الثنائيات الكثيرة التي شكلت في مجملها كافة الإشكاليات المتعلقة بالمؤتمر السادس لحركة فتح، لم تنجح الحركة خلال ذلك المؤتمر في تقديم إجابات واضحة على كل الأسئلة المتعلقة بها، وإن كانت قد استطاعت تقديم إجابات عن بعضها، فيما انقسمت تلك الإجابات إلى إجابات قاطعة جازمة، وأخرى ملتبسة تحتمل أكثر من تأويل. من بين تلك الثنائيات: (ثنائية الداخل والخارج.. والحرس القديم والجيل الجديد.. والتيار العرفاتي وتيار "أبو مازن – دحلان".. وثنائية حركة تحرر أم حزب سياسي.. وفتح السلطة أم فتح الحركة.. وثنائية الخطاب السياسي والفعل السياسي.. وكذلك الاصطفاف السياسي والاصطفاف المصلحي.. والقيادة الجماعية والقيادة الفردية.. إلخ).. تلك الإشكاليات (الثنائيات) ناورت قيادة "فتح" في بعضها، فيما حسمت في البعض الآخر. وكان هذا أمرا متوقعا منذ البداية، كون الحسم في كل تلك القضايا من شأنه إعادة ترتيب العلاقات الفتحاوية الداخلية من ناحية، والعلاقات بين فتح وبقية القوى السياسية الفلسطينية الأخرى لاسيما حركة حماس من ناحية أخرى، فضلا عن علاقة "فتح" بالمحيط العربي والإسلامي وكذلك بالمجتمع الدولي. ولأن أوضاع الحركة الداخلية الراهنة غير ناضجة لاستحقاقات الحسم في كل تلك القضايا، فقد آثر المتنفذون داخل الحركة أو الفريق الذي أمسك بتفاصيل المؤتمر الإمساك بالعصا من المنتصف في تلك المرحلة على الأقل، خاصة وأن المؤتمر قد عقد في ظل ظروف غاية في الصعوبة، جعلت من احتمالات انفجاره من الداخل أمرا واردا في كل الأحوال، وإن كان غير مرجح كونه أول مؤتمر يعقد بعد غياب ياسر عرفات الذي كان يجمع بين يديه كل ما يتعلق بالحركة والسلطة والمنظمة معا. بالإضافة إلى غياب قادة مؤسسين للحركة عن المؤتمر أمثال: "فاروق القدومي" الذي كان قد ألقى بقنبلة من العيار الثقيل قبل موعد انعقاد المؤتمر بخمسة عشر يوما، متهماً الرجل الثاني في الحركة والأول في السلطة والمنظمة بتهمة الخيانة العظمى، وكذلك غياب "محمد جهاد" عضو اللجنة المركزية الذي شكك في شرعية عضوية المؤتمر منذ البداية، فضلا عن "هاني الحسن" الذي كان قد هاجم في وقت سابق ما أسماه ب "تيار دايتون" داخل حركة فتح. وفوق كل ذلك غاب عن المؤتمر اكتمال النصاب السياسي، بعدما لم يتمكن ممثلو قطاع غزة من المشاركة في أعماله. إذا كان مؤتمر فتح السادس قد أنهى أعماله ولا تزال الكثير من الملفات التي تصدى لها مفتوحة؛ فإن الشيء المؤكد أن الحركة قد انكفأت إلى الداخل. فالمؤتمر عقد في الداخل، وجل أعضائه المشاركين كانوا من الداخل أيضا، لاسيما بعد إضافة (700) إسم إلى عضوية المؤتمر فجأة وفي الساعات الأخيرة من موعده المقرر (كلهم تقريبا من أبناء الضفة والمقيمين فيها). فضلا عن أن "فتح الخارج" لم تمثل سوى بمقعد واحد فقط بين ثمانية عشر مقعدا جرى الاقتراع عليها ضمن التشكيلة الجديدة للجنة المركزية للحركة، وهذا المقعد