لاشك أن الكثير من الناس يتساءل لماذا اختير يوم 19 مارس عيدا للنصر؟، وقبل الإجابة عن هذا التساؤل نطرح بدورنا سؤالا آخر: لماذا تمر خمسون سنة على الاستقلال ونحتفل بكثير من الأيام الوطنية والتاريخية ولن نخصص يوما وطنيا للنصر الذي توج مسيرة الكفاح بالاستقلال وهذه الحرية التي ننعم بها؟، سنحاول الوقوف معا على مغزى وأبعاد والظروف التي أختير فيها هذا اليوم بالذات يوما وطنيا للنصر. شهر مارس.. شهر الشهداء... يعد 19 مارس 1962 تاريخ توقيف القتال بالجزائر بعد التوقيع الرسمي على اتفاقيات إيفيان، فيما يعتبر 18 مارس 1962 يوما للنصر حققت فيه الثورة الجزائرية ما ناضلت من أجله أجيال منذ 1830 توجت بنضال وجهاد جيل نوفمبر المجيد،حيث انتزع استقلاله واسترجع سيادته بعد تضحيات جسام بلغت مليونا ونصف مليون شهيد. ومما جاء عن هذا اليوم في جريدة المجاهد 20 مارس 1962هذا نصه: "شهر مارس شهر الشهداء تحيى فيه ذكرى أبطالنا الخالدين مصطفى بن بولعيد، بن مهيدي، عميروش، الحواس، لطفي، الطاهر فراج. الذين افتدوا حرية الجزائر بحياتهم الغالية واستشهدوا في ميدان الشرف في مثل هذا الشهر. وشهر مارس شهر الحرية في المغرب العربي، فيه نالت تونس والمغرب استقلالها، وفيه يشرق اليوم على الجزائر فجر الحرية والسلم والاستقلال. وكانت مصادفات الأقدار قد جعلت عددا كبيرا من أبطال ثورتنا يستشهدون في مثل هذا الشهر حتى أطلق عليه شهر الشهداء، ثم شاءت الأقدار مرة أخرى أن يحتفل المغرب العربي بأعياد حرية أقطاره الثلاثة في نفس الشهر، فإنه ليس من قبيل التلاعب بالألفاظ أن نرى في ذلك شيئا أعمق من مجرد المصادفة، إن اقتران حرية الجزائر بذكرى الشهداء وبحرية المغرب العربي كله هو رمز عميق بعيد الأثر في تاريخنا ومستقبلنا، إنه رمز خالد للرباط المقدس بين الحرية وثمنها العظيم والوحدة وأساسها الروحي والمادي المتين. إن الحرية التي كتبت بدماء الشهداء هي الحرية الحقيقية، الحرية المطلقة، الحرية التي نلناها فعلا وارتبطنا بها وارتبطت بنا قبل الإعلان الرسمي عن ميلادها فقد اكتسبنها وأعطتنا روحها يوم صرنا قادرين على تقديم أرواحنا قربانا لها وسقينها بدم الشهداء". فشل السياسة الاستدمارية الفرنسية والسقوط الحر... لقد قامت الثورة الجزائرية المسلحة في سنة 1954 في عهد الجمهورية الفرنسية الرابعة والتي تميزت سياستها تجاه حركات التحرر بالغطرسة والمغالبة والعناد وجنون العظمة، جاهلة أو متجاهلة المستجدات الكبيرة التي حفل بها العالم الجديد بفعل الحرب العالمية الثانية وتدهور مكانة فرنسا الدولية وقواتها وتهمشاتها وتقربها من حلفائها الذين أبعدوها في مؤتمر يالطا (4-11-45) كما كانت مدينة في تحريرها من بطش النازية للجيش لأمريكي والبريطاني بقيادة الجنرال - دوانت إزنهاور- الأمريكي حتى سميت فرنسا الدولة النصف المنتصر في الحرب وأن الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر 1954 لم تتغير طبيعة السياسة الاستعمارية الفرنسية والتي ظلت رهينة الأساطير والأوهام والأطماع ووصلت قواتها العسكرية بالجزائر إلى 400 ألف جندي سنة 1956م. ولقد توالت النكسات الاستعمارية الفرنسية عسكريا وسياسيا وتعاقبت الأزمات والانقسامات الداخلية بفرنسا وتأكدت محدودية سياسة القوة العسكرية بقمع الثورة الجزائرية وظهرت أصوات تنادي بالتعقل والحكمة والتفاوض مع جبهة التحرير الوطني واختيار الحل السلمي حفاظا على المصالح الفرنسية بالجزائر والتخلي على الأساطير والأطماع الجنونية التي تجاوزها الزمن ومنطق العصر وتصاعد