منذ أن نجحت الثورة في تونس ومصر ضد نظامي زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك لم يتوقف الحديث في تركيا وخارجها عن النموذج التركي، ومحاسن الإقتداء به من قبل العديد من القوى والدول العربية، باعتباره نجح في التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد. في الواقع، مع الإقرار بأهمية هذا النموذج إلا أن من دعا ويدعو إليه يتجاهل العديد من القضايا المتعلقة بخصوصية النموذج التركي، وعليه ثمة أسئلة كثيرة ينبغي أن تطرح هنا لعل أهمها: هل يمكن تطبيق النموذج التركي في العالم العربي؟ وما هي القواسم المشتركة وكذلك نقاط الاختلاف بين التجربتين التركية والعربية؟ وماذا عن الدور السياسي لكل طرف في منظومة العلاقات الدولية، وعلاقة ذلك بالنموذج السياسي المنشود؟. ثمة اتفاق بين من يدعو إلى الأخذ بالنموذج التركي سواء من قبل حزب العدالة والتنمية، أو من قبل بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي، على أن هذا النموذج يقدم أجوبة منطقية عن أسئلة الحكم والسياسة والدين والاقتصاد معا، وقد كان رئيس حركة النهضة الإسلامية في تونس الشيخ راشد الغنوشي سباقا في الدعوة العلنية إلى الأخذ بهذا النموذج فور عودته إلى تونس من المنفى، ومن ثم كرر ذلك مرارا حيث عزز فوز حزبه بالانتخابات من هذا التوجه. ولعل مصدر القناعة لدى هذه القوى لجهة إمكانية الأخذ بالتجربة التركية عربيا لها علاقة بتصور هذه القوى لمرحلة ما بعد خلع الحاكم العربي، انطلاقا من أن القوى الإسلامية التي كان النظام يقمعها بالتعاون مع الدول الغربية وتحديدا الولاياتالمتحدة باتت متحررة من هذه القيود، وبمجرد انتهاء هذه القيود فانه يمكن تطبيق نموذج حزب العدالة والتنمية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل ما يطرح حاليا عن النموذج التركي يشكل رؤية حقيقية معرفية لمضمون هذا النموذج وطبيعته وظروفه؟ وهل يصلح هذا النموذج للعالم العربي؟، بداية ينبغي التوضيح بأن طرح الأمور على هذا النحو الإشكالي لا يعني التقليل من أهمية النموذج التركي أو تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم، بل من زاوية البحث العقلاني عن ما يمكن أن يفيد العالم العربي من هذه التجربة، وليس استنساخها كما يدعو البعض في تجاهل واضح لخصوصية التجربة العربية واختلافها عن التركية. والسؤال الجوهري هنا، هل هناك صراعا علمانيا - إسلاميا في العالم العربي كما هو حاصل في تركيا؟ وهل تجربة حزب العدالة والتنمية مشابه لتجربة الحركات الإسلامية في العالم العربي؟ وهل لتركيا الدور والسياسة ومنظومة العلاقة الدولية هي في موقع مشابه للدول العربية ؟، في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة ينبغي التوقف عند المعطيات التالية: 1- أن تجربة الحركات الإسلامية في تركيا ولاسيما تجربة حزب العدالة والتنمية مختلفة عن مثيلاتها في العالم العربي، فهي جاءت من رحم معركة الصراع الدموي مع المؤسسة العسكرية حارسة (العلمانية – الاتاتوركية) التي قامت بأربعة انقلابات خلال أقل من نصف قرن، كانت آخرها الانقلاب الأبيض على مؤسس الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان (توفي قبل أشهر قليلة) عام 1997، وخلال هذه الفترة أعدم الجيش عشرات القادة والزعماء بما في ذلك رئيس الجمهورية عدنان مندريس، عقب انقلاب عام 1960 وكان من شأن هذه التجربة الدموية - والتي جرت باسم الحفاظ على العلمانية، حيث كان الإسلام في مرتبة العدو – بروز تيار إسلامي (حزب العدالة والتنمية) يرفض رسميا إطلاق الصفة الإسلامية على نفسه، ويأخذ طابع الأحزاب الديمقراطية المحافظة في الغرب، ويخاطب الداخل والخارج بلغة أقرب إلى العلمانية من الإسلام. مقابل هذه التجربة فإن تجربة الحركات الإسلامية في العالم العربي تبدو مختلفة تماما، حيث لا صراع بين العلمانية والإسلام بالمفهوم الحقيقي للصراع كما كان حاصلا في تركيا، بل أن دساتير الدول العربية تقر بإسلامية الدولة عكس تركيا التي تؤكد العلمانية مع الإشارة إلى أن ما يجمع التجربتين هنا، هو ممارسة الإقصاء في عدد من الدول العربية للنشاط الإسلامي. 