وفي صباح اليوم التالي اصطف حرس الشرف على رصيف الميناء لآخر مرة، في توديع ويلسن الذي استقل الباخرة '' لورنس'' إلى الهند. وقد جرى لي حديث معه قبل الرحيل، فوجدته مستاء استياء مرا من سير الأمور بوجه عام، ومن نظام الحكم الجديد المقترح على الأخص، حيث أن ذلك كان يعني انتهاء أحلامه المزوقة عن العراق، كدرة لامعة في التاج البريطاني. وفي الأخير كان الأسف يغمرني عندما رأيته يرحل، حيث أن مزاياه العظيمة التي لامناقشة فيها قد تبددت من أجل انحراف بال في الرأي، وأن البناء الذي حاول تشيده قد انهار، فأصبح أنقاضا بالية على مسمع منه، والخيبة من هذا القبيل لاسبيل إلى الرحمة فيها، وكان يومئذ في السادسة والثلاثين من عمره، وقد قدر له أن يتسنم مناصب مهمة في ''شركة النفط الإنكليزية - الإيرانية'' في الوطن والخارج، قبل أن يصبح عضوا نشيطا غير مؤثر من أعضاء البرلمان المحافظين، إلا أنه لم يحقق الآمال التي كانت معقودة عليه في أوائل العقد الثالث من عمره. مطامع السيد طالب النقيب وبعد ذلك ركب كوكس وعقيلته، وفي معيتهما جيزمن وأنا والسيد طالب أيضا، في ''مركب'' نهري إلى الكوت، ومن هناك أكملت السفرة بقاطرة خاصة من قاطرات الخط الحديدي الجديد، وقد كنا خلال الطريق منهمكين بالأوراق والمنقشات، وبذات كانت الرحلة فريدة في بابها، وقد جرت لي في هذه الأثناء بعض الأحاديث الخصوصية مع السيد طالب - كنت تعرفت عليه في الإسكندرية من قبل - فأسرني خلالها ببعض من مطامعه البعيدة، وكان هدفه الصريح بطبيعة الحال، أن يحصل على التاج العراقي، لكنه قبل كل شيئ كان في نفسه أن يصبح أميرا من أمراء الممتلكات البريطانية، ولم يكن يفهم لماذا لاينعم الملك جورج الخامس عليه بالإمارة، إذا كان في وسع الشريف الحسين أن يضع الأمراء من آل لطف الله اللبنانين! على أني لم أفش الأسرار التي ائتمنني عليها إلى أي أحد وخاصة إلى كوكس، لكنني لم أشجعه على مطمعيه هذين يومذاك وبعد ذلك بكل تبصر وروية. والحقيقة هي أنني كان لي أمل كبير في مستقبله، حيث كان من الواضح أنه كان أبرز شخصية في العراق، في الذكاء وقوة الشخصية، لكنه كان فيه جانب كبير من الطيش والغرور، ولذا كان مرهوب الجانب عند الناس ومكروها من معظهم، وإذا كان في الإمكان الإستفادة من مزاياه الحميدة واستخدامها استخداما تاما، فإني كنت أتكهن له أن دوره سيكون إدارة مصائر العراق المستقل لعدة سنوات، تأتي في أرجح المناصب التي تحتمها الظروف والأحوال - كمنصب رئيس وزارة مثلا أو رئيس جمهورية. ومنذ ذلك الحين أخذت أدربه على الاضطلاع بأحد هذين الدورين، ويجب علي أن أعترف هنا أنه كان تلميذا ذا أهلية وقابلية، بشرط أن تكون اليد التي تدربه فيها شيئ قليل من الود والصداقة، وربما كنا قد نجحنا معه، لولا أن تقف في سبيل ذلك بعض الظروف الخاصة التي سوف أبين شيئا أكثر منها في سياق هذا الأسبوع.