يشغله سلطان أبو العينين المقيم في بيروت. أيضا فقد انتقل رجل التنظيم القوي أبو ماهر غنيم إلى الداخل بعد إعلانه عن نيته الإقامة بشكل دائم في رام الله، وهذا يعني تلقائيا انتهاء واحدة من أهم وأعرق شٌعَب الحركة وأكثرها أهمية، وهي "شعبة التعبئة والتنظيم". والأرجح وفقا للمعطيات الراهنة، أن تنتقل قيادة هذه الشعبة وإدارتها بالكامل إلى الداخل فقط (سيجري البحث عن إسم جديد لإدارتها بعد خروج أحمد قريع من اللعبة)؛ ما يعني السيطرة المطلقة لفريق أبو مازن أو "فتح الداخل" على مفاصل التنظيم والخطاب التعبوي في الحركة، والتركيز في المرحلة اللاحقة في هذا الإطار حصرياً على الداخل. وفي السياق ذاته أفضت المحصلة النهائية لنتائج انتخابات الحركة لاسيما على صعيد عضوية اللجنة المركزية إلى خروج معظم رموز الحرس القديم، وهو أمر يعكس بشكل واضح استجابة الحركة لمنطق الأشياء في ضرورة تتابع الأجيال والكوادر بما يجدد دماء الحركة بعد ركود استمر أكثر من عقدين، أي ما قبل انعقاد آخر مؤتمر للحركة عقد في العام 1989. فقد خرج معظم الأسماء القديمة من قائمة اللجنة المركزية مثل: (اللواء نصر يوسف، وعبد الله الإفرنجي، وأم جهاد، وأحمد قريع، وحكم بلعاوي، والطيب عبد الرحيم)، بينما احتفظ أربعة فقط بوجودهم داخل اللجنة، هم: (نبيل شعث، وسليم الزعنون، وأبو ماهر غنيم، وعباس ذكي). فيما ابتعدت –واستبعدت- أسماء أخرى ك (صخر حبش، وزكريا الأغا، وهاني الحسن، ومحمد جهاد، وفاروق القدومي)؛ ومن ثم شكلت الوجوه الجديدة أغلبية داخل القائمة الجديدة للجنة المركزية. على أن استبدال الوجوه بأخرى على النحو السالف لم يحل دون أن تمثل التيارات السياسية الثلاثة التي تنافست في الانتخابات داخل اللجنة المركزية؛ فتيار مروان البرغوثي لم يحصل سوى علي ما كان متوقعا له، أي فوز مروان البرغوثي فقط بعضوية اللجنة، فيما لم ينجح كل من حاتم عبد القادر وقدورة فارس المحسوبين على البرغوثي. أما تيار عباس أبو مازن، فقد أثبت حضورا ملحوظا في تلك الانتخابات، لكنه لم ينجح في حجب التيار العرفاتي الذي كانت له الغلبة فيما يخص التمثيل، حيث فاز من تيار أبو مازن كل من: (ناصر القدوة، ومحمد أشتيه، وحسين الشيخ، ومحمد المدني، ومحمد دحلان). أما التيار العرفاتي، فضم كلا من: (عزام الأحمد، وصائب عريقات، وتوفيق الطيراوي، وعثمان أبو غربية رئيس المؤتمر، ومحمود العالول، وسلطان أبو العينين، وجمال محيسن، وجبريل الرجوب). أما عن خيارات الحركة وهويتها السياسية، فإن الإصرار على عقد مؤتمر الحركة في بيت لحم (أي في الداخل وليس في الخارج)، يمثل نقطة فاصلة في مسار الحركة، ليس فقط لكون ذلك سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ حركات التحرر الوطني أن تعقد مؤتمراتها العامة تحت حراب الاحتلال، وإنما لأن ذلك يبعث برسائل عدة مفادها أن الحركة قد حسمت خيارها السياسي، وغادرت مربع