت مطبق وهنا دخل مساعدي اللعبة بكل جدية إذ ما لبث أن اقترب من العائلة وجلس ينتظر بدء حركة المرور. بالطبع لم يكترث في البداية صاحب العائلة طمعا في أن المكوث ليس طويلا. وبعد مرور قرابة الساعة بدأت الحركة تدب في عين المكان وراح مساعدي يستعطف الناس، لكن الواقع الجلي أن كل المارة في هذه الساعة الأولى من النهار لا يعبأون بما يقولأي شخص كونهم جميعا يسرعون إلى أرزاقهم غير المضمونة، فالغالب عليهم أنهم عمال حمّالون ينهضون مبكرا علّهم يضفروا بما تيسر من الرزق وأما من ينهض في هذه الساعة من غير هؤلاء فلقد سمعنا بعضهم يلعن هؤلاء المتسولين الذين يقطعون على الناس طريقهم صباحا حتى قبل أن يتناولوا فطور الصباح. وبالعودة إلى صاحبنا، رب الأسرة، بدأت تقاسيم الرجل تبدي ضيقا وتوجسا من مساعدي فهرول خفية إليه ليسألهإن كان قد تعذر عليه إيجاد أمكنة غير هذه إذ توسل إليه أن يذهب بعيدا ،لكنه غضب لما رفض الرجل المغادرة فانتفض بكل شدة أمرا إيّاه مغادرة المكان الذي لازمه سنوات ولا يسمح لأحد أن يشاركه فيه، بل وقال بأن الأخلاق لا تسمح لك أن تقترب من العيال!! هكذا يدافع صاحبنا على رزقه ويأبى الرجل إلا البقاء في عين المكان، فما كان على المتسول إلا أن انبرى داخل ساحة مسجد النور الذي لا يبعد سوى عشرة أمتار وما بين الأشجار الكثيفة راح يدغدغ في خفية هاتفه النقال الذي عاينته بأم العين وهو من نوع "نوكيا" آخر طراز.. لم أكن أسمع جيدا همساته عبر الهاتف، لكن نبرات الرجل الشديدة كانت توحي بأنه يهدد. بالطبع كانت المكالمة لرجل سنعرفه بالتأكيد بعد مرور ربع ساعة من المكالمة وهو نفس الرجل صاحب سروال جين وقميص برتقالي. عرفته في هذا الصباح لما رافق العائلة إلى هنا إنه ابنه الذي تسلل إلى الجار المشاكس وطلب منه الابتعاد من عين المكان لأنه منافس أبيه. ولم يدم المكوث طويلا إذ قام الرجل ذي البنية الضخمة بجر الزميل بكل قوة من يده اليمنى ورمى به إلى جهة الطريق أمام أعين المارة الذين لم يفهموا ماذا يجري بينهما وكانت ابتسامة رب العائلة تدل على انشراح صدره وفوزه بالمباراة... لا أطيل في هذا السياق لأن ردة فعله طبيعية ما دامت الأمور تسير على هذا النحو وثمة كرماء من الناس يعطفون على رجل احترف استنزافهم حتى حدود الصعلكة. والغريب أننى سألتقي هذا الكلوندستان وابن المتسول بعد مرور أيام بمناسبة ركوبي معه وإلا استعد للتنقل إلى جهة أخرى من المدينة في مسعاي للبحث عن المتسولين أو من يدعون هنا ب"الطلابة" ولقد حيرني جوابه خلال دردشة فتحتها معه وأنا ذاهب رفقته إذ بدون مروءة ولا استحياء قال لي بأن المدينة استولى عليها صنفان هما أبناء الحرايمية من بائعي المخدرات والمتسولون وهو ما أذهلني، فسألته إن كان عددهم كبير في غليزان لما استشعرت منه أنه لا يعرفني فقال دون تردد "أنت تسأل أم تمازحني، أما تعرف بأن كل الناس أصبحوا في زمرة الطلابة" فحاولت معرفة ما إذا كان هؤلاء معوزين حقيقة، فرد عليّ بكل ثقة "وهل من كان في عوز لا يتركه يوما واحدا؟" فقلت في قراره نفسي وأنا أنزل من سيارته لا فض فوك يا رسول الله صلى الله عليك أفضل وأزكى التسليم لما قلت "إن لم تستح فافعل ما شئت". ولدى وصولي إلى حيث يدخل الناس لقضاء نوازلهم في دار القضاء شعرت بالغثيان لما رأيت أربعة أولاد صغار جدا يلبسون ثياب رثة جدا في مثل هذه الظروف الشتوية القاسية وبينهم امرأة لا يبدو أنها اعتنت هي الأخرى بنفسها ابتغاء الاستعطاف في الوقت الذي راح أصغرهم يتبول وسطهم في مظهر هزّني في الأعماق إذ كيف يستسيغ الناس هذه البهذله من أجل المال في حين يكفي أن لا نمد أيدينا ليقوم أفراد شعبانا الذى لا زال الكثير منه يحافظ على الكرم رغم الضيق. وعندئذ أدركت أنه لا قانون العقوبات الذي به ثلاث مواد تمنع التسول الحرفي تحت طائلة الحبس والغرامة ولا نظرة الناس للمتسول الماكر ولا العامل الديني الذي يحرم هذه التصرفات الثقيلة ولا حتى المروءة البشرية أدركت أن الجشع وحده هو المحرك لهم وهذا أمر لا يمكن معالجته في ظل مرض النفوس وعلمت أن الفقير المتسول غنى بحرفته ويبقى على هذا المنوال طيلة حياته رث الثياب وسخ الوجه نتن الرائحة مبغوض من الجميع يلعنه الكل صباح مساء وهو ماض في غيّه حتى تدركه المنون.