«مملكة الفلاڤة» هي التسمية الذي أطلقها الجنرال شال؛ القائد العام للقوات المسلحة الاستعمارية بالجزائر على منطقة الميلية، حيث جاء في كتاب «الوقت الضائع» في الفصل الذي يتحدث فيه الكولونيل ترانكي عن مخطط شال، قوله متحدثاً لترانكي: «سأعطيك قيادة المنطقة الأكثر صعوبة في الجزائر، إنها الميلية. بعد الاجتماع مباشرة توجهوا إلى دوار العقبية عند المناضل عمار بلقعوير لتكون الانطلاقة من هناك. وفي الساعة الصفر في تاريخ 01 نوفمبر 1954م، انطلق الجميع إلى تنفيذ ما اتفق عليه، فقطعت جماعة العربي لحمر خطوط الكهرباء، والهاتف وهاجمت المنجم، وأطلقت أعيرة نارية على حراسه، وبعض المعمرين ممن كانوا يعملون فيه، لكنهم لم يتمكنوا من فتح مخزن المتفجرات لحصانته وإحكام غلقه، كما أرسلوا رسائل للحاكم،وأعوانه وكان يدعى رينو، يعلمونهم فيها ببداية العمل المسلح ضدهم ويتوعدونهم بالقتل. وبالنسبة للجماعة الثانية -جماعة صالح بوبرطخ، ومحمد بعداش بن أحمد – فقد أحضرت البغال، ولكنهم عادوا أدراجهم فارغين لأن المجموعة الأولى لم تفلح في فتح مخزن المتفجرات، وفي طريق عودتهم لمحهم أحد المواطنين، وتعرف على محمد بعداش، وعزم على التبليغ عنهم لاعتقاده بأنهم لصوص حاولوا سرقة المنجم، ولما عاد إلى بيته، وأخبر أهله بما رأى وبما ينوي القيام به، قال له ابنه: «دع عنك هذا فمن لم يشاهد هؤلاء خير بكثير ممن شاهدهم»، وكان رد الابن على هذا النحو لأنه كان واحدا منهم دون علم والده. فهكذا سارت أمور الثورة وهكذا نجحت». أما المجموعة الثالثة المكلفة بتوزيع بيان أول نوفمبر فقد كان المجاهد عمر شيدخ العيدوني، أحد أبرز أعضائها الفاعلين حيث يروي ما وقع بقوله: « أما المجموعة الثالثة المكلفة بتوزيع بيان أول نوفمبر فباشرت عملها صبيحة ذلك اليوم (الفاتح نوفمبر)؛ إذ جاءني سعد زعيمش برفقة عيسى أوصيف وكنت في المحل، فأشارا إليّ خلسة بأن آتي، ذهبت إليهما فقالا لي: لدينا مهمة خطيرة نحتاجك لتنفيذها، فهل أنت مستعد، أجبت فورا، نعم، قالا: إن الأمر يتعلق بجلب السلاح، ففي الساعة 11 تماما تكون أمام قصر جانطي تحت شجرة البرتقال، وستجد شخصا بيده عصًا صغيرة بيضاء، تقترب منه وتقول له: «دَنْتَ»؟! فيجيبك:«دَنْتَ»؟! فاتبعه. ذهبت إلى المكان المحدد في الموعد المحدد، فرأيت الشخص صاحب الأوصاف، فبادرته بالسؤال فأجاب بمثله، وسرت خلفه مسافة ليست بالبعيدة، أعطاني كيسا من خيش (كتان) معبأ بأوراق، محكم الغلق بخيط «سباولو» فأحضرت الكيس، وأخفيته في مكان قريب من المدينة، ثم عدت فوجدت عيسى أوصيف بانتظاري، وأنا أخبره بما جرى، فأخذته إلى المكان الذي أخفيت فيه الكيس، فأخذه وطلب مني العودة مباشرة إلى المنزل وألا أدخل المدينة ذلك اليوم، وأخذ الكيس ومعه سعد زعيمش، ووضعه في حمام المناضل إبراهيم عبد الوهاب، وفي اليوم التالي تم توزيع ما به من مناشير على المواطنين، فالأوراق التي كانت بداخله كانت بيان أول نوفمبر 1954م الصادر عن جبهة التحرير الوطني، وبهذه الطريقة وصل بيان أول نوفمبر إلى منطقة أولاد عيدون، وأصبح