إن موضوع الخشوع في الصلاة من المواضيع التي يسأل عنها الناس كثيراً، خاصة من نوَّر الله قلبه بالهداية وسلك طريق النجاة، فتراه يسأل كل شيخ وإمام وطالب علم، عن الطريق إلى الخشوع في الصلاة كما كان حالُ سلف هذه الأمة. ومشاركة منا في الإجابة على هذا السؤال الذي نحن أحوج الناس إليه نكتب هذه الرسالة، حتى نكون من الثلاثة الذين يستمر أجرهم بعد موتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: صدقةٍ جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولد صالح يدعو له). تعريف الخشوع الخشوع في أصل اللغة: الانخفاض والذل والسكون. فمنه: وصف الله تعالى الأرض بالخشوع، في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ومنه: وصف سكون أصوات الخلائق يوم القيامة بالخشوع، في قوله جل وعلا: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا}. ومنه: وصف الكفار والمجرمين يوم القيامة بخشوع أبصارهم ووجوههم، كما في قوله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}. وقوله جل وعلا أيضاً: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}. أما تعريفه عند العلماء، فقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (الخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل والجمعية عليه أي: اجتماع القلب عليه. وقيل: الخشوع الانقياد للحق، وهذا من موجبات الخشوع. وقيل: خمود نيران الشهوة، وسكون دخان الصدور، وإشراق نور التعظيم في القلب. وقال الجنيد - رحمه الله -: الخشوع تذلُّل القلوب لعلام الغيوب). أهمية الخشوع ومنزلته في الصلاة الصلاة صلة بين العبد وربه، وروح الصلاة الخشوع والتدبر وحضور القلب، والصلاة بغير خشوع كجسد بلا روح، وكيف يحيا الجسد بعد أن نزعت منه الروح؟. ولهذا افتقد الناس اليوم لذة المناجاة في صلواتهم، لأنَّهم ضيَّعوا روحها وأهملوا الخشوع فيها، فأصبحوا بعيدين عن ثمراتها وبركاتها، ومن أعظم تلك الثمرات: 1- الفلاح في الدنيا والآخرة: ومصداق ذلك قول الله عز وجل {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}. 2- تكفير الذنوب والخطايا: وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لِما قبلها من الذنوب ما لم يُوْتِ كبيرةً، وذلك الدهر كلَّه). وله في حديث أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه غُفر له ما تقدَّم من ذنبه). قال الإمام المقدسي رحمه الله: (واعلم أنَّ للصلاة أركاناً وواجبات وسنناً، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب، فإن الصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال. ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود بالأذكار والمناجاة، لأن النطق إذا لم يعرب عما في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال، لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة، ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم، ولم يكن القلب حاضراً، لم يحصل المقصود، فإن الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها. الخشوع محله القلب وثمرته أعمال الجوارح 1- حضور القلب، وسببه الهم والانشغال، وشدة الارتباط، فإنه متى أهمك أمرُ الصلاة وكان انشغالك بها دون سواها، حضر قلبك ضرورةً. 2- التفهم لكل لفظ يتلفظ به من قرآن وأدعية. 3- التعظيم لله والهيبة، وهو يترتب على ما سبقه من الهم والفهم. فالتكبير يعبر عن تعظيم. 4- الهيبة وهي مترتبة على التعظيم وداعية إلى الخشوع. 5- الرجاء وهو الرغبة في تحقق المطلوب من صالح الدنيا والآخرة. 6- الحياء وهو ثمرة ذلك كله، وهو حالة نفسية تحجز صاحبها عن مخالفة أوامر الملك الديان ونواهيه وعن كل مالا ينبغي. وقال حذيفة رضي الله عنه: (إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع). ورأت عائشة رضي الله عنها شباباً يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ قالوا: نُسَّاك، فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقاً. أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعاً). وقال حذيفة رضي الله عنه: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، وربَّ مصلٍّ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً). الدواء الناجع لحضور القلب والخشوع لا يلهي عن الخشوع إلا الخواطر الواردة الشاغلة، وعلاج ذلك في دفع تلك الخواطر ولا يُدفع الشيء إلا بدفع سببه، والسبب إما أن يكون ظاهراً أو باطناً. - فأما الظاهر، فما يقرع السمع أو يظهر للبصر، فإن ذلك يختطف الهم، فعلاجه أن يزيل السبب ويغض البصر ويبتعد عن الصلاة في الشارع وعما يشغله، ففي الحديث: (لما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الخميصة التي أتاه بها أبو جهم وعليها علم وصلى بها نزعها بعد صلاته، وقال:(اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأْتُونِي بأنِبجَانِيَّةِ أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي). وكذلك لما جُدد شراك نعله ثم نظر إليه في صلاته. - وأما الأسباب الباطنة فهي أشد، فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا، لا ينحصر فكره في أمر واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب. وعلاجه أن لا يدخل في صلاة إلا وقد أتم أموره وقضى ما عليه من واجبات. فقد روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن طلحة رضي الله عنه: (إني نسيت أن آمرك أن تخمّر القَرْنَيْنِ، فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي). ثم اليقين فإنه يعينه على الاشتغال بالصلاة وذكر الله. ويكمل الخشوع أولاً بتصفية الوقت من مراءاة الخلق، فيخفي أحواله عن الخلق جهده، كخشوعه وذله وانكساره، لئلا يراها الناس فيعجبه اطلاعهم عليها، ورؤيتهم لها، فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع الله، فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لاشيء، وأنه ممن لم يصح له بعدُ الإسلامُ حتى يدَّعِى الشرف فيه. وثانياً تجريد رؤية الفضل، فهو أن لا يرى الفضل والإحسان إلا من الله، فهو المانُّ به بلا سبب من العبد. صلِّ صلاة مُودِّع مما يعين على الخشوع ويدعو إليه، أن تدخل الصلاة وأنت ترى أنها آخر صلاةٍ لك، فالأعمار بيد الله، وقد يفاجئك الموتُ بعد هذه الصلاة فلا تدرك غيرها، فإذا كنتَ فيها محسناً خاشعاً كان هذا من سعادتك وحسن خاتمتك.