لم أكن أتصور أن أقف ذات يوم على مأساة بهذا الحجم، فلأول مرة في حياتي أحسست حقا بعجز كبير في اختيار الكلمات للتعبير عما شاهدته من مظاهر الدمار التي خلفتها الفيضانات الأخيرة التي اجتاحت قرى وبلديات الطارف. وكأن الأمر يتعلق بنهاية العالم، بعدما أتت على الأخضر واليابس وأغرقت أحياء وقرى بأكملها، وطرقات مقطوعة وأخرى لا أثر لها، ومساحات زراعية شاسعة اجتاحتها السيول الجارفة. ما إن وطأت قدماي أول نقطة حدودية فاصلة بين ولايتي عنابة والطارف، باتجاه بلدية الشط، راودتني تلك الصور والمشاهد المرعبة لأمواج ''التسونامي'' المدمر، الذي ضرب اليابان، ولم يكن من السهل علينا الوصول إلى بلدية الشط عبر بوابة الطريق الوطني رقم 84، بعد أن منعنا من طرف أفراد الدرك الوطني من عبور طريق لم يعد له أثرا، بسبب اتساع رقعة الفيضانات غير المسبوقة التي فصلت المنطقة إلى شطرين، وباتت المياه تهدد أكثر من 50 حيا وقرية عبر 11 بلدية منكوبة. ويخشى المواطنون أن يبقى مستوى المياه مرتفعا لأسبوع آخر أو أسبوعين، مما يزيد من معاناتهم. دخولنا إلى أول نقطة متضررة ببلدية الشط، كان عن طريق جسر وادي مفرغ، الذي زرناه قبل يوم من وصول الوفد الوزاري الذي يقوده وزير الداخلية والجماعات المحلية، كونه من الأسباب الرئيسية في زيادة حجم الكارثة التي لحقت بقرى وأحياء أربع بلديات قريبة من مصب الوادي، بعد أن أقدم مسؤولو الشركة الأجنبية المكلفة بإنجاز المحطة الكبرى لتوليد الطاقة الكهربائية بمنطقة الدراوش، ودون دراسة تقنية دقيقة، على بناء جسر اسمنتي محاذ للجسر الرئيسي، فتسبب حاجزه الترابي المدعم للأساسات الأسمنية للجسر المخصص لعبور شاحناتها، في تضيق منافذ تدفق مياه الوادي، إلى حدود 20 مترا بدلا من 100 متر، مما أدى إلى تغيير الوادي لمساره نحو القرى والأحياء المجاورة له، مخلفا غرق مساحات شاسعة من الأراضي وتدمير تام لقرى وأحياء سجرة وبرج سمار، وحي بن عمار الذي يعد من بين الأحياء الأكثر تضررا بالولاية بعدما وصل منسوب المياه التي غمرت أكثر من 700 مسكن هش حوالي متر ونصف، استخدمت فيها قوات التدخل للجيش الوطني الشعبي والحماية المدنية الزوارق لإجلاء حوالي 300 عائلات بقيت عالقة داخل مساكنها المحاصرة. الحليب والخبز على متن شاحنات نقل القمامة تزامنت زيارتنا إلى حي بن عمار الواقع على بعد 500 متر فقط عن مطار رابح بيطاط بعنابة، مع غلق المتضررين لجميع المنافذ المؤدية إليه، حيث منعنا من دخوله والاقتراب من المكان بسبب تصرفات بعض المحتجين، مما اضطرنا إلى ترك السيارة بالقرب من الحاجز الأمني لمصالح الدرك الوطني، والاقتراب بحذر من جموع المحتجين الذين التفوا من حولنا بمجرد أن تم التعرف على هويتنا، حيث شرعوا في توجيه عبارات مسيئة إلى السلطات، بسبب التقصير و التماطل في تقديم المساعدات، رغم مرور أكثر من 72 ساعة على اجتياح الفيضانات لمساكنهم بمنطقة ''لاصاص'' التي تضم حوالي 1500 عائلة تقيم في محتشدات لا تتوفر على أدنى شروط العيش الكريم. دخولنا إلى حي بن عمار المنكوب كان رفقة بعض العقلاء، وشرع الشاب ''نور الدين'' في سرد تفاصيل الليلة المشؤومة، وهو الذي لم يعد له أي أمل في الحصول على حقه في السكن، كتعويض على منزله الذي غمرته المياه. وقال ''فقدت الأمل في العيش في كرامة، وإذا ما استمر هذا الوضع فسوف أضع حدا لحياتي وحياة عائلتي بتفجير قارورة غاز بوتان حتى نرتاح أخيرا ويرتاح منا المسؤولون، أيعقل أن نبقى في العراء لأكثر من 03 أيام دون أن يكلّف