قذيفة قتلت الجميع رفضوا إسعاف المصابين ضحية للهجوم الإسرائيلي على غزة غزة - علا المدهون لا يتوقف الطفل الرضيع أحمد السموني الذي لم يكمل عامه الأول عن البكاء بحثا عن حضن والدته التي قتلها "رصاص مسكوب" على سكان قطاع غزة بدأته إسرائيل في السابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 2008، وأنهته بعد 22 يوما متتالية.بقي الرضيع أحمد على قيد الحياة، بينما قتلت والدته أمام أطفالها الستة ليفطم هو قصرا ودون سابق إنذار، فيما وجدت شقيقته الكبرى شيرين ابنة الثلاثة عشر ربيعا نفسها مسؤولة عنه وعن 4 أطفال آخرين هي كبراهم.عندما يشتد البكاء بالرضيع أحمد، لا تجد شيرين التي أجبرتها آلة الحرب الإسرائيلية على أن تكبر قبل الأوان سوى البكاء والنحيب بجانبه.التقت "العربية.نت" بأطفال عائلة السموني؛ ليصفوا حادث مقتل والدتهم أمام أعينهم، فيما لازالت تسيطر عليهم حالة من الصدمة والذهول ممزوجة بخوف ورعب وهلع من مصيرهم المجهول.تقول شيرين "اقتربت الدبابات الإسرائيلية وزاد هديرها فيما رأينا بأم أعيننا طائرات مروحية تنزل جنودا مظليين في محيط بيوتنا". وتضيف "تجمعنا كلنا في غرفة واحدة حتى نلقى مصيرا واحدا إذا ما حدث لنا مكروه. كما أن كل أقاربنا تجمعوا في منزلنا بعد أن هدم جيش الاحتلال منازلهم". قذيفة قتلت الجميع وتكمل الطفلة شيرين قصتها، وهي تجهش بالبكاء، قائلة "في صباح اليوم التالي خرج ابن عمي لإحضار ماء لنا فأطلقوا عليه قذيفة وقتلوه على الفور. وما لبثوا أن أطلقوا قذيفة ثانية أدت إلى إصابة ومقتل جميع أفراد عائلتي، وقد أصيب جراء هذه القذيفة أخي الصغير محمود في أذنه ما دفع والدتي إلى أن تخرج حتى تحضر شيئا لإسعافه".وتتابع "مزقنا ملابسنا لتضميد جراح المصابين، وفي هذه الأثناء خرجت أمي لإسعاف أخي محمود، ولكن جنود الاحتلال المجرمين لم يمهلوها لا هي ولا نحن لتضميد الجراح وضربوا قذيفة ثالثة قتلت الجميع أمام عيني ومن بينهم والدتي".وتروي -بأسى- قصة مقتل والدتها فتقول "كانت أختي الكبرى تحمل أخي الصغير أحمد بينما خرجت والدتي لتفقد أخي المصاب محمود، وفي هذه الأثناء أطلقت القذيفة الثالثة مباشرة وقتلت أمي فورا، فيما أصابت شظية عين أختي الكبرى وقد دفعها الألم إلى أن تلقي أحمد على الأرض".وتضيف "عندما أطلقت هذه القذيفة كان التيار الكهربائي مقطوعا والغبار الكثيف والدخان يحجبان الرؤية، ولم أستطع أن أرى شيئا لا أمي ولا إخوتي، ولكن جنود الاحتلال جاءوا وأجبروا كل من نجا من الموت على الخروج من المنزل قبل أن يهدموه فوق رءوس الأحياء والأموات".وتتابع شيرين فيما لم تنقطع عن البكاء "خرجنا جميعا رافعين الرايات البيضاء، وكان جنود الاحتلال يضحكون ويستهزئون بنا. وكان الأمل لا زال يراودني أن أرى والدتي أو أن تكون لازالت على قيد الحياة، وأخذت أنظر يمينا وشمالا وفي كل مكان لعلها تأتي، ولكنها لم تظهر مرة أخرى".