بروز التيار الإسلامي خاطب المتجمهرين الشباب ملاحظا بأنهم حسب علمي ليسوا من حي بلكور و لا يقطنون به و أنه إذا كان الأمر كذلك فإنهم لن يقدموا أبدا على مثل هذا الفعل أي إضرام النار في حيهم و إن حاولوا الادعاء بأنهم من أهل الحي و من قاطنيه. شعر الشباب الذين كانوا متجمعين بالإحراج و الخطر المحدق بالبنايات و بعد أن أصغوا حيدا و استوعبوا ما قلت ، هرع الجميع الى إبداء الاستعداد طوعا للمساهمة في إخماد النيران المشتعلة ، خاصة و أن الحماية المدنية و فرق المطافئ كانت مجندة في أماكن متعددة و لم يكن بوسع فرق منها التوجه بسرعة الى حي بلكور ، و بطلب من المتظاهرين و إلحاح منهم أعطيت موافقتي لاستخدام الحنفيات و المواقع المخصصة لإخماد النيران كما طلبت المساعدة من السكان من خلال توفير دلو الماء الذي يساعد في جلب المياه أو خراطيش يمكن إيصالها بالحنفيات أو كل ما يمكن أن يساهم في إخماد النيران الملتهبة و التي كانت تهدد العديد من البنايات ، كما دعوتهم للمشاركة في إخماد النيران . و بعد جهد كبير و استخدام كميات كبيرة من المياه تراجعت ألسنة النيران مما مكنني من الدخول الى المركز التجاري للاطلاع على الوضع عن قرب و معرفة درجة و حجم الخسائر ، و بينما كنت أعاين حجم الخسائر و إذا بصوت يعلو و يناديني "عمي احمد من هنا من هنا و بعد تحديد الموقع الذي كان يأتي منه الصوت بالتقريب ، توجهت صوبه و هنالك تفاجأت بأنني عثرت على عون أمن برفقة عدد من المتربصين الذي ارتأوا الاختباء بعد شعورهم بالخوف من الحشود الكبيرة من المتظاهرين في الشارع ، فسارعت الى إخراجهم بسرعة لتوجيههم الى الدائرة السابعة للأمن ، إلا أننا فوجئنا بعد وصولنا بمحاذاة محلات "باطا" المتواجد آنذاك بمقربة من المركز التجاري بسماع أصوات تنبعث من داخل المحلات أيضا ، و وجدنا بداخلها عدد من الأعوان أيضا الذين أرسلوا لدعم المجموعات الأولى التي أرسلت و لكنهم فوجئوا بحشود كبيرة من المتظاهرين و اضطروا الى الاختباء هروبا من غضب هذه الحشود الكبيرة. بعد أن نجحت في إقناع البعض و تهدئة الوضع ، تفاجئنا بمجموعات جديدة من المتظاهرين الغاضبين الراغبين في إحداث الفوضى مجددا قادمين من حي "رويسو" و قد حاول هؤلاء إثارة المتظاهرين من جديد و حثهم على الثورة مجددا و لكن ذلك لم يتم و لم ينجح هؤلاء في اقناعهم و حينما لاحظت هذه المجموعات بأنها فشلت في مسعاها ، بدءوا في استهداف الدائرة السابعة للأمن و لكن محاولاتهم باءت كذلك بالفشل الذر يع . نجحنا في نجاوز الوضع و بعد أن تم إنقاذ المحافظة و العاملين بها و تأمين الموقع فضلا عن ضمان حماية الأشخاص ، استدعيت مجددا للتوجه بسرعة الى المحافظة المركزية التي أضحت مستهدفة أيضا من مجموعات من المتظاهرين. و تفاديا لترك عناصر الأمن التابعين للدائرة السابعة للأمن دون حماية طلبت دعما و بعد وصول وحدة خاصة من مدينة الشلف ، تنقلت مع العالمين معي للتوجه