الوالي نفسه عناء التنقل إلينا، وطمأنة العائلات المتضررة بقرب موعد ترحيلهم إلى 300 سكن الجاهزة والمتواجدة على مشارف المدخل الرئيسي للحي''. وفي السياق ذاته، وجد رئيس بلدية الشط وقائد فرقة الدرك الوطني، صعوبات كبيرة في تهدئة المحتجين وإقناعهم بفتح الطريق المغلق لساعات طويلة، بعدما شعر المتضررون بوجود تهميش وحفرة مقصودة من طرف السلطات للتكفل بهم، وصلت إلى حد استخدام مصالح البلدية، حسبهم، لشاحنات القمامة كوسيلة لنقل المساعدات الغذائية من الخبز والحليب إلى العائلات المتضررة، الأمر الذي اعتبره المحتجون إهانة واستهزاء بهم من طرف السلطات التي لم يكلف مسؤولوها عناء استخدام مركبات لائقة تحفظ كرامتهم في الحصول على المساعدات والمؤونة. غادرنا حي بن عمار ببلدية الشط ورائحة دخان حريق العجلات المطاطية تملأ ثيابنا، صوب حي بوخبيزة بومنجل، بعدما سلكنا الطريق الولائي الوحيد الذي بقى مفتوحا أمام حركة المرور، بسبب غمر المياه لمعظم الطرقات المؤدية إلى ولاية الطارف، وقد أدهشنا موقف سكان هذا الحي الذين كنا نعتقد بأننا سنواجه في الدخول إليه نفس المصير الذي واجهناه من قبل، حيث وجدنا عائلات هادئة، تترقب وصول وفد من المسؤولين المحليين في أية لحظة للوقوف على حجم المعاناة والضرر الذي لحق بهم، وصدمنا عندما علمنا بأنهم وبعد مرور 03 أيام من اجتياح السيول الجارفة لمنازلهم، لم يظفروا بزيارة ولو مسؤول صغير لمواساتهم ونقل انشغالاتهم إلى السلطات العليا.. أول شخص اعترض طريقنا هو عمي ''لبيض العربي'' كان يعتقد بأننا من أعضاء خلية الأزمة التي شكّلتها السلطات الولائية قدموا إليهم لمنحهم المساعدات. وما أن تعرّف علينا حتى ابتهج فرحا وشرع دون انتظار في نقلنا من مسكن إلى آخر بحي بوخبيزة بومنجل، إلى أن وصل بنا إلى بيت كنا نعتقد بأنه مهجور، قبل أن نفاجأ بوجود امرأة بداخله كانت تحاول بوسائلها الخاصة إخراج المياه التي غمرت غرف منزلها على علو متر، بادرنا إلى طرح الأسئلة عليها فأجابتنا والدموع تسيل على خديها ''لقد فقدت كل شيء آثاثي وكل ما أمتلكه من حاجيات، وأصبحت أعيش كالمتشردة رفقة أولادي الخمسة، بعد أن قمت بتسليمهم إلى الجيران مرغمة خوفا من تعرضهم للأمراض بغرض المبيت والتكفل بهم ريثما يتم إصلاح الوضع''. عائلات بالريغية وأم العقارب وبورمانة والحويشية فرت نحو الجبال بعد مرور أربعة أيام كاملة على الفيضانات التي أدت إلى مقتل 4 أشخاص وشردت، حسب إحصاءات غير رسمية، ما يقارب 5 آلاف عائلة، مازالت تداعيات تلك الفيضانات تضرب في طول ولاية الطارف وعرضها، أمام عجز السلطات المحلية التي طالبت الحكومة، رسميا، بمد يد العون لها، بسبب عدم قدرتها على إنقاذ الضحايا وتعويض المستحقين منهم، حيث لاتزال خلية الأزمة، بعد مرور 5 أيام من تشكيلها، تحصي الأضرار المادية والبشرية، في الوقت الذي ترفض العشرات من العائلات الالتحاق بمساكنها، على غرار ما يحدث بمنطقة الحويشية ببلدية بحيرة الطيور الخاوية على عروشها بسبب المغادرة الجماعية للسكان وفرارهم نحو القرى الجبلية والمبيت داخل الإسطبلات الحيوانية، في انتظار أن تتحسن الوضعية. مشاهد وصور مرعبة وقفنا عليها بمنطقة الحويشية ببلدية بحيرة الطيور، حيث انتابنا الخوف، بعد أن وجدنا أنفسنا مع غروب الشمس محاصرين في جميع الاتجاهات بالمياه التي غمرت الطرقات ومحتها من الوجود، ومن ثمّ مرغمين على عبور الطريق الوحيد الرابط بين منطقتي الريحانية والحويشية، على الرغم من ارتفاع منسوب المياه إلى حدود نصف