في الوقت الذي تعرف فيه الجزائر نقصا في الأوعية العقارية نتج عنه عجز فظيع في الحظيرة السكنية، حسب ما يذهب إليه الخبراء، فإنّ المشكلة تتأزم أكثر إذا ما اطلعنا على وضعية المدن العتيقة وما آلت إليه من احتضار وانهيار في صمت رهيب، فقد أصبحت الأحياء القديمة كالسويقة، القصبة بقسنطينة، وبلاص دارم في عنابة وأحياء أخرى بمختلف ربوع الوطن، تعود للحقبة الاستعمارية أو أكثر بكثير معرضة للانهيار اليومي الذي يهدد حياة قاطنيها في أية لحظة أمام مرأى السلطات المحلية. تعتبر المدينة العتيقة بعنابة المعروفة ب”بلاص دارم” صفحة من صفحات تاريخ بونة العريق، وهي صورة مصغرة لقصبة الجزائر وتكاد تحاكيها في نوعية الهندسة المعمارية ونمط البنايات المتداخلة والأزقة الضيقة، وبمساجدها وحمامتها وأسواقها الشعبية، تتربع على عرش التراث والفن المعماري التقليدي لولاية عنابة، بشكل استقطبت به زوارا وسياحا وكتابا وأدباء واستطاعت فرض نفسها وجذب اهتمام العديد من المواطنين منذ زمن بعيد، خصوصا في الفترة الصيفية وهذا ليس من باب موقعها على الواجهة البحرية فقط، بل من جانب شكلها العمراني الجذاب الضارب في عمق التاريخ، وحرص القائمون عليها آنذاك على الاعتماد على الجانب التقليدي، المتجول بين أزقتها يحس بالثقل والعمق الحضاري للمنطقة تضم بين طياتها العديد من العالم الأثرية من مساجد وأضرحة وزوايا وقلاع وحتى المنازل العتيقة، وأول ما يشد الانتباه الهندسة المعمارية التي أعطت لبونة سحرها البراق الذي يميزها بعمرها الزمني الذي تعدى 2000 سنة، وجاءت “بلاص دارم” على أنقاض مدينة “هيبون” بعد الفيضان الذي اجتاح الوادي المحاذي لكنيسة “لالا بونة”، حيث فر سكان عنابة الأصليون إلى بلاص دارم، لتسمى “المدينةالجديدة” وبعد الاحتلال حولها الاستعمار إلى مكان لتجميع الأسلحة ليطلق عليها اسم “بلاص دارم” وبقي لصيقا بها إلى يومنا هذا. وتحمل الشوارع والأزقة الضيقة والمتشابكة ببناياتها اللصيقة أسماء الأضرحة الكائنة بها، مثل حومة سيدي بلعيد، سيدي خليف أو تحمل أسماء المرافق الحيوية الكائنة بها مثل حومة الميزاب واستطاع المسكن التقليدي بمدينة “بلاص دارم” أن يتوفر على معظم الوحدات المعمارية والمرافق المعيشية التي يقوم عليها المسكن الإسلامي الأصيل مثل دار خوجة، ودار بنقي، وتشكل الأضرحة أهمية بالغة لدى سكان “بلاص دارم” وعددها سبعة منها سبعة رقود، سيدي أبو مروان الشريف وسيدي بلعيد، وتعتبر منطقة الفنقة أو بوقصرين وتقع بالقرب من الجسر أو قنطرة الهواء التي أسست في العهد الفاطمي تحفة بحد ذاتها، إلى جانب دار الباشا والتي تعد آية في الجمال المعماري العثماني الإسلامي، وقد أنشئت للتقاضي بين السكان، ودار السرايا أين كانت المقر الرئيسي للقنصل الفرنسي وهي الأخرى تحفة فنية تاريخية ولا تضاهيها إلا البناءات التي هي في مرتبتها التاريخية العالمية، وجامع أبو مروان الشريف الذي تم بناؤه سنة 1030م من طرف أبو الليث البوني، أي بعد أن أنشئت المدينةالجديدة في أواخر القرن 10م، وقد أخذ تصميمه المعماري من الزخرفة التركية، وتعتبر المئذنة المربعة وأحادية الشرفة التي هي من إنتاج أندلسي استمد أصوله من مسجد قرطبة، ليصبح جامع أبو مروان الشريف، عاصمة الحضارة الإسلامية “ببلاص دارم”، وقد يتوافد لزيارته كل سنة أكثر من 1000 زائر وسائح أجنبي.. الأمر الذي ساهم في