الى المحافظة المركزية ، و في عين المكان لاحظت أن المتظاهرين جلبوا جرارا لا أدري بالضبط من أين تم جلبه في محاولة منهم لاقتحام مقر المحافظة ، وقد حاول المتظاهرون احتلال الموقع ، و لكن عون الأمن مصطفى المكنى بالرقيب غارسيا نظرا لبنيته الجسمية و لتشابهه مع الممثل الذي يؤدي دور الرقيب في فيلم "زورو" نجح في القفز فوق الجرار و إيقاف سيره في الوقت المناسب و توقيف السائق . هجمات منسقة و مخطط لها. في السادس من أكتوبر عام 1988 ، سجلت هجمات منسقة أعتقد بأنها كانت مخطط لها لكونها كانت تتم في زمن واحد و استهدفت العديد من محافظات الشرطة في كل من باش جراح و بئر خادم و حي البدر و بلفور و رياض الفتح و باختصار في العديد من الأماكن ، لقد كان الأمر يتعلق بطوفان بشري و سيل جارف من المتظاهرين على مختلف محافظات الشرطة ، و بلغ الأمر ببعض المتظاهرين الى حد المطالبة بتسليم عدد من العناصر و الأعوان و الإشارة إليهم بالأسماء ، متهمين إياهم بالتعسف في استخدام السلطة أو بتوقيفهم و تعنيفهم و الاعتداء عليهم بعد توقيفهم. و بما أن تعداد الشرطة كان غير كافيا آنذاك فانه لم يكن من الممكن بل من المستحيل مواجهة كل هذه الموجات و الحركات في آن واحد ، و قد تكفلت الفرق التابعة للدرك الوطني التي استدعيت لتقديم الدعم بحماية عدد من المنشئات مثل قصر الحكومة و منطقة الرئاسة "غابة بولون" و " ساحة الغولف " و بعد أربعة أيام من المظاهرات تم استدعاء المرحوم الحاج صدوق الذي كان مكلفا بتسيير كافة العمليات ما بين التاسعة ليلا و العاشرة الى رئاسة الجمهورية و في الوقت الذي كان متوجها الى الرئاسة ، التقى بي على مفترق الطرق ل"موريتانيا" و أعلمني بأنه سيحظى باستقبال على مستوى عالي و أنه سيقوم بطرح كافة الانشغالات و يطرح الوضع خاصة فيما يتعلق بنقص تعداد أعوان الأمن و الوسائل الكفيلة بمواجهة مثل هذه الأوضاع. و لدى عودته في حدود منتصف الليل، توقف مجددا في ذات المكان الذي لقيني فيه قبل ذهابه و بعد أن دعاني الى التبات و الاستمرار في العمل ، أعلمني بأن الجيش سيتدخل لوضع حد للفوضى السائدة . بروز التيار الإسلامي و بالفعل و في العاشر من أكتوبر من سنة 1988 تموقعت دبابات الجيش على مستوى كل النقاط الإستراتيجية للعاصمة لتعيد الهدوء و يستثب الأمن ، و قد سمح ذلك للعاملين في سلك الأمن بأن يستعيدوا أنفاسهم المنهكة . و في يوم الجمعة من الأسبوع الذي عرفت فيه الأحداث تطورات كبيرة برز الإسلاميون بعد أن كان ظهورهم أو بروزهم غير مرئي و غير واضح للعيان ليظن بأنهم غير معنيين بالأمر ربما ، حيث بدأت مجموعات كبيرة في الظهور بصورة مفاجئة عبر أزقة شوارع العاصمة و قاموا بتنظيفها من أكوام القمامات و من الروائح الكريهة التي كانت تنبعث منها ، بعد أن تراكمت الأوساخ و القاذورات لأيام عديدة ، و في ذات الوقت و مباشرة بعد صلاة الجمعة نظمت مسيرة انطلاقا من حي بلكور باتجاه باب