2- إن التجربة الإسلامية في تركيا وتحديدا تجربة حزب العدالة والتنمية هي تجربة مسيسة ومدروسة سياسيا في الأساس، فهي تأسست من أجل الوصول إلى الحكم بطريقة محددة، وعليه أتقنت منذ البداية قواعد اللعبة الديمقراطية المتبعة في البلاد، وانتهجت الآليات المتاحة والممكنة لتحقيق هدفها، هذا حتى لو كان على حساب البعد الإيديولوجي، وبفضل هذا النهج تمكن حزب العدالة والتنمية من الوصول إلى السلطة، إلى درجة أن الجيش الذي صنف الإسلام في مرتبة العدو، وعجز عن مصادرة نتائج الانتخابات التي جرت والتي حقق فيها حزب العدالة نتائج متقدمة منذ تأسيسه نهاية عام ألفين وواحد. وما سبق يشير إلى أن البنية العامة للمجتمع التركي مدنيا وقانونيا ودستوريا ومؤسساتيا حققت تقدما كبيرا، وذلك خلافا للبنية العامة في العالم العربي، بل أن الأحزاب الإسلامية في العالم العربي لها تجربة مختلفة تماما، فهي عندما تأسست كانت مختلفة عن ظروف حزب العدالة، وعندما انطلقت كانت لأسباب مغايرة، وعندما مارست السياسة انتهجت وسائل مختلفة ومتباينة، وهي في ممارستها للإيديولوجية كثيرا ما فصلت بين الدين كإيمان وعبادة ونص، وبين السلطة كحكم وممارسة وصندوق انتخابي، فيما دمج حزب العدالة كل ذلك في عملية سياسية مدروسة بدقة على شكل الانتقال من العلمانية إلى الإسلام، فيما تنطلق الحركات العربية المماثلة من الإسلام إلى الديمقراطية. 3- إن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وسيطرته على الرئاسات الثلاثة (الحكومة – البرلمان – الجمهورية) كان حلا لمشكلة تركية داخلية تتخلص في إمكانية التوفيق بين الإسلام والعلمانية انطلاقا من واقع الصراع الذي أفرزته التجربة السياسية لمؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك، كما انه لم يكن بعيدا عن العوامل الخارجية وأقصد هنا تلك الشروط الأوروبية المتعلقة بتحقيق الشروط الديمقراطية للانضمام إلى العضوية الأوروبية،كما كان مرتبطا بما يطبخ في الدوائر السياسية العليا في الغرب تحت عنوان طرح نموذج إسلامي معتدل يصلح للعالم الإسلامي، من المغرب غربا إلى اندونيسيا شرقا مرورا بأفغانستان وباكستان والعراق .... وبالتالي فان هذا النموذج يتجاوز في انطلاقته وأهدافه ومضمونه وتجربته الحالة التركية الداخلية للحكم إلى النموذج المطلوب تسويقه في العالمين العربي والإسلامي، في حين أن ظروف الحركات الإسلامية في العالم العربي وتحديدا في الدول التي نجحت فيها الثورات الشعبية تبدو مختلفة لجهة التطلعات والسياسات والمحددات، مع فارق كبير هنا، وهو أن الجيش في البلدان العربية لا يمثل معسكرا للدفاع عن العلمانية كما هو قائم في تركيا. في الواقع، إذا كانت تجربة حزب العدالة والتنمية في السياسة والحكم والممارسة تشكل إلهاما للأحزاب الإسلامية في العالم العربي للقبول بقواعد اللعبة الديمقراطية والارتهان إلى الصندوق الانتخابي وإتباع الوسائل السلمية والمشاركة مع المختلفين إيديولوجيا في الحكم، ومع كل ذلك يجب أن لا يغيب عن بالنا أن هذا النموذج بدأ يتعرض ومن الداخل التركي إلى انتقادات كثيرة، تتعلق بتحوله إلى حزب سلطوي دون أن يعني هذا عدم الاستفادة من الجوانب الإيجابية له، على الأقل لجهة إتباع الآليات السلمية والحفاظ على المناخ الديمقراطي، والالتزام بقواعد انتقال السلطة بشكل سلمي، والحد من تدخل المؤسسة الأمنية والعسكرية في الحياة السياسية للبلاد، والكف عن التهويل من الخطر الإسلامي لأسباب تتعلق بالبقاء في السلطة ونيل رضى الغرب، فجميع هذه الجوانب مهمة في النموذج التركي، ولكن السؤال الأساسي هنا: ما الذي يمنع ثورة الشعب المصري والتونسي من تقديم نموذج ديمقراطي يتجاوز النموذج التركي في مضمونه وقيمه ومحدداته وأهدافه؟ إنه التحدي الماثل أمام الثورات العربية.