متداولا بين أيدي الناس، وشاء الله أن أكون الشخص الذي أحضره. وعلى إثر هذه العملية، وتحديدا في اليوم الثالث اعتقلت السلطة الاستعمارية محمد بن أحمد بعداش، وعلي بودشيشة بن العربي، وكروم أحسن بن أعمر والبعض من المشاركين فيها، وسلطت عليهم شتى أصناف العذاب لتأخذ منهم اعترافا واحدا، ولكن هيهات، فقد صمد الرجال وما نطقوا ببنت شفة. وتطرق المؤلف إلى عمليات التاسع من ماي 1955 م، و20 أوت، ففي التاسع من ماي «فاجأ المجاهدون العدو بعملية كبرى شملت دوار أولاد قاسم، ودوار أولاد دياب، حيث قاموا بقطع أعمدة الكهرباء وخطوط الهاتف، وأشجار البلوط من منطقة زاهر حتى جسر احزوزاين، ومن جسر بوسيابة حتى حدود القل، كما نسفوا الجسور، ومن بينها جسر بوسيابة، وخربوا الطريق الرابط بين أولاد عيدون، والقل، ونصبوا العديد من الكمائن على امتداد الطرق الرابطة بين أولاد عيدون، وسكيكدة، وأولاد قاسم، وكاتينة (السّطارة حاليا)، وعلى هذا الطريق تمكن المجاهدون من الإيقاع بقوة استعمارية كبيرة، وكبدوها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وقد اعترف المستعمر بمقتل ثلاثة من جنوده وجرح اثنين، ولكن حسب المجاهدين فإن عدد القتلى يفوق ذلك بكثير، وعلى إثر هذه العملية النوعية زار جاك سوستيل، الوالي العام في الجزائر المنطقة، ووصل حتى مكان الكمين واعترف بصعوبة القضاء على الثورة في مثل هذه التضاريس الصعبة، وعند عودته إلى العاصمة أقام مؤتمرا صحافيا، وصرح فيه أن الحرب كانت متوازنة، وبعد هجومات 9 ماي بأولاد عيدون، رجحت كفة الثورة والثوار، وقد تحدثت حينها وسائل الإعلام العالمية عن هذه الهجومات بإسهاب كبير. وفي 20 أوت تم قتل عدد كبير من العسكريين الفرنسيين والمعمرين، وفي يوم 22 أوت بمنطقة أولاد عيدون، تلقى المستعمر ضربة قاسمة حيث قُتل الحاكم العسكري لأولاد عيدون المدعو «رينو» وهو برتبة «عقيد»، كولونيل في منطقة أودادن، ويشير المؤلف إلى أن هذه الضربة القاسمة أصبحت حديث الصحافة العالمية بأسرها، فلم يكن أحد يتصور مقدرة الثوار على الوصول إلى الحاكم رمز الهيمنة الاستعمارية ودليل هيبتها، وحامي دولتها،وبعد انتهاء هذه الهجمات قال زيغود يوسف: «إن الثورة نجحت في سكيكدة نجاحا سياسيا، ونجحت في أولاد عيدون نجاحا سياسيا، وعسكريا». هجومات 20 أوت 1955م: النصر الكبير توقف المجاهد عمر شيدخ العيدوني، وقفة مطولة مع هجومات 20 أوت 1955م كونها تشكل تحولاً كبيراً في تاريخ ثورة التحرير المباركة، وذكر في بداية شهادته عن هذه الهجومات أن الشهيد البطل زيغود يوسف، قد استلهم فكرة الهجوم الموسع مما شاهده من عمليات في أولاد عيدون يوم 9 ماي وما بعده، وقرر تكرار الأمر بصورة أشمل وفي نطاق أوسع يستغرق منطقة الشمال القسنطيني بأكملها وحدد لها يوم 20 أوت 1955م وكان منتصف النهار موعدا للبدء. يذكر المؤلف أنه قبل هذا التاريخ بأيام تم الاتصال بهم من قبل مجموعة من المجاهدين من بينهم: محمد بعداش، وصالح بن عتيق، وحسين بودشيشة، ومحمد بن موسى... وطلبوا من كل من يملك آلة حديدية حادة (سكين، منجل، مزبر، شاقور، فأس...) أو سلاح مهما كان نوعه أن يتأهب لهجوم شامل على المستعمر الفرنسي. يقول المجاهد عمر شيدخ العيدوني، في شهادته عن تلك الهجومات: «في 20 أوت 1955م بدأت الهجومات في سكيكدة، التي قادها ميدانيا المناضل الفذ إسماعيل زيغد، والذي قتل شر قتلة فيما بعد. وفي ناحيتنا أخذنا مواقعنا حسب المهمة الموكلة إلى كل واحد منا، وكنا ممن كلفوا بالحراسة في مكان يسمى: «الدخسة من بسباس» بالقرب من مشتة بلجبالة برفقة المجاهد محمد تويور، وفي يوم 22 أوت صعد المجاهد محمد بعداش، إلى مرتفع يسمى الطهر، وصاح في الناس: «الجهاد في سبيل الله»، فهب الناس كأمواج البحر المتلاطمة من كل حدب وصوب حاملين المزابر والشواقير والسيوف والسكاكين، ومن لم يجد فقضيبا من حديد، وبدأت هذه الحشود البشرية تسير متلاحمة، فلما اقتربوا من منطقة لمروج توقفوا بأمر من بودشيشة حسين وبن جكون، ثم طلبا ممن يحملون سلاحا ناريا أن يتقدموا ليكونوا في الصفوف الأولى ومن البقية التأخر والانتظار، فقد فضلا أن لا يغامرا بجموع السكان العزل وأن لا يرسلا بهم إلى مقصلة حقيقية، بل يتقدم المسلحون أولا وحدهم، فإن نجحوا نجوا جميعا وكتب النصر للجميع، وإن هلكوا هلكوا وحدهم، وسلم الناس. وكذلك كان الأمر؛ فقد أقيم كمين على حافتي الطريق الذي يقطع منطقة المروج وكبدت قوات العدو خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد وكانت هذه المعركة بقيادة حسين بودشيشة، أما بن جكون فأقام بدوره كمينا في توقيت الكمين الأول نفسه بمنطقة قريبة تسمى أسردون، ترصد فيه قوة كبيرة للاستعمار متكونة من سيارات وشاحنات ودبابات مدعمة بغطاء جوي، وقد نالوا منهم وقتلوا أزيد من 45 عسكريا فرنسيا ودمروا عشرات الآليات. وفي هذه المعركة استشهد المجاهد زيدان قليل، وقيل إن طائرة أصابته فقتل، وفي معركة لمروج جرح مجاهد من دوار بني صبيح أرسله بن طبال للقتال معهم، داوته فيما بعد امرأة تدعى سعدة بنت صالح. أعود إلى تاريخ 20 أوت 1955، وبالتوازي مع هجومات سكيكدة، قاد بن طبال بنفسه معركة في آراقو، وهي التي تمكن فيها جيش التحرير من دحر القوة الفرنسية وأعلن المنطقة أول منطقة مستقلة في الجزائر لم تدخلها فرنسا أبدا حتى 62، إلا في عمليات التمشيط الكبرى واتخذها بن طبال مركزا للقيادة وملجأ لقادة الثورة الكبار على غرار زيغود، وكافي، وبوبنيدر، ومنجلي وآخرين... كما قاد المجاهد الفذ أحمد بلعابد، معركة كبرى في كاتينة (السطارة حاليا) قتل فيها عسكريين فرنسيين ومعمرين كثيرين، ومن بين المعمرين الذين قتلوا في هذه المعركة أذكر: موريس و روني ماصلو، وفي هذه المعركة قتل المواطن بوخميس قميح خطأ بمنطقة حزوزاين، ظنه المجاهدون معمرا فأطلقوا عليه النار إذ كان يمتطي سيارته السوداء التي كانت تشبه كثيرا سيارات المعمرين. كما قام مجاهدو بني تليلان وبني صبيح بقيادة بن طبال بعملية بحمام بني هارون استشهد فيها سي عبد الله الشلفي من الشلف، وقد التحق بالمنطقة سنة 1955 من قبل الساسي لسود أحد قادة الثورة التونسية. يتبع..