حركات التحرر ضد الاستعمار في كل مكان. دامت الثورة التحررية سبع سنوات ونصف استعمال الاستعمار خلالها مختلف الأساليب الجهنمية ضد الجزائريين, من تشريد وحصار وتعذيب وتقتيل للقضاء على الثورة، غير أن صمود الجزائريين ومأقدموه من التضحيات الجسام أفشل جميع خطط الاستعمار وأحيرته على التفاوض والاعتراف بالاستقلال ،فانتصر الشعب الجزائري ديغول والقبول بالمفاوضات السرية ثم العلنية ما إن تسلم الجنرال – ديغول- لأول مرة في جوان 1958م كرئيس حكومة حتى جاهر الاستعمار بنواياه العدوانية ضد الثورة الجزائرية مبينا أطروحة المعمرين وأسطورة الجزائر الفرنسية ومراهنته من جديد كمن سبقوه ، ومارس سياسة الإصلاح السياسي والاقتصادي، رغم ذلك فلم تكن سياسته سياسة حرة وتحررية وواقعية، بل ظل مدة عامين رهين أطروحات المعمرين الحالمين بجزائر فرنسية بمنطق القوة وحده وراهن لحين على هذه القوة العسكرية الكبيرة وأمام تهدد مكانه ومصير ومصالح فرنسا أكثر وباستمرار الحرب الجزائرية الطويلة والفاشلة والمكلفة عن مختلف الأصعدة رغم استعمال فرنسا جميع الوسائل لإخماد الثورة إلا أنها لم تتمكن من ذلك، بل رضخت للتفاوض. كما يمكن تقسيم المفاوضات إلى نوعين: 1- مفاوضات سرية أولية لجس النابض وكانت كالتالي: - لقاء الجزائر أفريل 1956 - لقاء القاهرة بين محمد نيفر وقروس - لقاء بلغراد عاصمة يوغسلافية يوم 21-07- 1959 لقاء روما في الفاتح سبتمبر 1956 بين أمحمد يزيد ومحمد جعفر وعبد الرحمان كيوان مع بياركومين، وكانت هذه اللقاءات كلها عبارة عن مناورات من طرف فرنسا لمعرفة الثورة وقرارتها. 2- مفاوضات فعلية في الجمهورية الفرنسية الخامسة بدأت سنة 1960م جرت محادثات في مولان بين محمد بن يحي وأحمد بومنجل وممثلي الحكومة الفرنسية وقد فشل اللقاء لتمسك فرنسا بالحل العسكري فكان مجرد جص للنبض، 20 فيفري 1961جرت المحادثات في لوساون بين الطيب بوقرون، أحمد بومنجل وحرنا بومبيدو، إلا أنها فشلت بسب رغبة في فصل الصحراء وبجرأة الجزائر عرفيا. وفي 20 ماي - 13 جوان 1961م جرت محادثات بمدينة إيفيان الفرنسية (سميت محادثات ايفيان الأولى) بين كريم بلقاسم ومحمد الصديق بن يحي وأحمد فرنسيس وغيرهم من أعضاء الوفد الجزائري وبين لوس جركس من الجانب الفرنسي، حيث اعترفت خلالها فرنسا بأن السياسة الخارجية من صلاحيات الدولة الجزائرية، لكنها بقيت متمسكة بالصحراء في حين أصر الوفد الجزائري على التمسك بالوحدة الترابية للجزائر. أما ما بين أكتوبر- نوفمبر 1961 جرت عدة محادثات بال الأول وبال الثاني بسويسرا بين محمد بن يحي ورضا ملك وقد اعترضت هذه المحادثات صعوبات عديدة منها قضية الضمانات والمرافق العسكرية،استغلال الثروات الصحراوية ووقف إطلاق النار...إلخ وقد حاولت فرنسا المراوغة باتخاذها عدة أساليب منها: أ)- تطبيق فكرة الطاولة المستديرة.. ب)- إنشاء القوة التالية المتكونة من الحركى والعملاء المتواطئين مع الاستعمار بغية الاقتتال وعرقلة مسيريها.. ج)- التغاضي عن نشاط المنظمة الإرهابية والتي ظهرت في شهر فيفري 1960 وسميت بمنطقة الجيش السري، حيث قامت باغتيال المناضلين نسف الممتلكات بالمفجرات محاولة منها عرقلة المفاوضات وإفشال الاتفاقيات بين الحكومة المؤقتة والدولة الفرنسية، فهذه المناورات وغيرها دفعت الشعب الجزائري إلى تأكيد تعلقه بجبهة وجيش التحرير الوطني، فاندلعت العديد من المظاهرات على النحو التالى: - مظاهرات 11 ديسمبر1960 - مظاهرات 5جويلية 1961 - مظاهرات 01 نوفمبر 1961- مظاهرات 17أكتوبر 1961- استؤنفت المحادثات من جديد بصفة رسمية يوم 7 مارس 1962 بإيفيان بعد سلسلة من المحادثات الحاسمة نصت إتفاقيات إيفيان على الاعتراف الفرنسي ب: سيادة الشعب الجزائري- الوحدة الترابية للجزائر- وحدة الأمة الجزائرية- جبهة التحرير الوطني كممثل وحيد وشرعي للشعب الجزائري... وهذا إلى جانب التعاون في مختلف المجالات الاقتصادية، المالية والثقافية والفنية، وإلى جانب القضايا الفرنسية المعتمدة في الجزائر حقوق الكنيسة....