الوادي و بالتنسيق مع المرحوم عبوب عبد القادر رئيس مصالح الأمن الولائية و الاستعلامات العامة آنذاك تم تكليفنا بمنع المتظاهرين أن يسلكوا مسار نهج عميروش و هو الأمر الذي نجحنا فيه دون عناء و دون أي حادث يذكر ، حيث تم تحويل المسيرة باتجاه شارع شاراس ، و استمر الحشود في السير باتجاه البريد المركزي ، و لكن المسيرة حينما بلغت مستوى " ساحة وانوني" بدأنا سماع طلقات النار ، ثم تبعه رد ، مما تسبب في سقوط ضحايا للأسف، هذه إجمالا الوقائع التي حدتث إبان ما بات يعرف بأحداث أكتوبر 1988 التي تم توظيفها و استغلالها من قبل النائبة السابقة السيدة دليلة طالب و حركتها "راج" التابعة لحرب القوى الاشتراكية ، ليتم الاحتفال بها سنويا على مستوى ساحة الشهداء . و كخلاصة على ما جاء في سرد كل هذه الوقائع، يمكنني القول بأن أحداث أكتوبر التي أطلقتها أحزاب المعارضة في تلك الفترة تجاوزتهم الأحداث مع استمرارها ، ليتم استغلالها و توظيفها من قبل الحركة أو التيار الإسلامي ، حيث بدأ هؤلاء منذ تلك الفترة في التحرك و العمل في العلن و خرجوا بالتالي من السرية ليعلنوا عن أنفسهم و يبرزوا في الساحة جهارا. و للإشارة أيضا فان مصالح الأمن كانت على علم مسبق بأن إضرابا سيشن في الخامس أكتوبر و لكن لم يكن هنالك أية فكرة بأن الأوضاع ستصل الى جد العنف و بذلك الحجم الذي شهدناه ، إذ كان هنالك فعلا مظاهر الندرة لعدد من المواد المختلفة ، بالنظر الى تراجع أسعار النفط التي كانت تقدر ب 40 دولارا قبل ذلك لتنهار الى حدود 9 دولارات للبرميل ، و لكن الثورة التي قامت و ما انجر عنه من تحطيم و تخريب لم يكن مبررا لأن ما خرب بعد انجازه كان ملكا للجميع فإلى جانب محافظات الشرطة فان الهجمات استهدفت بنايات عمومية حيث تم تهشيم و تكسير الزجاج بالخصوص ، كما تم إحراق السيارات و سجلت حالات عديدة من السرقة و النهب و الاعتداءات و الحجز بالقوة . فالمراكز التجارية و المساحات الكبرى تم إفراغها من محتوياتها و سلبت كل المواد و التجهيزات التي كانت تحتويها، كما أعتدي على نساء ، بل وصل الأمر الى الاحتجاز و الاغتصاب ، أما أعوان الشرطة الذين وجدوا أنفهم معزولين في أماكن متعددة ، فإنهم لم يسلموا إلا بفضل عدد من المواطنين الشرفاء الذين قاموا بإيوائهم و منحهم ملابس مدنية لتفادي التعرف عليهم . و في نفس السياق ، يمكنني أن أذكر على سبيل المثال لا الحصر مقرات الشركة الوطني للتبغ و الكبريت بحي باب الوادي،أين كانت تخزن آلاف الصناديق المعبئة بأحذية رياضية من نوع "ستان سميث" والتي كانت موجهة للتصدير . وقد كنت أنا شخصيا، مع الإشارة أنني أنحدر من مدينة معسكر ، أعلم بوجود مصنع خاص ينتج أحذية رياضية لكنني لم أكن أدري بأن الأمر يتعلق بأحذية رياضية من نوع "ستان سميث" ، حيث تواجدت يوما في العاصمة الفرنسية باريس و اقتنيت معي زوجين لأطفالي ، و دفعت ثمنهما بالعملة الصعبة بالفرنك الفرنسي آنذاك .