وأكدت أنها لم تعلم بنبأ وفاة والدتها إلا بعد أربعة أيام، عندما أزيلت الأنقاض من فوق من تبقى من العائلة المنكوبة، مشيرة إلى أن جنود الاحتلال ردموا المنزل على من تبقى من الجرحى "ومنهم والدتي".وتضيف أن أخيها الرضيع أحمد البالغ 11 شهرا "تعذب كثيرا بعد وفاة أمي، وظل يبكي لفترات طويلة". رفضوا إسعاف المصابين أما الأب المكلوم نائل السموني -39 عاما- فيجمع كل همومه وغضبه ورؤيته لواقع مدمر وغد مفقود بكلمات رددها خلال حديثه مع "العربية.نت"، قائلا "حسبي الله ونعم الوكيل على العرب واليهود".ويتحدث نائل عن اليوم المشؤوم، قائلا "القذيفة الأولى لم تسقط مباشرة على منزلي، ولكنها قتلت اثنين من أقاربي الذين جاءوا ليحتموا في منزلي، أما القذيفة الثانية فقد أسفرت عن مقتل عدد كبير من أبناء عمي وإخوتي، بينما القذيفة الثالثة قضت على الجميع بمن فيهم زوجتي حنان التي تبلغ 35 عاما، وابنتي الكبرى وكل إخوتي وأعمامي وأبنائهم. قتل الجميع ولم يبق أحد، حتى أنني لا أعرف كيف لا أزال على قيد الحياة".وتابع "نحن الناجون خرجنا فورا نرفع الرايات البيضاء، وبالطبع لم يكن لدينا رايات بيضاء، فأخذنا مناديل كان البنات يضعنها أغطية على رءوسهن ورفعناها رايات، إلا أن ذلك لم يشفع لنا عند جنود الاحتلال الذين قتلوا عددا منا وأعدموهم بدم بارد أمام أعيننا".وأضاف "عندما حاولنا أن ننقذ من يصاب على الفور كان جنود الاحتلال يهددوننا بأن من ينقذ مصابا سيلقى نفس المصير".ويوضح "لازلت أتألم على إياد ابن عمي الذي سمعته بأذني يستغيث ويصرخ ويطلب النجدة، ولكني لم أستطع أن أقدم له المساعدة؛ لأنني كنت سأقتل وسيبقى أطفالي وحيدين بلا أب أو أم. إصابته كانت بقدمه وكان يمكن إسعافه، ولكنه ترك لينزف حتى مات". فقدان الأطراف كضياع المحفظة"جرحى غزة في مستشفيات القاهرة يفضحون وحشية إسرائيل رغم انتهاء الهجوم الإسرائيلي على غزة منذ نحو أسبوعين، إلا أن تدفق المصابين الفلسطينيين على المستشفيات المصرية لا يزال مستمرا ومعه تتكشف أبعاد جديدة لمأساة انسانية بدأت قبل أن تسكت أصوات المدافع وتحمل بين طياتها صورا متعددة لمآسي عديدة.اضطر محمد يعقوب أن يغامر بالخروج من منزله بحثا عن الطعام من أجل أطفاله السبعة وزوجته الحامل في شهرها السابع، فأصيب بصاروخ اسرائيلي حطم ساقيه. وكان ذلك في اليوم التاسع عشر من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. أحمد تشوه وجهه تماما بفعل الشظايا حكى محمد ما تعرض له من على فراشه في مستشفى الهلال بالعاصمة المصرية قائلا: "كان أولادي يتضورون جوعا بعد أن حبسنا الهجوم الإسرائيلي في المنزل لمدة 10 أيام متتالية. يوم 15 يناير، قررت أن أخرج بحثا عن الطعام. فجأة سقطت القذائف كالأمطار وأصاب أحد الصواريخ ساقاي، وكما ترين فقدتهما".