تحيي الجزائر اليوم الذكرى ال49 لعيدي الاستقلال والشباب التي توافق تاريخ 5 جويلية وهي محطة تاريخية شكلت معلما خالدا ونبراسا لكل التحولات التي عرفتها البلاد في مختلف مجالات الحياة، كما يشكل هذا التاريخ إعلانا لهزيمة المستعمر الفرنسي وتحريرا لشعب أزاح عن كاهله الذل والاستبداد، فكان كفاحه وانتصاره على أكبر قوة عالمية بمثابة رسالة إلى كل أحرار العالم بأن ما أخذ بالقوة لا يمكن استرجاعه إلا بالقوة. فبعد اندلاع الثورة التحريرية المظفرة سنة 1954 توالت نكسات المستعمر عسكريا وسياسيا وتعاقبت الأزمات والانقسامات الداخلية بفرنسا، لتتأكد بالتالي محدودية سياسة القوة العسكرية بقمع الثورة الجزائرية، مما أدى الى ظهور أصوات تنادي بالتعقل والحكمة والتفاوض مع جبهة التحرير الوطني واختيار الحل السلمي حفاظا على المصالح الفرنسية بالجزائر والتخلي عن الأساطير والأطماع الجنونية التي تجاوزها الزمن. لقد استعمل المستعمر مختلف الأساليب الجهنمية ضد الجزائريين، من تشريد وحصار وتعذيب وتقتيل للقضاء على الثورة، غير أن صمود الجزائريين وما قدموه من التضحيات الجسام أفشل جميع خطط الاستعمار وأجبره على التفاوض والاعتراف بالاستقلال. وبلاشك فإن هناك خطوات قد مهدت لتحقيق الاستقلال منها فشل الحل العسكري للفرنسيين، إذ ما إن عين الجنرال ''ديغول'' لأول مرة في جوان 1958 كرئيس حكومة حتى مارس سياسة الإصلاح السياسي والاقتصادي، فلم تكن سياسته سياسة حرة وتحررية وواقعية، بل ظل مدة عامين رهين أطروحات المعمرين الحالمين بجزائر فرنسية بمنطق القوة وحده. من جهة اخرى ورغم استعمال فرنسا جميع الوسائل لإخماد الثورة إلا أنها لم تتمكن من ذلك، بل رضخت للتفاوض الذي يمكن تقسيمه الى اثنين، مفاوضات سرية أولية لجس النبض ومفاوضات فعلية في الجمهورية الفرنسية الخامسة، وتمثلت الاولى في لقاء الجزائر في أفريل ,1956 لقاء القاهرة، لقاء بلغراد (عاصمة يوغسلافيا سابقا يوم 21/07/56) ولقاء روما في 1سبتمبر .1956 وهذه اللقاءات كلها عبارة عن مناورات من طرف فرنسا لمعرفة الثورة وقرارتها. اما المفاوضات الفعلية فقد بدأت سنة ,1960 حيث جرت محادثات في مولان بين محمد بن يحيى وأحمد بومنجل وممثلي الحكومة الفرنسية وقد فشل اللقاء لتمسك فرنسا بالحل العسكري فكان مجرد جس للنبض وفي فيفري 1961جرت محادثات في لوزان، إلا أنها فشلت بسبب رغبة المستعمر في فصل الصحراء وفي 13 جوان 1961 جرت محادثات بمدينة إيفيان الفرنسية (سميت محادثات ايفيان الأولى) حيث اعترفت خلالها فرنسا بأن السياسة الخارجية من صلاحيات الدولة الجزائرية لكنها بقيت متمسكة بالصحراء، في حين أصر الوفد الجزائري على التمسك بالوحدة الترابية للجزائر. وفي شهري أكتوبر ونوفمبر 1961 جرت عدة محادثات ''بال الأول'' و''بال الثاني'' بسويسرا حيث اعترضت هذه المحادثات صعوبات عديدة منها قضية الضمانات والمرافق العسكرية، استغلال الثروات الصحراوية ووقف إطلاق النار...