إلخ. و بذلك حققت الهدف من بيان أول نوفمبر 1954 وهذا الهدف الذي ازداد تفصيلا ووضوحا خلال القتال وهي: 1)- الاعتراف بوحدة الشعب الجزائري... 2)- استقلال الجزائر وسيادتها... 3)- الإفراج على الأسرى والمعتقلين... 4)- الاعتراف بجبهة التحرير الوطني لجعلها الممثل الوحيد للشعب الجزائري. توقيف إطلاق النار كليا واسترجاع الاستقلال بمقتضى اتفاقية ايفيان تم توقيف إطلاق النار كليا على جميع التراب الجزائري يوم 19 مارس 1962 وتمخض عن وقف القتال ردود فعل إجرامية إرهابية قامت بها منطقة الجيش السري الفرنسية. ولقد خاض الشعب الجزائري تحت لواء جبهة التحرير الوطني كفاحا مريرا لاسترجاع استقلاله وحريته، وكان له ذلك بعد أن قدم الثمن غاليا يتمثل في قوافل من الشهداء مليون ونصف مليون شهيد ومئات الآلاف من الأرامل واليتامى ومئات الآلاف من المعتقلين والسجناء، إلى جانب تدمير آلاف القرى وتخريب ممتلكات الجزائريين، مما جعل الثورة التحررية تتصدر طليعة الثورات ضد الاستعمار في العالم. بعدما اعتلى الجنرال شارل ديغول الحكم في فرنسا وهو المعروف بالآمر بمجازر 08 ماي 1945، بادر بتغيير الدستور الذي اصطلح عليه فيما بعد بالجمهورية الخامسة، فوسع بمقتضاه من صلاحيات الرئيس ونقل إليه جلّ صلاحيات المجلس الوطني، الهيئة التشريعية، ومنح لنفسه صلاحية التشريع بأمر عند اللزوم فتخلص بذلك من قيود أدنى معارضة، إن كانت هناك معارضة لما يجري في الجزائر من قمع، وإلى جانب ذلك عيّن قادة من الجيش ووزراء كانوا مقربين منه عندما كان في الحكم من جوان 1940 إلى جانفي 1946، قام بعدها بتنظيم المواجهة مع الثورة الجزائرية، فعمد إلى تخطيط خطة عسكرية، فقفل الحدود الجزائريةالشرقية مع تونس والغربية مع المغرب بأن مدّ خطا بالأسلاك الشائكة عرضه يتراوح حسب المناطق ما بين 1.000 متر إلى 2.000 متر، وأمدّ هذا السلك بالكهرباء حتى تصعق أي مخلوق يقترب منه، ثم غرس في أرض ذلك الخط ألغاما فردية بحيث أن الذي يحاول المرور عبرها تتقاسمه الأسلاك الشائكة المكهربة وإن نجا منها تخرقه الألغام، ثم نصّب أنوارا كاشفة عبر تلك الأسلاك حتى إن حاول المجاهدون الاقتراب منها ليلا اكتشف عسكر العدو أمرهم . ثم أفرغ البادية جبالا وسهوبا من السكان وحشرهم في محتشدات محاطة بأسوار شائكة ومطوقة بالوحدات العسكرية كأنها ثكنة حتى لا يدخلها تحت الرقابة العسكرية إلا من هو من سكانها، وهو ما اصطلح عليه آنذاك بإفراغ البحيرة من الماء حتى تختنق من بقاعها من حوت - أي انتزاع الشعب من البادية حتى يموت المجاهدون-، ثم قسمّ جيشه إلى وحدات قتالية حسب التقسيم الجغرافي للثورة، الولاية الأولى فالثانية إلى السادسة، عمد بعدها إلى عملية ما أسماها بتمشيط كل ولاية تاريخية، فخصصت لها وحدات قتالية وتنسق أعمالها على المستوى الوطني – الجزائر- قيادة أركان على رأسها أقرب المقربين إلى ديغول، وهو الجنرال شال. أما العمليات العسكرية في حدا ذاتها فكانت تبدأ أولا بقذف مدفعي مركز توجهه طائرات استطلاع وتجسس تطير على ارتفاع شاهق بحيث لا تصلها نيران