يعقوب، في الخامسة والثلاثين، لم يفقد ساقيه وحسب بل فقد السمع أيضا في أذنه اليمنى بفعل دوي القذائف التي ظلت تضرب القطاع لمدة 22 يوما متتالية وأدت لسقوط أكثر من 1300 قتيل بينهم نحو 400 طفل.خسارة يعقوب امتدت أيضا لتشمل طفلا آخر قبل أن يولد بعد أن أجهضت زوجته جراء ما تعرض له. ورغم ذلك بدا الجريح الفلسطيني متماسكا بصورة تدعو للدهشة، فغياب الأمن وأجواء الحرب المستمرة "ساوت بين الموت والحياة لدى الفلسطينيين في الداخل" بحسب تعبيره.قال يعقوب: "ماذا يمكنني أن أقول؟ فقدان أحد الأطراف أصبح الآن يشبه فقدان المحفظة أو مفاتيح السيارة. كل شيء أصبح لعبة في غزة".وأضاف "عدونا بلا رحمة. كنت أتساءل لماذا يعاودون القصف وقد اشتعلت سيارتي وأنا ملقى كأشلاء بجوارها؟".يعقوب لم يكن المأساة الفلسطينية الوحيدة، فقد كان الأطباء يدخلون ويخرجون مسرعين من غرف الطابق التاسع بمستشفى الهلال في وسط القاهرة حيث يرقد 110 مصاب فلسطيني يتلقون العلاج بعد تعرضهم لإصابات متنوعة بفعل قنابل وقذائف ورصاص إسرائيل.قال الطبيب ميخائيل مجدي جودة "للعربية.نت: إن "الإصابات تتفاوت بين عظام مشروخة وبتر إلى فقدان أجزاء بشرية بفعل الانفجارات. ورغم مأساوية الوضع، إلا أننا جميعا هنا أطباء وهيئة تمريض نصر على بذل ما في وسعنا لإنقاذ الضحايا". فقدان الإحساس الإصابات تتفاوت بين عظام مشروخة وبتر إلى فقدان أجزاء بشرية بفعل الانفجارات. ورغم مأساوية الوضع، إلا أننا جميعا هنا أطباء وهيئة تمريض نصر على بذل ما في وسعنا لإنقاذ الضحايا , حالة أخرى تمثل تحديا للأطباء بقدر ما تقف شاهدا على عمق المأساة وفداحة الجريمة الإسرائيلية في غزة، وهي حالة نضال فتحي السباك ذو الثمانية والعشرين ربيعا.فتحي فقد الإحساس تماما في الناحية اليسرى من الجزء العلوي من جسده وتنتظره سلسلة من عمليات الأعصاب الدقيقة.بينما كان فتحي في غرفة العمليات للمرة الثالثة منذ 30 ديسمبر الماضي، كان أخوه حامد وابن عمه يقفان خارجها ويرفعان أكفهما بالدعاء له.وغالب حامد دموعه وهو يحكي "للعربية.نت" مأساة أخيه "كان نضال يقود السيارة في غزة عندما أصابته قنبلة ففقد ذراعه الأيمن وقدمه اليمنى".وعلى بعد أمتار قليلة في نفس الصالة كان يرقد أحمد فؤاد عبدالعزيز ووجهه مشوه تماما بفعل الشظايا التي لم تترك بوصة واحدة في وجهه – حتى عينيه – دون أن تعبث بها.عم أحمد، توفيق عثمان، حكى عن إصابة أحمد "كان يجلس في المنزل عندما سقطت قنبلة على المنزل المجاور فخرج أحمد وغيره لمساعدة المصابين واستخراج جثث الموتى ممن احترقوا تحت الركام. وبينما هم يعملون فاجأتهم قذيفة أخرى فأصابت أحمد نفسه هذه المرة".وتابع عثمان "بدأ الأطباء بإزالة الشظايا من وجهه ثم نظفوا جسده منها وبعدها خيطوا وجهه الذي تمزق تماما"، مشيرا إلى وجه أحمد الذي رقد ساكنا على فراشه.ورغم ذلك إلا أن الأمل لم ينقطع تماما في أن يستعيد أحمد البصر في واحدة من عينيه نجت من الشظايا واستجابت لانعكاسات الضوء.