تحريك الانتعاش السياحي بعنابة، إلا أنه يعتقد أن “بلاص دارم” فقدت قيمتها التاريخية والحضارية، لتبقى إعادة الاعتبار للمدينة القديمة عن طريق المحافظة على وجهها التاريخي الزاخر وإنقاذ ما تبقى منها حقيقة لا مفر منها. .. ومعلم يصارع المجهول هذا الإرث الوطني المميز أصبح مع مرور الوقت عرضة لمجموعة من الأخطار التي تهدده بفعل عوامل متداخلة، فمن مجموع 602 بناية موجودة بالمدينة نسجل 19 بالمائة فقط سليمة وجيدة، بينما 44 بالمائة تستدعي الترميم فيما يصبح التهديم الحل الوحيد ل37 بالمائة المتبقية لمجموع 2218 سكن تأوي 10377 نسمة. وحسب تقرير الديوان المكلف بالترميم فان الوضعية قد زادت تفاقما بعد أن لحقه الإهمال والتهميش سواء من طرف المالكين الخواص الذين يستحوذون لوحدهم على 76 % من الأملاك العقارية أو من طرف ديوان الترقية والتسيير العقاري. الذي يملك 18 % وتبقى النسبة المتبقية تراثا وطنيا وممتلكات دولة، ومن المؤسف حقا أن جل المؤسسات التي كلفت بإنقاذ المدينة القديمة في عنابة ورغم الترسانة الإدارية التي سخرتها والأموال التي رصدت لها من الخزينة العمومية، إلا أن دراستها لم تخرج من دائرة التنظير لتبقى “لابلاص دارم” تصارع مصيرها المجهول. هذا المعلم يفترض أن يتم تصنيفه من طرف لجنة وطنية تابعة لوزارة الثقافة، والذي من دونه ستظل الاستفادة من تدخل الوصاية ومساعدة الهيئات العالمية والجمعيات المهتمة بملف التراث مغلقا إلى حين البت النهائي، كما يعتقد البعض بأن المدينة القديمة لا تحتاج إلى قرار ولائي لحمايتها فهي محمية بحكم قانون التراث 04 / 1998 الذي يحمي كل المواقع التاريخية على مستوى التراب الوطني، من المدن والقصبات والقصور وعليه فان المدينة القديمة وان لم تكن مصنفة فهي محمية. وفي سياق متصل كشفت مديرية البناء والتعمير لولاية عنابة، عن تخصيص غلاف مالي معتبر يقدر ب60 مليار سنتيم موجهة لترميم السكنات القديمة بالولاية، المتعلقة بالمباني الهشة التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية، بما فيها ملف المدينة القديمة والذي سبق للديوان الجهوي لترميم المدينة أن رفع تقريرا إلى وزارة السكن والعمران، في أكثر من مناسبة، حدد فيه ذات الديوان 13 نقطة سوداء في أحياء “بلاص دارم” تشكل خطرا حقيقيا على السكان وتتطلب تدخلا فوريا بترميمها أو إزالتها نهائيا. من جانب آخر كانت قد أوكلت عملية ترميم هذه البنايات التي تعد أثرية لهيئة فرنسية “دان كارك” بمعية مصالح بلدية عنابة، ولم تباشر بعد عملية الترميم التي ينتظرها السكان بفارغ الصبر، والتي كذلك تعترضها عدة عقبات قانونية يجب أن تسوى قبل المباشرة في إعادة بناء المنازل الهشة. الانهيار، القمامة والجريمة ثالوث نغص حياة “لابلاصدارميين” تخفي الجهة الأخرى لساحة الثورة قلب عنابة، واقعا معيشيا أقل ما يقال عنه مأساوي فسكان المدينة العتيقة يعيشون بين الخوف والترقب على وقع الانهيارات اليومية لمنازل ملت من أصحابها، وكانت سنة 2009 شاهدة على وفاة 3 أفراد من عائلة واحدة تحت ركام سكن قديم بحي “لافرانساز” الآيل للسقوط، ناهيك عن عدد الجرحى في كل مرة تتساقط فيها الأمطار على الولاية، وتكون سببا في الانهيارات الجزئية للعديد من السكنات القديمة في الحي العتيق، مما دفع بالمئات للخروج في احتجاجات عارمة بساحة الثورة، وشنوا عدة وقفات احتجاجية أمام