كل سنة نتحدث عنها، و عن العادات الأصيلة فيها، وكل رمضان نقول إنها لا زالت تحتفظ بتميزها فيه، إنها القصبة، أكبر تجمع اثري ظل يجسد بين الركام الذي آل إليه نتيجة سياسة الإهمال المنتهجة ضده، العادات العاصمية العريقة، إلا أن الجولة التي قادتنا إليها أمس، كشفت لنا الحقيقة المرة التي تثبت أن القصبة ببساطة بكل ما تحمله من عادات وتقاليد مميزة، قد دخلت مرحلة الغيبوبة بعد سنوات من الصراع مع مرض الثقافات والعادات الدخيلة، الذي أخذ ينتزعها من أصالتها جيلا بعد جيل، إلى أن تمكن منها، اليوم العائلات التي تحيي رمضان بتلك الطريقة المميزة تعد على الأصابع، وجيل يفرط في الأمانة ويفضل العصرنة. زهرة دريش البداية ... واندثار عادات الأجداد في رمضان.. دخلنا القصبة من الطريق المار عبر أعرق مسجد بها، مسجد "كتشاوة" ،و لفت انتباهنا في بداية الطريق الذي يصطف على جانبيه الباعة، تهافت الرجال، و النّساء على ما كانت السيدة في القصبة تتلذ بتحضيره بنفسها، من أنواع الخبز التقليدي إلى القطايف، و الشاربات...، هذا المنظر هو الذي كان المثال الذي تحدثت عنه السيدة "وقنوني" ابنة القصبة التي لا زالت متمسكة بعادات القصبة التي شبت عليها،السيدة التي تحدثت بحسرة على ما تبقى من القصبة، تقول أن قلة قليلة جدا تعد على أصابع اليد الواحدة، لا زالت اليوم تحيي رمضان في القصبة على طريقة الأجداد، محدثتنا التي هي مديرة مؤسسة تعليمية،أرجعت ذلك إلى عوامل عدة أهمها أن اغلب السكان الأصليين للقصبة قد غادروها، كما أن الأجيال الجديدة تأثرت بالعوامل الخارجية، و تخلت على العادات و التقاليد، و خير دليل على ذلك تقول لجوء النسوة إلى شراء الجاهز، فيما كانت ابنة القصبة من قبل لا ترض بغير الذي تحضره بيدها،و لم تبق إلا عائلات قليلة تصنع القطايف والمحنشة في البيت، كشيء لا زال يميز رمضان فيها. تقول محدثتنا أن الدليل على أن الأمور تغيرت كليا بالقصبة أن في السابق كان الداخل إلى القصبة تشده رائحة الياسمين المنتشرة أشجاره في كل ربوعها، "هذا الياسمين الذي كنا نضعه في الشاربات. طهي الشربة في "الفخار" على النافخ شيء مقدس من أهم الأشياء التي تميز مائدة رمضان في القصبة، تقول السيدة "وقنوني" هي شربة الفريك، ككل الموائد العاصمية، إلا أن الاختلاف يكون في طريقة الطهي التي تتم في قدر من" ألفخّار" ، يوضع على النافخ( و هو إناء من الفخّار أيضا يوضع به الجمر لغرض الطهي)،و هو من أكثر الأشياء التي تميز مطبخ القصبة في رمضان خاصة، و هو الشيء الذي لم يتمكن سكانها من الحفاظ عليه، إلا القلة القليلة، تقول محدثتنا أن أهم شيء يطبع رمضان و لم تنساه رغم أنها لا تحييه لأنها الآن تقيم خارج القصبة، و هي القعدة التي تكون بعد الإفطار أي في السهرة، و التي حدثتنا عنها بحماس، لأنها وقتها كانت شابة ، حيث كانت العائلات تجتمع كل ليلة في بيت تتكفل صاحبته بتحضير القهوة والشاي، والحلوى التي تكون عادة قطايف ومحنشة، وخاصة مقروط العسل الذي يكون سيدة القعدة، هذه الأشياء تكون دائما في أواني نحاسية، والشاي لا يكون في غير إبريق النحاس. البوقالات والفال والمحاجيات ميزة السهرة تقول محدثتنا أن من الأشياء التي ظلت ميزة السهرة في رمضان القصبة، هو التفاف الفتيات العازبات حول كبيرات السن يسمعن البوقالات، ثم يتابعن الفال بشغف فهو نوع من التنبؤ بشيء سعيد، حيث