أحمد سعد ضحية أخرى من غزة ولكنه لم يصب في الهجوم الأخير حيث فقد ساقيه ونصف ذراعه الأيسر أثناء غارة اسرائيلية عام 2006.يقول: "لم أتعرض للإصابة في العدوان الأخير ولكن الفرق الطبية التي دخلت غزة رأتني ونقلوني إلى مصر لتركيب أطراف صناعية مصممة خصيصا من أجلي حتى أتمكن من الحركة مجددا".من جانبه، قال الطبيب جودة أن "الأطراف الصناعية ضرورية جدا لسعد حتى يتمكن من أن يعيش حياة أقرب للحياة الطبيعية وهو لم يتمكن من ذلك في غزة بسبب سوء حالة المستشفيات".رفض سعد في البداية التقاط صورته خجلا ولكنه عاد ووافق على التقاطها حتى يرى العالم ما تعرض له. /////// "غزة لم تهزم، وما حدث في القطاع ليس مأساة ولكنه ملحمة, لكن الهزيمة الحقيقية والمأساة التي يندى لها جبين الشرفاء، هي من نصيب الواقفين على الضفة الأخرى من المنسوبين إلى الأمة العربية، الذين تقاعسوا وولوا الأدبار حين جد الجد" "جرح غزة أكبر من أن يلتئم لأجيال مقبلة, وشعورنا بالخزي والعار لا يمكن إنكاره، سواء لأننا لم نستطع إغاثة الفلسطينيين وهم يذبحون، في حين وقفت أنظمتنا متفرجة عليهم، أو لأن بعضنا كان عليهم وليس معهم أو لهم" "ضابط إسرائيلي: كنا نخوض حرب أشباح لا نرى فيها مقاتلين بالعين المجردة، لكنهم سرعان ما يندفعون صوبنا من باطن الأرض, لقد كنا نتحرك في الشوارع ونحن ندرك أن أسفل منا مدينة خفية تعج بالشياطين" يستحقون منا الحفاوة والإكبار أهل غزة .......شعب الجبارين فهمي هويدي أشهد أن أهل غزة يستحقون منا الحفاوة والإكبار، أكثر مما يستحقون من الرثاء أو الإعذار. أولا : أدري أننا مسكونون هذه الأيام بمشاعر اللوعة والحزن، جراء ما شاهدناه على شاشات التلفزيون من صور سجلت بشاعة البربرية الإسرائيلية التي فتكت بالبشر، وحولت القطاع إلى خرائب وأنقاض. كأن ما جرى لم يكن اجتياحاً عسكرياً، وإنما كان حملة انتقام وترويع استهدفت تدمير القطاع، وذبح أهله والتمثيل بهم، حتى يكونوا أمثوله وعبرة لغيرهم ممن يتحدون العجرفة والاستعلاء الإسرائيليين.أدرى أيضا أن الجرح أكبر من أن يلتئم لأجيال مقبلة. وأن شعورنا بالخزي والعار لا يمكن إنكاره، سواء لأننا لم نستطع إغاثة الفلسطينيين وهم يذبحون، في حين وقفت أنظمتنا متفرجة عليهم، أو لأن بعضنا كان عليهم وليس معهم أو لهم.ذلك كله صحيح لا ريب. لكن من الصحيح أيضاً أن دماء فلسطينيي غزة التي نزفت وأشلاءهم التي تناثرت وصرخات أطفالهم التي ألهبت ضمائرنا وما زالت أصداؤها تجلجل في أعماقنا، إذا كانت قد سجلت أسطر المأساة، إلا أن وقفة الشعب، وصموده الرائع ومقاومته الباسلة، هذه أيضاً سجلت صفحات مضيئة في تاريخ أمتنا لا ينبغي أن نبخسها حقها. يكفي أن شعب الجبارين هذا رغم كل ما تعرض له من حمم أمطرته بها آلة الحرب الإسرائيلية بكل جبروت وقسوة، ظل رافضاً للركوع والتسليم، وها هو سيل الشهادات التي سمعناها بعد وقف المذبحة على ألسنة الأطفال والنساء والشيوخ، كلها تجمع على أن طائر الفينيق الذي تحدثت عنه الأسطورة -ذلك الذي يخرج حياً من تحت الرماد- ثبتت رؤيته في غزة.