المجاهدين، ترصد تحركات المجاهدين وتبلغها لوحدات المدفعية عبر جهاز اللاسلكي. يلي هذا القصف قصف من نوع آخر بالطائرات بزيت – النابالم- رغم أنه محرم دوليا، وهو زيت معلّك عندما ينزل على المكان يلتصق به وهو يشتعل ولا ينطفئ إلا بعد أن يحترق الشيء الذي التصق به، ثم يلي بعد ذلك –الإنزال- بالقوات الخاصة المتنوعة بطائرات – البانان- توجهها طائرات الاستطلاع، تنزل هذه القوات خفيفة جديدة غير متعبة، عكس المجاهدين المرهقين، فتقضي على ما بقي حيا من المجاهدين، مع الأمر -بألا تبقي حيا- وهو الشعار الذي رفعه الجنرال الرئيس. دامت هذه العملية من ماي 1958 إلى نوفمبر 1960، حرم من خلالها المجاهدون من السلاح، إلا ما استولوا عليه من العدو ومن اللباس إلا ما جلبوه من عسكره أو بعض الوطنيين المخلصين القلائل الذين لا يستطيعون الوصول إلى المجاهدين في الجبال ليلا إلا بالمغامرة، بل حتى حرموا من لقمة الخبز بحيث صار المجاهد يقتات من الحشيش و النباتات وما تجود به أشجار الغابة إلا القليل القليل، حتى أن بعضهم كان عندما يرى نوعا من الحجر يتوهّم أنه كسرة، فصار المجاهد يحلم بشدق الكسرة، ناهيك عن عدد المجاهدين الذي استشهدوا في هذه الفترة فكانت هذه السنون وبالا على المجاهدين إذ استشهد خلالها حوالي 70 بالمائة مما استشهد من المجاهدين رحمهم الله، طيلة سنين الثورة السبع و النصف. هنا أعلن قادة الجيش الفرنسي-الغلبة- ونظموا لقائدهم -زيارة النصرّ- إلى الجزائر واختاروا له مدينة من المدن التي أسستها قوى الاستيطان، عين تموشنت ونظموا له مسيرات ترحيب يتقدمها عملاؤهم من - قيّاد وقادة حركة وقادة قومية وأعضاء لجان صالي بوبليك وعندما اقتربوا منه في طليعة السائرين فوجئ هو وقادة جيشه بعلم المجاهدين علم الجزائر، أبيض وأخضر تتوسطه نجمة يحضنها هلال أحمرين، فكانت الصاعقة. نقل الجنرال الرئيس على وجه السرعة إلى مركز قيادة العمليات بقاعدة الرغاية، لكن الفتيل كان اشتعل إذ استولت جبهة و جيش التحرير على زمام المبادرة، بحيث عمّت المظاهرات عبر أرجاء وطن الجزائر وكانت أبرزها تلك التي جرت في العاصمة وخاصة بشارع محمد بلوزداد رحمه الله، بلكور سابقا، حيث اصطدم المتظاهرون فيما بينهم متظاهرون تنظمهم مصالح قمع العدو -لا صاص - والمتظاهرون الذين دستهم جبهة التحرير من ناحية، ومتظاهرون مستوطنون من ناحية أخرى، فعمت الفوضى واختلط الحابل بالنابل فعجزت قوى القمع عن إخماد الحركة الشعبية بحيث دامت حوالي ثمانية أيام و لم تخمد إلا بشق الأنفس، إذ اضطّر العدو بأن يأتي بالوحدات القتالية من الجبال ليخمد بها تلك المظاهرات. تلك هي مظاهرات 11 ديسمبر 1960، فجاءت بردا و سلاما على مسيرة الثورة فكانت سندا شعبيا جديدا لجبهة وجيش التحرير الوطني، بعد -إضراب الثمانية أيام-، أبرزت للعالم أجمع تمسّك الشعب بالثورة ودعمه لكفاح جيش وجبهة التحرير، بهذه الانتفاضة الشعبية التي بقيت مثلا يحتدى لشعوب العالم المضطهَد والمضطهِد على حد سواء، تزلزلت أركان النظام القمعي الفرنسي الاستيطاني وما بقي له إلا الانسحاب، إلا أنه انسحب انسحابا ذكيا، إذ خرج من المدخنة وتراه اليوم يدخل من الباب الواسع، والحال أن جل اللذين كانوا سببا في خروجه يعجزون اليوم عن لقمة العيش، بل منهم من لا يملك مسكنا يلقى وجه الله فيه و ما يلقونه من البعض إلا السب والشتم، بحيث صار الشهداء ينعتون- بالشوادة والمجاهدون بالشراقين-، بل وصار البعض يقول للمجاهدين- من كلفّكم بإخراج فرنسا-، والبعض الآخر يقول- ديغول هو الذي أعطاكم الاستقلال-.