مقر الولاية، مطالبين بكشف قوائم المستفيدين من السكن وإنهاء معاناة الإقامة في شبه سكنات عمرها أكثر من 150 سنة. إلا أن بروز ظاهرة جديدة تتمثل في مغادرة البنايات الهشة قبل سقوطها وإنجاز خيمة تتوسط الشارع للفت أنظار المارة والمسؤولين المحليين، إلى جانب هدم وتخريب هذه البيوت للتحايل أو للاستفادة من السكن زادت من تعقيد الأمرا وأصبح المستفيدون الحقيقيون من السكن قاب قوسين من التحصل على سكن أمام الفوضى الضاربة التي أدت إلى تشويه وجه المدينة القديمة. وما زاد الطين بلة هو الانتشار الرهيب للقمامة في كافة أرجائها دون أن تحرك السلطات ساكنا، مما أدى إلى تكاثر وانتشار الحشرات والجرذان بشكل خطير يهدد أمن وحياة القاطنين في الحي، المساحات الخضراء والحدائق العمومية التي كانت المتنفس الوحيد للعائلات العنابية في وقت سابق في الستينيات والسبعينيات، حينما كانت تجتمع على طاولة الشواء في سائر أيام السنة وسينيات الشاي والقهوة في ليالي الصيف، وكذا على موائد الإفطار في رمضان، اختفت في السنوات الأخيرة هذه بشكل لم يعد له أثر أو وجود في المدينة القديمة، وتمازجت مع الركام والردم والقاذورات، وبهذا الصدد، يتأسف السكان لغياب أدنى برنامج لتهيئة الأماكن الترفيهية. كذلك بقايا الأتربة تشكل هي الأخرى ديكور المدينة القديمة “لابلاص دارم” إلى جانب الردم والمزابل، في ظل غياب أية مبادرة من السلطات المحلية بغية رفع الغبن عن العائلات وإعادة الاعتبار للقصبة من خلال تسطير برنامج تنظيف الحي عن طريق إزالة الفضلات ورفع الركام، ضف إلى ذلك، شكل الطرقات والمسالك المهترئة بكاملها، حيث لا يوجد طريق واحد أو مسلك فرعي واحد في حالة جيدة يمكن أصحاب السيارات من المرور عليه، ما زاد في تشويه منظر القصبة. هذا الواقع المر أفرز بين طياته تناميا كبيرا في معدل الجريمة وتكوين عصابات تطلق على نفسها أسماء وتفرض قانونها الإجرامي في مناطق بالحي، لدرجة أن أصحاب الأحياء الأخرى بالولاية يتفادون الولوج لأزقتها خوفا من السرقة والاعتداء في وضح النهار، كان أخرها محاولة اقتحام المقر الأمني بالحي لفك أحد أفراد العصابة من قبضة رجال الشرطة لتدعم هذه الأخيرة بتعزيزات أمنية فورية وتحكم قبضتها على الحي وتلقي القبض على 8 ممن حاولوا الاقتحام، وقد تعود سكان ولاية عنابة على حوادث القتل وانتهاك الأعراض في هذا الحي الذي يعج ببيوت الدعارة التي تعمل في الخفاء فتحولت الكثير من المنازل إلى بيوت دعارة ومواعيد غرام غير مرخصة، ومع مرور الزمن بات اسم المدينة القديمة لصيقا بالفسق والمجون وكل من يقول “بلاص دارم” تقفز إلى مخيلته مباشرة فكرة وكر للدعارة. إن حالة الاحتضار التي تعرفها المدينة العتيقة مسؤولية مشتركة بين الجهات المكلفة بالصيانة والمحافظة على كل ما هو تاريخي، حتى أنه تسللت إلى النفوس حالة من اليأس من إمكانية الترميم، ليذهب البعض إلى فكرة مسح المدينة وإقامة بدلها أحياء جديدة متحججين أن عملية الترميم غير ممكنة وهي هدر للوقت والمال، ونسي هؤلاء أن مثل هذه الأفكار هي جريمة في حق التاريخ وكان حسبهم أن يعيدوا إسكان قاطنيها في سكنات لائقة وإعادة ترميم سكناتهم لجعلها موقعا أثريا سياحيا تزخر به جوهرة الشرق، كل هذا ينم على حقيقة النقص الكبير في الحس الحضاري سواء لدى المواطنين أو المسؤولين ليساهم كل منهم في اغتيال التراث الوطني.