إلخ. وبمقتضى اتفاقية ايفيان الثانية تم توقيف إطلاق النار كليا على جميع التراب الجزائري يوم 19 مارس 1962 وتمخض عن وقف القتال ردود فعل إجرامية إرهابية قامت بها منظمة الجيش السري الفرنسية. ولقد خاض الشعب الجزائري تحت لواء جبهة التحرير الوطني كفاحا مريرا لاسترجاع استقلاله وحريته، وكان له ذلك بعد أن قدم الثمن غاليا يتمثل في قوافل من الشهداء مليون ونصف مليون شهيد ومئات الآلاف من الأرامل واليتامى ومئات الآلاف من المعتقلين والسجناء، إلى جانب تدمير آلاف القرى وتخريب ممتلكات الجزائريين، مما جعل الثورة التحريرية تتصدر طليعة الثورات ضد الاستعمار في العالم. ويأتي احتفال الجزائر بهذه الذكرى في سياق وضع جديد تعرفه البلاد من خلال الارادة في وضع قطيعة مع افرازات السياسات السابقة التي لم تكن بمستوى تطلعات الجزائريين، والتي كانت ايضا نتاج الارث الاستعماري الثقيل بشكل مباشر أو غير مباشر، ولعل مرحلة العشرية السوداء التي عشش خلالها الارهاب الذي ضرب في العمق مؤسسات الدولة كان لها التأثير الكبير في تعطيل المسيرة التنموية للبلاد، فكان لابد من ارساء مسار جديد لوضع حد للمأساة الوطنية بحقن الدماء والتطلع الى مستقبل واعد من خلال سن قانون الرحمة أولا ثم الوئام المدني واخيرا المصالحة الوطنية، حيث عملت هذه الاجراءات على زرع بذور امل جديد في الشعب الجزائري، مثلما هي مزروعة في ضميره قيم الصمود ضد مستعمر الأمس وجعلت منه نموذجا للمقاومة من أجل الحرية والعدالة ورافضا للانقسام والتفرقة، فبعد ميثاق نوفمبر الذي يعد أكبر وأبرز ميثاق حدد معالم النصر والانعتاق للجزائريين وحدد لهم استراتيجية التطور والازدهار القائمة على روح التلاحم والتكافل والتضحية من اجل تحقيق مبادئ السلم والعلم والعمل ومواصلة مسيرة الشهداء من خلال معركة البناء والتشييد، جاء ميثاق السلم والمصالحة الوطنية ليعيد نشوة الانتصار للشعب الجزائري الذي رفع التحدي وأثبت مرة أخرى للعالم، تحليه بالوعي والحس الوطني واستئثار المصلحة العليا للوطن في مختلف مراحل تاريخه، ليشق طريقه على درب التنمية الشاملة، اذ في أقل من عمر سنوات الأزمة السياسية والأمنية تمكن من الانتقال من وضع أزموي إلى وضع تنموي فاتحا بذلك المجال لحركية اجتماعية واقتصادية جديدة. وبلا ريب فإن المكاسب والانجازات التي حققها الشعب الجزائري على مر سنوات تاريخه، ستكون دائما حافزا للمضي في تثمين وتعزيز مسيرة البناء والتنمية في ظل البرامج والمشاريع الكبرى التي تعرفها البلاد في شتى القطاعات الحيوية رغم العراقيل البيروقراطية التي مازالت تعتري بعضها. ومن أهمية الذكرى أن يتزامن الاحتفال بها هذا العام مع الاعلان عن جملة الاجراءات الاجتماعية لفائدة الشباب لا سيما في مجال التشغيل في اطار الإصلاحات التي اعلنها رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، مع إجراء مشاورات سياسية شملت مختلف الشخصيات الوطنية والتشكيلات السياسية دون اقصاء للاستماع الى آرائها ومقترحاتها بخصوص قضايا الاصلاح والمنحى الذي يفترض ان تأخذه الملفات السياسية الوطنية في اطار الديمقراطية والشفافية اللازمة.