لأنهم لم يركعوا ولم يرفعوا رايات التسليم فإنهم نجحوا وأفشلوا خطة عدوهم. صحيح أن هذا كلام لا يروق لبعض الساسة والمثقفين من بني جلدتنا ممن يرون أن شرف الأمة لا يستحق أن يموت المرء من أجل الدفاع عنه، إلا أن المعلومة تظل صحيحة، أعجبت أصحابنا هؤلاء أم لا تعجبهم. تشهد بذلك كتابات أغلب المعلقين الإسرائيليين، التي سجلها تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط في 19/1، تضمن خلاصة لتلك الكتابات. منها مثلاً أن رون بن بشاي المعلق العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت، ذكر في النسخة العبرية للصحيفة في (18/1)، أن إسرائيل فشلت بشكل واضح في تحقيق الهدف الرئيسي المعلن للحرب، المتمثل في تغيير البيئة الأمنية في جنوب إسرائيل. وهو ما لم يتحقق حين تبين أن حركة حماس مستمرة في إطلاق صواريخها. وهو نفس المعنى الذي أكده المعلق السياسي ألوف بن ، وكرره جاكي كوخي معلق الشؤون العربية في صحيفة معاريف الذي قال أن إسرائيل فشلت في توفير صورة النصر في معركة غزة، وأن ما تبقى من هذه الحرب هو صور الأطفال والنساء والقتلى. التي أوصلت إلى عشرات الملايين في العالم رسالة أكدت تدني الحس لدى الجيش الإسرائيلي. منها أيضاً ما قاله يوسي ساريد الرئيس السابق لحركة ميرتس في مقال نشرته صحيفة هآرتس "إن عملية القتل البشعة التي أنهت بها إسرائيل مهمتها في غزة تدل على أنها هزمت في هذه المعركة ولم تنتصر". أما المعلق عوفر شيلح فقد ذكر أن القيادة الإسرائيلية حين قررت تدمير غزة فإنها تأثرت في ذلك بالنهج الذي اتبعه رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين مع الشيشان وجورجيا، ثم أضاف "إذا كنا نريد أن نظهر كمنتصرين باستخدام هذا النهج، فويل لنا". ثانيا : صحيح أن المقاومة لم تستطع أن تفعل شيئاً يذكر أمام الغارات التي أطلقت فيها إسرائيل أقوى طائراتها النفاثة لأسباب مفهومة، إلا أن معركتها الحقيقة كانت على الأرض، حيث فاجأت المقاومة فيها إسرائيل بما لم تتوقعه. لم تهزم المقاومة القوات الإسرائيلية، لكن كل الشواهد دلت على أنها صمدت أمام تلك القوات، ووجهت إليها ضربات موجعة، أسهمت في إفشال مهمتها. ولا تنس أن يوفال ديكسن رئيس المخابرات الداخلية الإسرائيلية كان قد توقع أن يسقط القطاع في 36 ساعة، ولكن بسالة المقاومة أطالت الحرب، حتى اضطرت إسرائيل إلى وقف إطلاق النار من جانبها في اليوم الثاني والعشرين. ليلة الاثنين 12/1، والاجتياح في أسبوعه الثاني، فوجئ الجنرال يو إف بيليد قائد لواء الصفوة (غولاني) والعشرات من جنوده بأن النيران فتحت عليهم عندما كانوا يقومون بتمشيط المنطقة الريفية التي تقع شرق مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة. فما كان منه إلا أن اندفع مع جنوده للاحتماء ببيت أحد الفلسطينيين في المنطقة، كان قد تم إخلاؤه من سكانه.