وضع مقال الأستاذ سامي بحيري، “الشعب يريد: تغيير الشعب” الأصابع على أكبر العقبات في بلداننا العربية أمام التطور الديمقراطي والحداثة. ومع أن مقاله خاص بالحالة المصرية الراهنة- حيث انفلات المطالبات المتتالية من دون أن يكون المطالبون ونخبهم السياسية والنقابية عند مستوى استحقاقاتهم أمام المصالح الوطنية العليا- فإنه يكاد ينطبق على توصيف العقليات السائدة في مجتمعاتنا العربية، ومنها مجتمعات الانتفاضات. في الثلاثينات المنصرمة كان في العراق منولوغيست يغني باللهجة العراقية ما يعني “كل يقول أعطني، أعطني، ولكن لا واحد يقول أنا أعطي.” وبالترجمة السياسية الراهنة الخاصة بحالات الانتفاضات العربية، فإن ذلك يعني أن كل فرد يريد عملا، وسكنا، وخدمات، وعيشا كريما، وحرية، وأمنا، ولكن كم من المواطنين من يعرفون ويمارسون واجباتهم كمواطنين في تسيير العمل، واحترام الممتلكات العامة، وسيادة القانون، [ لا محاولة فرض الغرائز الانتقامية على القضاء]، ورفض التطرف؟! وإذا كانت مسؤولية المواطن العادي شرطا للتقدم، فإن مسؤولية النخب السياسية والثقافية هي أضعاف مسؤولية المواطن الفرد، بوصفها نخبا مطلوب منها التوجيه وتوضيح الطريق ونقد الانفلات بدون ركض وراء شعبية سريعة زائفة ومؤقتة لغرض الكسب السياسي. في مقالات كثيرة عبرت عن وجهة نظر تقول إنه لا يمكن بناء الديمقراطية ما لم تتغير العقلية المهيمنة على الشارع العربي، وعلى نخبه السياسية والثقافية. والنخب هي جزء من المجتمع ولكنها، لكونها نخبا أمام واجب الارتفاع بمستوى مسؤولية المواطن عن طريق النقد والإرشاد والمصارحة، وليس الركض وراء صيد الشعبية الشعبوية، الانتهازية كسلم للصعود. الديمقراطية لا تبنى بعقلية كراهية غير المسلم، وبالنظرة الدونية للمرأة وبطلب الحقوق دون الالتزام بالواجبات. وهي نقيض النظرة الماضوية التي تعتبر الماضي عهدنا الذهبي الذي نطمح لبعثه. وكما يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي، فإن تقدم الغربيين يفسر بأنهم ينظرون دوما للغد ونحو الأفضل ولا يعتبرون أن العهد الذهبي وراءهم، بل هو أمامهم. والماضي الذي يتغني به الإسلاميون والقومانيون فيه الإيجابي الصالح للاستعبار والسلبي الواجب نبذه. وبعض من يجري تمجيدهم من السلف عند “ثوار” اليوم [ كخالد بن الوليد مثلا] كانوا طغاة وجزارين دمويين. كما أن الديمقراطية لا تعني أن يكون الدين هو المصدر الأساسي للتشريع، بل تعني فصل الدين عن السياسة وأن تكون المرجعية السياسية المثل الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان. والعمل السياسي السليم من أجل مستقبل أفضل لا يكون بمحاولات اختزال المراحل، وبعقلية إما كل شيء دفعة واحدة وإما لا شيء، لأن الديمقراطية هي تراكم الإصلاحات التي تفتح الطريق أمام إصلاحات تالية. وكل هذا يتطلب بذل الجهد من كل مواطنة ومواطن وعدم رفع سقف المطالب اعتباطا، وتجنب الوقوع في مطبات التشنج والعنف. والكفاح السياسي ضد الاستبداد والمستبدين لا يعني زج الأطفال في الشارع أمام نيران المستبدين، ثم المتاجرة بدمائهم! كما حدث ويحدث في بعض بلدان الانتفاضات الجارية. فكيف يمكن القبول بوضع رصاصات في أيدي صبي في الثامنة أو التاسعة وأمامه على الأرض عشرات الرصاصات، وأخذ صورته هكذا لغرض التحريض والتهييج من دون مبالاة بتأثير صور كهذه على تربية الأطفال وسلوكهم الراهن والمقبل؟! وهكذا عن أمهات منقبات يجلبن أطفالهن للساحات وهن يعرفن أن نار الحاكم قد تصيبهم. لم أسمع شخصيا عن شيء كهذا في ثورات الآخرين. إن سقوط جدار الخوف العربي خطوة جبارة تشرف من انتفضوا وأسقطوا أنظمة فاسدة ومستبدة وتشرف من يواصلون الكفاح والتضحية لإسقاط حكام مستبدين آخرين. ولكن هذا هو بداية الطريق فما حدث في مصر وتونس وليبيا من إسقاط للأنظمة السابقة لن يتحول إلى ثورات حقيقية ما لم تنجح هذه التجارب الثورية في بناء ما هو أفضل، وهذا طريق طويل وطويل وأمامه العقبات والتحديات ولن يكون هناك الأفضل إلا في أنظمة ديمقراطية علمانية وليس في أنظمة أحكام الشريعة أو حين يحكم ساسة شعبويون- قوميا أو يسارويا - قد يزجون البلد في مغامرات خارجية لصرف النظر عن الاستحقاقات المحلية، وبدون مراعاة للظروف وموازين القوى الإقليمية والدولية. والديمقراطية لا تبنى بعقليات رفض النقد والمصارحة وبالمزايدات السياسية. أخونا سامي بحيري يشير لكثيرين يتهمونه ب«جلد الذات”، أي تقريع الشعب أمام العالم لمجرد أنه ينتقد ممارسات خاطئة تسيء للانتفاضة، وتعرقل التقدم أماما. ولعله ليس الوحيد في تلقي أمثال هذه الاتهامات، فالحقيقة تغضب الكثيرين أحيانا، ومن أراد السلامة، فعليه الصمت أو التبويق. ولكن المثقف الوطني المسئول يقول بصراحة ما يعتقد أنه الصواب، من نقد أو نصيحة. ومن الملاحظ أن موسم الانتفاضات العربية قد أفرز ضربا جديدا من الإرهاب الفكري حين تتحدث عن هذه الانتفاضات، ذات الطبيعة المختلفة. فأن تقول إن هذه انتفاضة أو ثوران أو انفجار إيجابي ولكنها ليست بثورة، أو أن تنبه لمخاطر المد الإسلامي القادم وضرورة اليقظة، أو أن تحذر من العنف، أو من تكديس المطالب دفعة واحدة، أو أن تدين استمرار الصمت عن الحملات على غير المسلمين، أو تحذر من محاولات صرف الأنظار عن المهمات المحلية بافتعال مشاكل خارجية؛ فإن هذا قد يجلب لك متاعب التحامل وسوء التفسير، وكأنك ضد الثورات أصلا، علما بأن في مقدمة مواصفات الديمقراطية حرية الرأي والنقد والمصارحة. تلكم ملاحظات من جرب السياسة طويلا ووقع في مطبات وأخطاء التشنج والتسرع، ومن يتمنى من القلب نجاح الشعوب العربية في بناء الغد الأفضل والاستفادة من تجاربها وتجارب الآخرين.