حركات التحرر الوطني، إلى مربع حزب السلطة الذي تراوح فيه الآن تأكيدا على مرحلة "بناء الدولة" كما يردد سلام فياض. وعليه فإن الحركة وفقا لمنطق كهذا تكون قد تجاوزت أشكال وموجبات العمل السري، وبالتالي فلا بأس بأن ينكشف قادتها وكوادرها وناشطوها أمام أجهزة المحتل وتحت بصره. ولا جدوى بعد ذلك من الحديث عن أن البرنامج السياسي الصادر عن المؤتمر نص على أن الحركة تتمسك بكونها حركة تحرر وطني، لأن ما حدث خلال مناقشات المؤتمر يؤكد عكس ذلك تماما؛ حيث ناقشت اللجنة السياسية برنامج السلطة السياسي وليس برنامج الحركة، على الرغم من أن الفارق كبير بين الإثنين، الأمر الذي عكس بوضوح ما يحدث لا ما يقال، وأن فتح أصبحت من وجهة نظر المتنفذين فيها حزبا للسلطة وليست حركة تحرر وطني. والشاهد على ذلك أن المظهر الرئيسي لفكر الحركة وممارساتها وسياستها قد تحول من حقل المواجهة والمجابهة مع مشروع الاحتلال وأدواته وسياسته، إلى حقل "الاعتراض" عليه والاكتفاء بمعارضته، ومن ثم تحولت مقاومة الاحتلال إلى حالة رمزية شعاراتية أو حالة تنافسية استعراضية، يجري توظيفها أحيانا لاعتبارات انتخابية، بدلا من أن تكون منهجا شاملا. ويمكن للمتابع لمسيرة عقد المؤتمر التي استمرت سنوات طويلة، ثم تفاعلت بشكل أكبر خلال السنوات الماضية، وتأججت كالبركان مع بداية العام الجاري، أن يرى أن النزعة إلى المنصب والاستئثار بالسلطة (القيادة) كانت السبب الرئيسي وراء تأخير انعقاد المؤتمر، لأن الهدف الأول كان في نظر الكثيرين في القيادات هو مراكز القوى، بمعنى حجز مقعد في اللجنة المركزية أو المجلس الثوري للحركة. ولهذا سمع الجميع في كل مراحل الحديث حول عقد المؤتمر عن "الكوتات" وعن التحالفات التي قامت إما على لغة المال أو المصالح الأخرى، كما سٌمِع أيضا عن الإنفاق الكبير للمال من قبل النافذين للوصول إلى مقعد "المركزية". وإذا كان شراء الأصوات بالمال بات مع الأسف أمرا مألوفا ومعمولا به في كل الانتخابات؛ فإن استعماله في انتخابات داخلية لحركة تحرر وطني يسيء للحركة، لاسيما إذا كان من يملكون المال ليسوا المناضلين الشرفاء، بل الذين تلوثوا بالفساد واغتنوا بمال السلطة، وبالمال الذي يتدفق عليهم من جهات خارجية غير حريصة على حركة فتح ولا على المشروع الوطني الفلسطيني، فضلا عن أنهم هم الذين تدور حولهم الشبهات بشأن تورطهم في اغتيال ياسر عرفات. وبالمقابل غاب بشكل شبه كلي أي حديث عن أطروحات سياسية برنامجية يجري تداولها بهدف الاستقطاب التنظيمي، حيث لم تعمد القيادة منذ تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر قبل عدة سنوات إلى إطلاق نقاش عام في كل مواقع وبنى الحركة التنظيمية، حول هوية الحركة وبرنامجها وخياراتها السياسية التي ينبغي أن تتبناها في ضوء إخفاق الخيارات السابقة، بل إنه لم يتم فتح النقاش حول كيفية تطوير هيكلية الحركة وبنائها التنظيمي