تأخذ إحدى الجدات إناء نحاسيا و تضع فيه خواتم البنات، و في كل مرة تأخذ خاتما دون تحديد، على أن "تنوي" صاحبته شيئا في قلبها ربما يكون على الزواج، و تسمع في تلك اللحظة بانتباه، و الصوت الذي يصل مسمعها، تفسره لها العجائز، فكل صوت يوحي ببشرة معينة لصاحبة الخاتم، كالزغاريد مثلا بشرى لها بقرب زواجها، وهكذا تتابع العملية إلى أن تسمع كل الشابات فألهن،و بعدها تعمد اكبر العجائز سنا إلى سرد الحاكيات القديمة التي تسمى "بالمحاجيات"، وتحمل الكثير من العبر،إضافة إلى طرح الألغاز، وقول الحكم، تتواصل سهرة العائلات في القصبة بالغناء الذي لابد أن تستعمل فيه الدربوكة و الطار، في الوقت الذي يكون فيه الرجال في المساجد لأداء صلاة التراويح. خالتي "زهور" لا زالت متمسكة بعادات القصبة في الرحلة التي قادتنا إلى القصبة أرهقنا البحث عن عائلة لازالت " قصباجية" حقيقية، و بعد اللف كثيرا، وكانت اغلب من تحدثنا إليهن يبدوا من لهجاتهن أنهن لسنا بنات القصبة، ومع ذلك تحدثن عن رمضان الذي فقد نكهته في القصبة بعد أن تخلى سكانها على ما كان يميزهم عن غيرهم،و في تلك الأحياء أرهقنا المشي وسط الحطام، وتملّكنا الخوف من أن نروح ضحية سقوط بقايا البيوت المنهارة، وبدل رائحة الياسمين التي كانت تعبق القصبة سابقا، كانت رائحة الرطوبة منتشرة في كل البيوت و الأركان وبعد مدة دلّنا احدهم على بيت قال أن به عجوزا لا زالت تحافظ على تلك العادات التي اندثرت، عند وصولنا إلى البيت دخلناه وكان عبارة عن "دويرة"، ولما وصلنا إلى "وسط الدار" لمحنا سيدة مسنة ممدة على سرير في إحدى الغرف، بمجرد أن لمحتنا ابتسمت لنا، و طلبت منا الدخول، و بكرم ابنة القصبة الأصيلة استقبلتنا، وانضمت إلينا جارتها، خالتي "زهور" البالغة من العمر 84 سنة، تحدثت بحماس على التحضير لرمضان بدء بطلي البيت، وغسل أعمدة الدويرة في شعبان، و الذي لم تفوته هذه السنة، أما عن تحضير الفطور، والسهرات، والقعدة بعد الإفطار، فقد أكدت خالتي "زهور" أنها تحاول عدم التفريط فيها، وهي متمسكة بها إلى يومنا هذا، ليس بتلك الطريق لكنها، تجتمع مع عائلتها الصغيرة بعد الإفطار ويتناولون الشاي والقطايف والصامصة... ،أثناء مشاهدة التلفاز، الذي ارجع إليه محدثونا سبب تخلي سكان القصبة عن "القعدة" التي صار يعوضها، مما جعل العائلات تتباعد، تقول خالتي زهور إضافة إلى ما سبق ذكره من عادات انه في كل سهرة كانت احد النسوة تحضر معها عجينة،و توزعها على الحاضرات و خلال السهرة تتعاوننا على صناعة "المقطفة" لها. رجال يطهون "البوراك" في الخارج بعد أن خرجنا من هذه الدويرة عرجنا نلف القصبة من جديد و كانت الساعة تشير إلى حوالي الرابعة بعد الزوال، أين لفت انتباهنا بعض المحلات التي وضع أصحابها في الواجهة المكشوفة للمحل أنواع عدة، من المواد التي تدخل في طهي "البوراك"، ومن بينها البطاطا المسلوقة و المرحية ، و اللحم المفروم، و حتى الجمبري، و....، تقربنا من البائع الذي رحب بنا و قد بدا سعيدا وهو يحي إحدى عادات رمضان المتجذرة في بعض باعتها الذين ألفوا الشيء الذي ورثوه على أجدادهم، قال محمد الذي تعود على القيام بهذا العمل كل رمضان، أن هذه المواد قام بتحضيرها منذ مدة، وسوف ينطلق في تحضير البراك بها، وأنه ورث هذا على والذي ورثه بدوره عن أجداده، و هي شيء يحترفه الكثير من رجال القصبة.