متر، واستغرق مرورنا إلى اليابسة على مسافة 30 مترا. حوالي 20 دقيقة. دخولنا إلى منطقة الحويشية التي ابتلع منسوب مياه مستنقع ''المكيدة'' الذي يمتد على مساحة 12 ألف هكتار، حوالي 70 بالمائة من أراضيها، جعلنا نقف على حقيقة حجم الضرر الذي خلفته الفيضانات، حيث تحول امتداد المستنقع إلى ما يشبه مدّ ''التسونامي'' نحو الأراضي المنخفضة، الذي التهم في طريقه عشرات المباني والمنشآت العمومية، منها المدرسة الابتدائية والعيادة المتعددة الخدمات، إضافة إلى وصول مدّ مياه مستنقع ''المكيدة'' الذي مسّ القرى المحيطة بأربع بلديات كبرى بالولاية، إلى غمر مياهه للمركز الوطني للأرصاد الجوية ووحدة التدخل السريع للأمن الوطني. المياه تغمر قصر الشادلي بن جديد آخر محطة في زيارتنا، كانت عند المكان الذي توفي فيه الشاب قميري خالد، رحمه الله، بقرية المالحة، على بعد 3 كيلومتر من مقر الولاية. وحسب شهود عيان بالقرب من مكان غرقه، ذكروا بأن خالد، رحمه الله، حسب روايات بعض أصدقائه ممن أجرى معهم آخر اتصال هاتفي قبل انقطاع خطه نهائيا، في حدود الساعة الحادية عشرة ليلا، فإنه طلب منهم إنقاذه والاتصال بالحماية المدنية لسحبه من المكان الذي علق فيه داخل سيارته من نوع بيجو207 بمجاري سيل وادي عين الخيار. وحاول المتوفى، حسب نفس الشهود، عبور الطريق الذي غمرته مياه السيول الجارفة، إلا أنه تفاجأ عند وصوله إلى نصف الطريق بوصول المياه إلى داخل محركه، ما اضطره، حسبهم، إلى التوقف خوفا من انحراف السيارة عن مسارها. وما زاد من معاناة المرحوم قبل وفاته، تعرض أحد المصابيح الأمامية للسيارة إلى عطب، ما صعب عليه الرؤية، حينها قرر البقاء داخل السيارة إلى حين قدوم من ينقذه. وفي الصبيحة تم العثور عليه على بعد 100 متر من مكان وجود سيارته، حيث يعتقد بأنه حاول الخروج من السيارة لتفادي الغرق، إلا أن أمرا طارئا وقع له، صعب عليه الوصول إلى إحدى الأشجار والتسلق إلى أعلاها، خاصة أن المعاينة الأولية، أظهرت بأن زجاج السيارة تم كسره. ومست الفيضانات العديد من المرافق والمنشآت العمومية والخاصة، منها قصر الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، حيث وصلت مياه السيول الجارفة إلى محيط القصر المتواجد بقرية السبعة ببلدية بريحان، المستغل حاليا من طرف أحد الحراس. رئيس بلدية الشط والمجلس الشعبي الولائي يتهمان مسؤولي السدود بمحاولة قتل سكان المدينة اتهم رئيس بلدية الشط والمجلس الشعبي الولائي، مسؤولي السدود بمحاولة قتل سكان المدينة، جراء إقدامهم على فتح مياه السدود الفائضة دون إخطار مسبق للجهات المسؤولة والمواطنين لأخذ الحيطة. وذكر المتحدثان ''أن السبب الرئيسي في تعرض الولاية إلى كارثة بهذا الحجم، يرجع إلى سوء تسيير من طرف مسيري السدود الأربعة، حيث أدى امتلاؤها، جراء سقوط كميات معتبرة من الأمطار وصلت إلى حدود 120 ملمتر، إلى فتحها، رغم التحذيرات المسبقة لمصالح الأرصاد الجوية في نشرية خاصة تم تسليمها لهم''. وأضافا بأن تدفق كميات كبيرة من السدود وبالأخص سد الشافية نحو الوديان، زاد من حجم منسوبها، وهي لم تخضع منذ فترة، حسبهما، إلى عمليات جهر، رغم تخصيص أكثر من 900 مليار سنتيم لمشروع ''الهيدروفلاحي'' لاستصلاح 17 ألف هكتار من الأراضي الفيضية بمناطق عين العسل، بوثلجة، بحيرة الطيور وبريحان. وطالب المتحدثان بلجنة تحقيق وزارية للوقوف على حقيقة إنجاز هذه المشاريع، خصوصا مشروع إنجاز الحواف الترابية للوادي الكبير على امتداد 30 كيلومترا.