قد لا يصدق العقل أن أعظم جيش في منطقة الشرق الأوسط يقف عاجزا أمام عدة آلاف من المقاومين الفلسطينيين، ويعجز عن إحتلال أرضهم، لكن جولة بسيطة في مناطق المعارك تكشف عن أسرار معركة غزة الأخيرة، وعن التكتيك العسكري الجديد الذي استخدمتنه المقاومة الفلسطينية لأول مرة. بدأنا التجوال في غزة من ناحيتها الشرقية، وبالضبط من قلب منطقة جباليا، حيث أشهر وأكبر مخيمات قطاع غزة، وهناك اتضحت صورة التوغل الإسرائيلي، إذ تقع جباليا غرب طريق صلاح الدين، وبينها وبين إسرائيل بساتين زراعية و مصانع كثيرة إضافة إلى "مقبرة الشهداء" التي تضم بين جنباتها بعض أكبر الشهداء في التاريخ الفلسطيني، وبعدها مباشرة توجد الحدود الإسرائيلية التي تفصلها عن غزة مراكز مراقبة شديدة التحصين وجدران عالية، وخلفها يقع طريق مواز لطريق صلاح الدين ويسمى الطريق الشرقي، أما بين جباليا والمناطق الزراعية فينتصب جبل "الكاشف" الذي تحدث عنه الإعلام بكثرة أثناء الحرب باعتباره منطقة ساخنة تلقت إسرائيل فيها ضربات موجعة. رافقنا في جولتنا "أبو أحمد" وهو قيادي بارز في "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي"، والناطق باسم الجناح العسكري، حيث عرفنا على تكتيك المقاومة الفلسطينية الجديد، فقد فاجأت إسرائيل الفلسطينيين عبر عدم استخدامها لأي من الطرق التي اعتادت التوغل عبرها، وفضلت بدلا من ذلك القيام بتدمير العشرات من المساكن المتناثرة والواقعة شرق طريق صلاح الدين، وشق طريق جديد عبرها تفاديا للتعرض للعبوات الناسفة التي زرعتها المقاومة في الطريق المعتاد لآليات قوات الإحتلال الإسرائيلي، وتقدمت القوات الإسرائيلية ببطء شديد مع تغطية جوية كبيرة حيث كان سلاح الجو "يحرث" المنطقة حرثا بصواريخه وقنابله مع تقدم المشاة، وكان الهدف الأول للتقدم هو السيطرة على جبل "الكاشف" الذي يطل على مخيم جباليا ثم ضرب المخيم والقضاء على أي تحركات لفصائل المقاومة. "الكاشف" يرفض أن تطأه أقدام الإسرائيليين وصلنا إلى جبل "الكاشف" وقد كان منظره مفاجئا تماما، لأن من سمع وقرأ ما كتب عنه وعن الخسائر التي أوقعتها المقاومة في صفوف قوات الإحتلال فيه يتوقع أنه منطقة شديدة التحصين ومليئة بالأشجار، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، ف"الكاشف" ليس سوى هضبة متوسطة العرض، بينما يبلغ ارتفاعها حوالي ال200 مترا بالتقريب، وهي مقابلة تماما لمراكز المراقبة الإسرائيلية، ولا يفصلها عنها سوى أراض زراعية، ولعل أي مشاهد يزور المنطقة سيتوقع أن احتلالها مؤكد تماما إذ أن أي إنزال جوي يضمن السيطرة عليها، لكن الذي حصل غير ذلك. قال لنا "أبو أحمد" أن المقاومة رغم مفاجأتها بالأسلوب الجديد الذي استعملته قوات الاحتلال فقد هيأت هي الأخرى مفاجآت عدة للمحتلين، فبينما كان المقاومون سابقا يتحصنون في المخيم ولا يواجهون الإسرائيليين في المناطق المفتوحة ويتركون لهم السيطرة على "الكاشف" ثم يضربونهم من أمامه، فقد أعدوا خطة مغايرة هذه المرة، إذ فاجأوا قوات الاستطلاع الإسرائيلية بمجرد مغادرتها حصونها وضربوها بقسوة في اللحظات الأولى لتقدمها، فأوقعوا فيها خسائر عدة، وبعد ذلك حاول الإسرائيليون إطالة أمد المواجهة في المناطق المفتوحة لإرغام كافة المقاومين على الظهور إلا أن المقاومة لم تستدرج بهذه الخطة، وتركت الإسرائيليين يتقدمون نحو "الكاشف" ثم أعلنت عن ثاني مفاجآتها إذ أن مقاتليها كانوا قد حفروا أنفاقا في قلب المناطق المفتوحة، وبدلا من ضرب الإسرائيليين من ناحية المخيم فقد ضربوهم من خلف ظهورهم ومن المناطق التي يفترض أنها "نظيفة تماما"، ما قاد لبلبلة كبيرة في صفوف الإسرائيليين، وجعل طيرانهم غير قادر على التدخل بشكل فعّال حيث أن المقاومين كانوا متواجدين