بعد ذلك اليوم، لن يعود عيسى البطران ذو الأربعين عاما، إلى منزله أو ما تبقى منه، سيحمل ذكرياته بين أضلعه، ويهيم على وجه الأرض كما يفعل منذ أن قتل الاحتلال زوجته وأطفاله، وهدم عشه منذ اليوم، عيسى لا يعرف له عنوان، وتشتاق إليه أمه المسنّة، كما يشتاق له طفله الصغير عبد الهادي، الذي أنقذه الله من قصف صاروخي، جاء على غرفة مجاورة، قضي فيها على أشقائه ووالدته منال. منال، "أم بلال"؛ استشهدت مع أطفالها الخمسة، في قصف طالهم جميعا بغرفة مجاورة، لغرفة كان يؤدي فيها الزوج الصلاة، حينها كان عبد الهادي الرضيع صاحب12 شهرا، يحبو أمام عيني أمه إلى سجادة الصلاة بالغرفة المجاورة، ليقف على ساقيه الصغيرتين بالقرب من والده. صاروخ واحد "للتحذير"، سقط بالمنزل المجاور، فهرع قاطنوه إلى خارج البيت، لكن لأن عيسى كان يصلي المغرب، لم يمهله الصاروخ الآخر مزيدا من الوقت لإتمام الصلاة، أو النزول إلى سلم البيت هربا بالأطفال والزوجة، فكان القصف اللاحق الذي فتت الزوجة والأبناء. عيسى المعلم في مدارس "الأونروا"، بمخيم البريج، حيث يقطن، لم يصدق أن أطفاله الخمسة والزوجة سيكونون هدفا لطائرات الاحتلال حينما كان يصلي، سمع إبنيه بلال 7 أعوام، وعز الدين 4 أعوام فقط يتهامسون ويوجهون أصابعهم نحو طائرات الاحتلال التي تطلق بالوناتها الحرارية في السماء، ظنّ أن الأمر عاديا، إلا أن الطائرة ذاتها أطلقت صاروخا نحو الشرفة، التي يقف عليها الولدان، الصاروخ أخطأها وسقط في المنزل المجاور، هناك هرب الجيران بأطفالهم إلى الشارع، ولم ينتظر الصاروخ الثاني كثيرا، حتى جاء بحممه ليشعل الشرفة والأطفال ويرمي بهم إلى شجرة بالشارع العام، حيث وجدهم الناس. الوالد الذي لم ينه صلاته، بعد حمل طفله عبد الهادي ونزل به مسرعا إلى الأسفل، وعاد ليلملم أشلاء الزوجة وأبنائه الثلاث، إسلام 15 عاما وتوأميه إيمان وإحسان صاحبا العشرة أعوام. حمل الوالد ابنته إسلام، وكانت مشطورة إلى نصفين، وكانت الروح لا تزال نابضة في شرايينها، فأودعها في سيارة الإسعاف، وقبل أن تتحرك السيارة لفظت إسلام آخر شهقة لها بالحياة. بعد ذلك كان العثور على الزوجة أم بلال، والفتيات صعبا، فالأشلاء والدماء اختلطت، أما بقايا الأبناء فعرف منها أنها لبلال وعز الدين بالشارع ،على الشجرة القريبة. اليوم، لم يعد عيسى البطران، إلى بيته كما لم يعد إلى مدرسته، بعدما أصيب بالجنون. وكما يقول ذووه، فإنه لم ير طفله عبد الهادي منذ وقعت المجزرة في البيت، يعلمون أنه يشتاق لأطفاله وللزوجة وللطفل المتبقي، ولكنهم لا يملكون حتى اللحظة، إلا أن يداعبوا الطفل الوحيد ويحملوه قرب القلب، ويحاولوا إرضاعه حليبا غير حليب الأم.