أنصت النجاشي ملك الحبشة الى الآيات من سورة مريم عن قصة ميلاد سيدنا عيسى المسيح عليه السلام، ثم أجاب بكلمات مضيئة أخرى في تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية، متوجها بالحديث الى جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه: "والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود". أي أن التصور الذي جاء في القرآن الكريم عن عيسى بن مريم لا يختلف عن التصور المسيحي الذي يؤمن به الملك إلا بحجم عود صغير في يده. أي لا خلاف يذكر على الإطلاق. ثم أصدر الملك بعد ذلك حكمه النهائي في القضية المرفوعة أمامه، فرفض طلب وفد قريش باسترداد اللاجئين المسلمين، ورد اليهم هداياهم التي جاؤوا بها، مبينا أنه لن يقبل الرشوة منهم. ثم جدد ترحيبه بالمسلمين، وأكد لهم أن من عاداهم فقد عاداه هو شخصيا، وأنه لن يقبل أن يؤذي واحدا منهم حتى لو دفع له جبل من ذهب مقابل ذلك. قالت أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وكانت ضمن وفد اللاجئين المسلمين الذين حضروا هذه الجلسات في قصر الملك الأثيوبي، وستصبح بعد هذا الموقف بسنوات زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم وأما للمؤمنين، قالت تلخص ما آل اليه أمر هذه المحاكمة، بالنسبة لمبعوثي قريش والى اللاجئين المسلمين: "فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار". يا لروعة الترابط والتضامن بين المسلمين والمسيحيين، وبين آل إبراهيم كافة، حين تصفو القلوب ويغيب التعصب. إن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام هو أقرب الناس لعيسى وموسى وبقية الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. جاء متمما للجهود التي بذلوها من قبله، متوجا لها، مبينا للناس نهج السعادة في الدنيا والآخرة، كما في الحديث الصحيح: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين". والمؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدين الإسلام، مؤمن بالضرورة بعيسى وموسى وبقية الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. بل معلوم إن ايمانه الإسلامي لا يصح ولا يقبل من دون هذا الشرط الأساسي، كما هو ثابت ومبين في قوله تعالى في الآية 258 من سورة البقرة: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله. وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانتك ربنا وإليك المصير". وبخلاف ملل أخرى تؤمن ببعض الأنبياء وترفض بعضهم، فإن المسلمين يدينون الله بمحبة كل الأنبياء عليهم السلام، وينتسبون لملة إبراهيم عليه السلام. ولذلك خالطت بشاشة الإسلام ملايين القلوب على مر العصور، فاعتنقه الناس من كل عرق وجنس ولون، ووجدوا فيه الطمأنينة والسكينة وسعادة الضمير. ومن أسرار عظمة الإسلام أنه يدعو إلى التوحيد الخالص. فليس لله ند ولا شريك ولا نظير. لم يلد ولم يولد. والخلق كله عبيده. ورحمته وسعت كل شيء فلا يحتاج الإنسان إلى وسيط بينه وبين أرحم الراحمين، كما هو مبين في الآية 186 من سورة البقرة: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعان. فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون".