إذا كانت الحرية هي التي صنعتنا كإطارات وشعب وأمة حرة عزيزة، فإن الشهداء الأبرار هم الذين صنعوا هذه الحرية وبنوا صرحها بجماجمهم ودمائهم الطيبة الزكية الطاهرة، ومن حقهم علينا جميعا أن نمجدهم وأن نحيي ذكراهم وأن نقدمها كصفحات من نور تهتدي بها الأجيال القادمة وتغذي بها روحها فتأبى الضيم ولا ترضى في حظها بالدنيئة فيسهل عندها البذل ويكثر العطاء والاستعداد للفدى لحماية هذا الوطن والدفاع عن هذه الحرية، كما قال بعض الحكماء ''إن الحفاظ على الاستقلال أصعب من نيله'' وما التاريخ إلا صورة لدينا دخلت في حكم الماضي، لكنها عبر وأحداث وحكم وتجارب ومعاناة سجلها التاريخ لتبقى في ذاكرة الشعب الجزائري ومن بين الأبطال الذين صنعوا أمجاد الجزائر الشهيد علي سواحي قائد الولاية التاريخية الأولى. من بوابة الشرق الجزائريتبسة مدينة التاريخ والآثار والعظماء التي تعتبر حصن الجزائر الشرقي ومجرى عوالي الفاتحين من عقبة بن نافع وابي المهاجر دينار إلى جحافل بني سليم وبني هلال يرى النور طفلا في رحاب بين متوسط الحال متصل النسب من ربيع العام 1932 ''16 مارس 1932'' لأب اسمه زين العابدين سواحي وأم اسمها إبراهيمي العطرة، وهو أخ لستة عشر من بنين وبنات، ومن هذا العش خرج وفي رحاب مدينة تبسة نما وترعرع ودرج شأنه شأن أبناء جيله وزمانه لتتفتح عيناه على عالم مظلم، حالك السواد يحتد فيه الصراع بين غالب متسلط جبار لا يعرف للرحمة قيمة ولا للإنسانية قدرا ومعنى ومغلوب ذاق من القهر والاضطهاد والحرمان والبطش ما افقده الحس بالطعن والذبح والتنكيل، ولحسن الطالع تظهر بظهور الطفل إرهاصات كان لها ما كان في مستقبله ومستقبل الأيام أنها إرهاصات النهضة وبذور التحفز والتأهب مثل ما هو الحال لرجالات التاريخ والثورة والوطنية أن يتسموا بسيم الخمول والجمود والكسل بل العكس من ذلك، حيث تبدو عليهم ومنذ عهد الصبى والطفولة بوادر النشاط والعصامية والتألق والطموح والشاب الشهيد سواحي علي واحد من أولئك العظماء، وقد عرف بالنشاط والحيوية والصدق في القول والعمل، فها هو عضو نشيط في الجمعية الرياضية ''الشبيبة الإسلامية الرياضية بمدينة تبسة، إلى جانب انخراطه في الكشافة الإسلامية وكل هذا يعني تكوينا وإعدادا تلقائيا لمستقبل جليل القدر عظيم الخطر فعلمته الرياضة الصبر وقوّت فيه روح التعاون والإخلاص وحب الخير لغيره مع سعة الصدر وحب النظام وهيأته الكشافة الإسلامية للإيمان بالله وبرسالة الإسلام، حيث عرف عنه التدين القوي والمحافظة التامة فكان حنين القلب، جياش عاطفة الرحمة مع كل رفاقه وملازميه، انضم الشهيد سنة 1945 إلى حزب الشعب الجزائري، حيث برز كعضو فعال ما أتاح له التعرف على برنامجه ومبادئه وأهدافه ومنهجيته في النضال وكانت له رؤية خاصة في أحداث 8 ماي 45 الأليمة، فعاش بوعي وإدراك وقدرة على التحليل والاستيعاب فازداد إيمانه بأن الحديد لا يفلح إلا بالحديد وأن الإستعمار الفرنسي لا يسمع نداء الحق ولا يعرف للمطالب الوطنية قيمة مادام هو الخصم والحكم همه القضاء على الشخصية الوطنية وجعل الجزائر امتدادا لفرنسا في الشمال الإفريقي والصحراء وهي الفترة التي بلغ فيها يأس وقنوت الجزائريين، ما جعل الشهيد علي سواحي ضالته في المنظمة السرية وراح يناضل في صفوفها مع الطلائع الأولى لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية مع رفاق منهم أحمد الأوراسي ''نور الدين سواحي''، وبجانب ذلك كان يعمل في دكان والده كخياط مع الإشارة إلى أن والده وأشقاءه معروفون بانتمائهم للحركة الوطنية ومع استمراره بالنضال ألقت السلطات الاستعمارية القبض سنة 1950 على شقيقه نور الدين وزجت به في السجن مما ترك جرحا عميقا في نفسية الشهيد علي فتحول إلى أكثر كراهية وعدوانية للاستعمار الفرنسي إلى درجة الاستعداد التام للثورة والإيمان أنها الرسالة الوحيدة التي تمكن من التخلص من كابوس فرنسا، ومع بداية العام 1955 تغيب الشهيد علي سواحي بدون سابق الإعلام لذويه وأقرب مقربيه فانتابت الحيرة الجميع، خاصة والدته وإخوته فمن قال إنه مسافر لقضاء حاجات عادية وبعد عملية بحث تأكد رسميا التحاقه بجيش التحرير الوطني وذلك عن طريق أحد أصدقاء العائلة من ولاية سوق أهراس وهو المدعو حسن حناشي ولما علمت السلطات الاستعمارية كان رد فعلها عنيفا لأسرته التشريد، السجن والتعذيب والمتابعة الدائمة حتى سنة 1957 وخلال إضراب الطلبة التحق أخوه الشريف سواحي بصفوف جيش التحرير الوطني وظل يراسل أسرته ويزودها بأخبار الثورة وأخبار أخيه، ومع بروز مكانة البطل الشهيد على اعتباره واحد من أبطال ناحية سوق أهراس التي عرفت أخيرا بالقاعدة الشرقية ونظرا لمستواه الثقافي الجيد ونشاطه المتميز عين من طرف المجاهد البطل قتال الوردي أطال الله في عمره، حيث كلف بشراء الأسلحة واستيرادها فأبلى بلاء حسنا، حيث زود وسلح كتائب وفصائل جيش التحرير الوطني بكميات معتبرة من العتاد الحربي فنجح في هذه المهمة نجاحا لفت نظر مشرفيه لخبرته في التنظيم والإدارة والتسيير فتم تعيينه سنة 1957 عضوا بمقر قيادة الولاية بالحدود التونسية الجزائرية كمسؤول على التموين وتحت قيادة العقيد لعموري محمد ثم العقيد احمد انواورة وهكذا دواليك ظلت إرادة البطل المجاهد علي سواحي ترقيه وتؤهله إلى أرقى وأخطر المهام طوال حياة كفاحه، فبعد مهمة التموين السالف ذكرها يعين في مهمة أخرى أكثر مشقة وأشد خطورة لأن ترقيات وتعيينات ذلك العهد لا توفر لصحابها أبهة ولا راحة ولا مدخولا بقدر ما تعني البذل والعطاء والتضحية لأجل استقلال الجزائر ''الشهادة أو النصر''، وفي ظل هذه القيم والمعاني السامية يعين الشهيد البطل في مهمة بأقصى الجنوب الجزائري وبالذات في منطقة الهڤار ليضمن الإمداد بالعتاد والذخيرة الحربية والتموين، وقد بذل مجهودات خارقة للعادة وقام بالمهمة على أحسن مايرام حتى أواخر سنة 1959، ليعود مجددا إلى الحدود التونسية ليعين ضمن قيادة تلك المنطقة فكان دوما صادق الحدس والتوقع والتحليل، جذاب الشخصية، حسن المعاملة لرفاقه وزملائه، ويواصل