وكيفية إعادة الحياة الداخلية إليها. وحتى عشية انعقاد المؤتمر لم يكن معظم المشاركين قد اطلعوا بعد على الوثائق المطروحة بشكل مسبق، فيما لم تلتزم اللجنة المركزية بتقديم تقريرها العام لأعضاء المؤتمر، واعتبرت الكلمة الافتتاحية لأبي مازن بمثابة تقرير سياسي. ومن ثم بدا واضحا أن الخلافات والتمايزات قبل المؤتمر وخلاله لم تتركز على مضامين وقضايا سياسة وفكرية، وإنما انصبت على قضايا تنظيمية ومصلحية، ودليل ذلك أن النقاشات التي دارت في معظم لجان المؤتمر كانت أقرب إلى العموميات منها إلى الدخول في القضايا المصيرية التفصيلية. وبالمقابل وصلت نسبة الذين نافسوا على عضوية اللجنة المركزية والمجلس الثوري إلى عدد أعضاء المؤتمر (1 إلى 3)، بما يعكس غلبة ذهنية الصراع على السلطة والامتيازات بين أبناء الحركة، وأن ثمة خلل ما في تحديد مفهوم القيادة والأعباء الجسام التي تحملها. إن هذا الواقع يعني فيما يعنيه تكريس وضع حركة فتح كحزب سلطة على حساب طابعها كحركة تحرر وطني. وفي السياق ذاته لم تنجح حركة فتح في الحيلولة دون منع مسئولي السلطة الكبار من الترشيح لعضوية اللجنة المركزية أو المجلس الثوري، وهذا معناه الاستمرار في ذات النهج وتأكيد التداخل ما بين السلطة واستحقاقاتها، وبين حركة فتح كحركة تحرر وطني. هذه الإشكالية لم تتوقف تداعياتها الخطيرة عند حدود توظيف المنصب لابتزاز الأعضاء، ومن ثم الحصول على أصواتهم وفقط، إنما تنسف كل حديث عن الثوابت وعن تمسك حركة فتح بالمقاومة بكافة أشكالها؛ إذ كيف سيتمكن وزير في السلطة أو مسئول أمني من التوفيق ما بين التزامه بحركة فتح كحركة تحرر، وبين التزامه بتعهدات واتفاقات تلتزم بها السلطة، سواء مع إسرائيل أو مع الرباعية الدولية، وضمنها استحقاقات خريطة الطريق الأمنية؟! وفي الإطار ذاته، فإن انتخاب عباس أبو مازن قائدا عاما للحركة إلى جانب رئاسته للسلطة، يثار بشأنه نفس الإشكالية السابقة، والأهم أيضا أنه يعكس بشكل واضح مدى إصرار قيادة فتح على الاستمرار بنهجها القديم في الاستخفاف بعقول الآخرين وحجب الحقائق عبر التلاعب بالكلمات، أو على حد قول أحد المراقبين "الاستمرار بنهج (قل ما تشاء.. وأنا أفعل ما أشاء)!! حصيلة القول إذن: أن واقع فتح الراهن، وإصرار قيادتها على الاستمرار بنفس طريقة العمل السابقة (كما بدا من وقائع المؤتمر والتحضير له)، أي سياسة التورية واللعب بالشعارات وحجب الحقائق سيأخذها إلى طريق آخر.. ومغزى ذلك أن مؤتمر فتح السادس لم يجدد فتح (بمعني حسم الخيارات وإعادة البناء والتطوير)، وإنما أسس لفتح جديدة مغايرة في هويتها وأهدافها وبناها التنظيمية. ولا شك أن الأيام القادمة ستؤكد أو تنفي هذا التحول، الذي لا يرتهن فقط لما حدث في المؤتمر، وإنما لطبيعة ما يمكن أن يحدث على صعيد التسوية، وعلى صعيد التطورات الدولية والإقليمية القادمة. باحث متخصص في الشئون الفلسطينية