في ذات مناطق تواجد المحتلين، ولما حاولت المدفعية الإسرائيلية التدخل وفق أسلوب "جراحي" دقيق بهدف القضاء على بؤر المقاومة كانت النتيجة قتلها لبعض جنودها! أما المقاومين فكانوا يضربون ثم يعودون لأنفاقهم بسرعة وسط حيرة المهاجمين، أما المنطقة المحيطة ب"الكاشف" فقد لغمتها المقاومة بصورة احترافية، ولكنها أخّرت استعمال عبواتها الناسفة حتى وصول الإسرائيليين لقمة الجبل، وفي تلك اللحظة بالضبط، يقول "أبو أحمد"، هاجمت المقاومة الفلسطينية قوات الإحتلال من ثلاث جهات مختلفة، وقد شارك في هذا الكمين المحكم كل من "كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، و "سرايا القدس" و "ألوية الناصر صلاح الدين"، الجناح العسكري ل"لجان المقاومة الشعبية" عبر مخطّط منظّم بإحكام تمكّن من بثّ الرعب والبلبلة في صفوف المحتلين، وأوقع 13 قتيلا بينهم ومنعهم من التقدم باتجاه داخل جباليا وقد تكرّر الأمر في جميع حالات الاختراق الأخرى. "الزجاجة الجزائرية" تضرب بقوة في غزة بعد الانتهاء من التجوال في منطقة جبل "الكاشف" انتقلنا إلى بعض مناطق إطلاق الصواريخ شمال قطاع غزة، وفي هذه المرّة رافقنا أحد عناصر الوحدات الصاروخية لكتائب "عز الدين القسام" بهدف إعطائنا لمحة عن أسلوب عمل وحدته التي استمرت في إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل وقلب مناطقها السكانية والاقتصادية رغم ضراوة قصفها لغزة. ويتمثل الأسلوب الذي اتبعه "القسام" ومختلف الفصائل المقاومة في تقنية تعرف اختصارا ب"تقنية عنق الزجاجة"، والتي تم ابتكارها في فيتنام، حيث كان ثوار "الفيتكونغ" يقومون بإنشاء حفر بشكل طولي يختفي فيها المقاتل في ساعات القصف الجوي لمواقع الثوار، ومن شأن هذه الحفر أن تقلل لحد بعيد من تأثير أكبر القنابل على المقاتل والذي من النادر أن يصاب إلا في حالة توجيه ضربة مباشرة بشكل عمودي له، وهي حالة نادرة الحدوث، وقد نقل الجزائريون هذه الطريقة إلى مصر في حرب الإستنزاف وسمّاها الفريق سعد الدين الشاذلي ب"تقنية الحفر الجزائرية" في كتابه عن حرب أكتوبر 1973، واستفاد منها "حزب الله" تاليا، ثم جاءت إلى غزة وأدخل عليها المقاومون تعديلات جوهرية حيث تم تحويل الحفر من الشكل الطولي إلى الشكل المائل وتم تجهيزها بحيث لا يستعملها المقاتل وحسب، بل يتم استعمالها كقاعدة إطلاق صاروخي، بحيث يوضع داخل كل حفرة ما يشبه البرميل المعدني المزود بمنصة إطلاق وصاروخ يعمل بنظام إطلاق آلي يتم ضبطه بمؤقت خاص، وتخفى الحفر بشكل جيد في نقاط محددة وينصّب الصاروخ بحيث ينطلق لهدفه بشكل مباشر عبر قياسات يدوية و آلية ولا يكون محتاجا في إطلاقه إلا لتحرير "المؤقت"، وهكذا فحتى في المناطق التي سيطرت عليها القوات الإسرائيلية كان ممكنا للمقاومة إطلاق صواريخها من بين أرتال الدبابات الإسرائيلية، وحتى لو قامت طائرات العدو باستهداف منصة الإطلاق فإن هذا لا يعتبر إنجازا عسكريا لأن هذه المنصة ليست سوى برميل وقاعدة معدنية ومجموع ثمنهما معا لا يتجاوز بعض الدولارات!.. وقد كان مرافقنا سعيدا للغاية ونحن نقص عليه تاريخ هذه التقنية خصوصا أن الجزائريين هم أول من أدخلها للعالم العربي باعتراف اللواء سعد الدين الشاذلي. وحدة ميدانية وصمود بطولي وبعد إطلاعنا على تقنيات المواجهة الميدانية في غزة، والتي كان مستحيلا تصوير بعض أجزائها، فقد كان السؤال المطروح عن شكل التنسيق بين فصائل المقاومة وعما إذا حدثت إشكالات ميدانية بين بعض عناصرها، وهنا فقد توحّدت إجابات "أبو أحمد" و "أبو مجاهد" الناطق باسم "ألوية الناصر صلاح الدين" و المقاتل "القسامي"، حيث قال هؤلاء أن المواجهات السابقة بين المقاومين و جنود الاحتلال كانت تختص بنقطتين أساسيتين، أولهما حدوث بعض الاضطرابات