الشهيد جهاده ونضاله حتى انعقاد مؤتمر طرابلس الوطني للثورة الجزائرية، حيث كان من أعضائه البارزين ومن ضمن الدعاة الملحين على نقل القيادات من الخارج والمنفى إلى التراب الوطني. وفي شهر جوان 1960، عين البطل الشهيد ضمن أعضاء القيادة للولاية الأولى وفي ظروف جد صعبة وقاسية تحملت الولاية الكثير والكثير من أجل تحرير الجزائر، فركز الاستعمار الظالم القمعي جهوده على هدم حياضها وكسر شوكتها وتشريد سكانها وإبادتهم والقضاء على جحافل جيش التحرير الوطني في جبالها واعتماد سياسة الأرض المحروقة وتواصلت أيادي القمع الفرنسي من سفك للدماء وانتهاك الأعراض وخلق محتشدات للسكان وزرع الألغام والأسلاك الشائكة إلى غاية سنة 1960، عين الشهيد قائدا للولاية التاريخية الأولى وكان أول ما قام به بعد اتصاله بقيادة الولاية الأولى هو تفقد جميع المراكز على مستوى المناطق والأقسام وبعد تعرفه على الجوانب التنظيمية وإمكانات العدد والعدة شرع في تغيير وتجديد القيادات على جميع المستويات، ثم قام بتعيين مدربين على مستوى الكتائب والفصائل وخلق ميكانيزمات جديدة أكثر حيوية وديناميكية بتوزيع مجموعات وإصدار تعليمات حول مقادير وكيفيات التموين وعلاج المرضى والجرحى وكان البطل الشهيد يتنقل من مركز إلى آخر. الشهادة في سبيل الله وكان ذلك في اليوم الثامن من الشهر الثاني سنة 1961، في حين أن كتائب جيش التحرير الوطني تتمركز في الأماكن المعروفة ب''تينمر'' ماء احمد بن انصر غرب وادي الماء وفي حالة استعداد تام وطوارئ قصوى لمواجهة أي احتمال، وفي ليلة ال 9 من شهر فيفري وبعد اجتماع تم على مستوى مسؤولي الولاية والمنطقة الثانية وقادة الكتائب والأفواج تقرر عدم الانسحاب لتعذر ذلك بأي حال من الأحوال، وهذا يعني تأكد المواجهة والصدام من جديد لأن قوات العدو تنتشر على مساحة ما يقارب ال20 كلم مربعا وتحيط بكل الاتجاهات وهنا تضطر كتائب وفصائل جيش التحرير الوطني إلى التمركز بين كل من وادي سيدي فتح الله ووادي الماء في انتظار اليوم المشهود وفي هذا الظرف العصيب يتواصل حوار قادة الجيش حول ما هو ضروري للمعركة وما بعدها من ماء وغذاء ودواء، في حين أن الكتائب في حالة استنفار قصوى وعلى استعداد تام للمعركة، حيث واجهت من طرف الجيش الوطني الشعبي دوريات الاستطلاع وكانت معركة تاريخية كبرى سقط فيها المجاهد البطل شهيدا رفقة العشرات من إخوانه، وفي اليوم الموالي انسحبت كتائب جيش التحرير نحو كيمل في اتجاهات أخرى متعددة، تاركة وراءها 98 شهيدا وحوالي 30 جريحا، من بينهم العقيد الطاهر الزبيري، وقد ذكرت إذاعة ''مونتي كارلو'' آنذاك أن خسائر العدو الفرنسي تقدر ب 275 قتيل وعدد هائل من الجرحى، في حين أن ما يرويه جنود جيش التحرير الوطني من حاضرين عيان في تلك المعركة هو أن عدد القتلى في صفوف العدو يتجاوز ال500 قتيل، إضافة إلى عدد كبير جدا من الجرحى وكانت العديد من الصحف الفرنسية ومنها ''لا ديباش'' قد تطرقت وبالصورة إلى سقوط أسد الأوراس في ميدان المعركة.