لكن ما إن تجمع الجنود والضباط في قلب المنزل، حتى دوى انفجار كبير انهار على أثره المنزل، فقتل ثلاثة جنود وجرح 24 منهم بيليد نفسه، وعرف أن ستة من الجرحى في حالة ميؤوس منها. وكانت تلك إحدى صور الاستدراج التي لجأت إليها المقاومة. ذلك أن إطلاق النار أريد به دفع الجنود للاحتماء بالمنزل الذي تم تفخيخه بالمتفجرات في وقت سابق.موقع صحيفة يديعوت أحرونوت على الإنترنت تحدث باقتضاب عن قصة ضابط آخر هو الرائد ميكي شربيط، الذي يرقد في إحدى المستشفيات للعلاج من إصابته في اشتباك مع رجال المقاومة الفلسطينية في شمال القطاع. هذا الضابط الذي خدم قائد سرية بسلاح المدرعات في حرب لبنان الثانية، استهجن تجاهل الإعلام الإسرائيلي الإشارة إلى شراسة المقاومة التي واجهتها القوات الإسرائيلية. وفي الحديث الذي أدلى به إلى النسخة العبرية لموقع الصحيفة وصف الحرب الدائرة وقتذاك بأنها "حرب أشباح لا نرى فيها مقاتلين بالعين المجردة، لكنهم سرعان ما يندفعون صوبنا من باطن الأرض. لقد كنا نتحرك في الشوارع ونحن ندرك أن أسفل منا مدينة خفية تعج بالشياطين".فوجئ الإسرائيليون بكل ذلك. واعترف روني دانئيل المعلق العسكري لقناة التلفزة الإسرائيلية الثانية بأن قوات الجيش الزاحفة واجهت مقاتلين أشداء، وقال على الهواء إن الإبداع العسكري الذي يواجه به نشطاء حماس الجيش الإسرائيلي فاجأ قادته بشكل صاعق. ونوّه إلى أنه محظور عليه التحدث عن المفاجآت التي تعرض لها الجنود الإسرائيليون في غزة، التي تفسر عدم قدرة هؤلاء الجنود على التقدم في كل القطاعات رغم مضي 19 يوماً على الحملة، رغم إلقاء الطائرات الإسرائيلية مئات الأطنان من القنابل الفتاكة لتقليص قدرة المقاتلين الفلسطينيين على المقاومة.في هذا السياق نقل أليكس فيشمان المعلق العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت عن عدد من الجنود في ساحة المعركة أن الهاجس الذي سيطر عليهم طول الوقت هو الخوف من الوقوع في الأسر. وأشار هؤلاء إلى أن مقاتلي حماس أعدوا شبكة من الأنفاق للمساعدة في محاولات أسر الجنود. ثالثا : هؤلاء المقاومون البواسل لم يهبطوا على غزة من السماء، ولكنهم أحفاد وأبناء شعب الجبارين، الذي لا يزال منذ مائة عام متشبثاً بأرضه التي رواها بدمه. لقد راقبت أبناء غزة الذين ظهروا على شاشات التلفزيون طوال المذبحة وبعدها، فلم أسمع واحداً منهم أعلن تمرده أو سخطه على الأوضاع في القطاع. كانوا جميعاً ودون استثناء أكثر نضجاً ونزاهة من كل الأصوات التي حاولت تمييع الموقف وإلقاء تبعة ما جرى على وقف التهدئة تارة أو على حكومة القطاع تارة أخرى. لم يروا إلا عدواً واحداً ومجرماً واحداً هو إسرائيل. وانعقد إجماعهم على أن حماس ليست الهدف، وإنما رأس المقاومة هو المطلوب وتركيع الفلسطينيين