بين القيادات الميدانية للمقاومة، حيث يحدث أن يكون في ذات المنطقة كمائن لأكثر من فصيل مقاوم، وقد يبدأ بعض القادة العمل بشكل منفرد بفعل عدم علمهم بتواجد فصائل أخرى معهم في ذات المنطقة، وهو ما كان سببا للحدّ من فعالية العمل المقاوِم برمّته ، أما في المعركة الأخيرة فقد كان التنسيق عاليا، حيث كان المطلوب من كل المقاومين تكبيد المحتلين أكبر الخسائر بأقل التكاليف، أما التفاصيل فتركت للتنسيق الميداني الذي كان ينطلق من أصغر وحدات المقاومة، وفي جبل "الكاشف" تحديدا قال لنا القادة الثلاث أن كلا منهم عرف بأمر الكمين الذي يعده الفصيل الآخر، وتم الاتفاق على أن يتم الهجوم لا من منطقة واحدة بل من ثلاث مناطق وفي توقيت واحد مما رفع من عدد قتلى العدو وملأ قواته رعبا، وفي غير ذلك من الميادين كان إبن "كتائب الأقصى" التابعة ل"حركة فتح" يقدّم لابن "القسام" ذخيرته رغم ما كان بينهما من خصومة دموية سابقا، وكان ابن "الألوية" يتقاسم طعامه مع ابن "السرايا" وكانت المعركة ككل دليلا على ما يمكن للوحدة الفلسطينية أن تصنعه. أما الملاحظة الثانية التي نبهنا إليها محدثونا، فتتعلق بطبيعة الأسلوب العسكري الذي غيّرته المقاومة بشكل كامل هذه المرّة، فبعد أن كان المقاومون يمكثون في مخيّماتهم ويهاجمون جنود الإحتلال بشكل مباشر وفي وضح النهار بأعداد كبيرة، وهو ما كان سببا لسقوط عدد كبير من الشهداء (في اجتياح جباليا قبل سنتين مثلا استشهد 120 مقاوما) فإن المعركة الأخيرة شهدت أسلوبا جديدا تمثل في الاعتماد بشكل كبير على أسلوب حفر الأنفاق و التمويه المحترف، بحيث لا يظهر المقاومون إلا في اللحظة التي يمكنهم فيها الالتحام المباشر مع قوات الإحتلال، فيضربونهم بكل قوة ثم يعودون لأنفاقهم ونقاط مراقبتهم المخفاة ببراعة، وهذا الأسلوب الذي نقلته المقاومة من حرب لبنان عام 2006 كان سببا مباشرا في تقليل خسائرها، وفي حديث الإسرائيليّين عن خوضهم لمعارك ضد "أشباح" يظهرون فجأة ثم يختفون بذات السرعة التي ظهروا بها دونما أثر! وأمام عجز المحتلين عن اكتشاف كافة منشآت المقاومة فقد انتقموا من المدنيّين وضربوا المدارس والمساجد بغير رحمة ولا إنسانية وكان غالبية شهداء الحرب على غزة من الأطفال و النساء والعزّل بينما أحصت فصائل المقاومة برمتها أقل من 100 شهيد وهو رقم يقل كثيرا عن قتلى العدو الإسرائيلي. هزمهم الأحياء فاعتدوا على الأموات كان المنظر في منقطة "مقبرة الشهداء" الواقعة على حدود إسرائيل الجنوبيةالغربية مؤثرا للغاية، وجامعا لصورتي الهمجية والانتصار، فإسرائيل التي تملك أعتى جيش في منطقتنا لم تستطع المرور داخل مناطق الكثافة السكانية العالية، وشقّت طريقها عبر تدمير المساكن الحدودية، بل بلغ بها الجبن أن هدمت جانبا كبيرا من "مقبرة الشهداء" لاستعمالها كممر آمن، ولكن لسوء حظّ القوات الإسرائيلية فإن كمائن المقاومة الفلسطينية تموضعت غير بعيد عن مقبرة الشهداء، وأثخنت في الإسرائيليّين قتلا وجرحا، وكم كان رائعا أن نلاحظ بأن القوات الإسرائيلية قد هزمت في منطقة لا تبعد غير عشرات الأمتار عن قبر واحد من كبار شهداء قادة المقاومة ، الشهيد القائد عماد عقل، و الذي شاء الله أن يظل قبره سليما ليكون شاهدا على هزيمة الإسرائيليين الذين لم تحمهم دبّاباتهم ولا حصونهم المدرعة، بينما ظلّ هذا القبر البسيط جدا سليما وسط حملة القصف والتدمير المنظّم، وتمكن تلاميذ عماد عقل من صد الإسرائيليين و إرجاعهم على أعتابهم خاسرين وانتصر شهيدنا حتى وهو داخل قبره.. ولم يجد المحتلون من وسيلة للانتقام سوى إطلاق الرصاص على قبور الشهداء في صورة تعكس همجيتهم وجبنهم. غدا: المقاومة تواجه تحدّي الخونة وإسرائيل تستعمل أعمدة الكهرباء للتجسس على الفلسطينيّين.