هو الهدف. رغم الجحيم الذي عاشوا في ظله والمآسي التي لحقت بهم، فإنهم لم يفقدوا صبرهم الأسطوري. وكشفت محنتهم عن معدنهم الحقيقي، بالتحامهم وتكافلهم وإصرارهم على الاستمرار والثبات على الأرض. القصص التي تروى عن المدى الذي بلغه الالتحام والتكافل لا تكاد تصدق، وكلها تثير الدهشة والإعجاب، يتحدث القادمون عن الموسرين الذين كانوا يشترون شاحنات الخضار وأكياس الدقيق ويوزعونها على المعوزين.يتحدثون أيضاً عن البيوت التي فتحت لمن دمرت مساكنهم، وعن الثياب والبطانيات التي جمعت لتوزع على الذين لاذوا بالخيام احتماء من البرد. وعن السيدات اللاتي أصبحن يخبزن يومياً مئات الأرغفة لجيرانهم، وأخريات كن يتناوبن طبخ العدس والبقول ويبعثن بالوجبات الساخنة إلى أماكن تجمعات الفارين من الجحيم. يتحدثون أيضاً عن الكيروسين الذي كانوا يتقاسمونه فيما بينهم يوماً بيوم، لإشعال المصابيح والمواقد البدائية التي أصبحت تهرب من مصر، بعدما اختفت هناك منذ عقود .. الخ.الذي لا يقل إدهاشا عن ذلك هو حالة الانضباط الشديد التي مر بها القطاع، فقد كانت أجهزة السلطة تتولى طول الوقت الإشراف على توزيع الخبز والبطانيات والكيروسين. ورغم أن الدوائر كانت معطلة، إلا أن رواتب الموظفين كانت تصل إليهم في بيوتهم. ورغم أن القصف المكثف كان يمكن أن يدفع ألوف البشر إلى الاتجاه صوب الحدود المصرية ومحاولة عبورها هرباً من الموت، إلا أن ذلك لم يحدث، ووقفت شرطة القطاع تحرس الحدود وتؤمنها. وفور إعلان وقف إطلاق النار، سجلت الفضائيات كيف تحركت الأجهزة لضبط المرور وإزالة ركام الأبنية المدمرة، والتخلص من النفايات. وقبل هذا وبعده، رفع الأنقاض بحثاً عن الأحياء وانتشال بقايا الجثث. لقد دبت الحياة في طائر الفينيق. رابعا : لقد كان المقاومون يعرفون جيداً أنهم سيواجهون العدو في واحدة من معارك كسر العظم، لذلك أطلقت كتائب عز الدين القسام على المعركة اسم "الفرقان" باعتبارها اشتباكاً مصيرياً يفرق بين الحق والباطل. وحسب مصادر الحركة، فإن المقاومة لم تخسر أكثر من 10% من مقاتليها، في حين أن قدرتها التسليحية مازالت جيدة، وبوسعها أن تواصل إطلاق صواريخها التي تكدر حياة العدو لشهر آخر على الأقل. بل إنها لم تستخدم الطاقة القصوى لمدى الصواريخ، لأنها أرادت أن تحتفظ به للتوقيت الذي تختاره. وأغلب الظن أن إسرائيل أدركت ذلك جيداً، وذلك هو التفسير الوحيد للوثة التي أصابتها وهي تستنفر أميركا وأوروبا وبعض العرب لكي يهبوا جميعاً لأجل وقف تهريب السلاح إلى غزة.غزة لم تهزم، وما حدث في القطاع ليس مأساة ولكنه ملحمة. لكن الهزيمة الحقيقية والمأساة التي يندى لها جبين الشرفاء، هي من نصيب الواقفين على الضفة الأخرى من المنسوبين إلى الأمة العربية، الذين تقاعسوا وولوا الأدبار حين جد الجد. وهم الذين وصفهم القرآن بأنهم: يحلفون بالله إنهم لمنكم، وما هم منكم، ولكنهم قوم يفرقون.