فرض الشعب المصري نفسه على الواقع السياسي كقوة اقليمية مركزية بعد تهميش دفع به النظام من خلال سياساته المرتبطة بالتوجهات الأمريكية في المنطقة وليس التهميش فقط، بل الدور العكسي لما ينبغي أن يكون لمصر.. وعادت مصر لتملأ مكانها الذي سيعيد للمنطقة توازنها، وأي طبيعة للثورة المصرية وأي دور، وأي اولوية؟؟ هل ما يجري في مصر شبيه بما جرى في ايران، أم هو الى ما جرى بتركيا أقرب؟.. ثم ماذا سيكون موقف مصر من جملة العلاقات الاقليمية، هل هو الى موقف ايران، أم الى موقف تركيا أقرب؟ هذه اسئلة يحاول المحللون والمثقفون المتابعون أن يدلوا فيها بنظرياتهم وتنظيرهم، ويحلو للكثيرين ان يحيلوا التجربة المصرية على احد النموذجين، الأمر الذي يدعو الى تحديد المواقف المسبقة من قبل المجتمع الدولي وفى الإقليم وفي الداخل المصري، وهنا وجب الحديث عن تنوع طبيعة كل من هذه الثورات، وعن تمايز أدوراها واختلاف أولوياتها ..
* على وقع ساعات ثورة الشعب المصري تتجلى ارهاصات المرحلة المقبلة التي ستخوضها مصر ومن الأهمية، وتطرح الأسئلة الكبيرة التي ستجد الدولة المصرية انها معها وجها لوجه، وانه لا يمكن اعطاءها ظهرا، بل لا بد من الإجابة عليها، وهنا تتضح الفروقات الأساسية في الدور. * في تركيا أوضاع على أكثر من صعيد ترسم ملامح شخصية متميزة من طبيعة النظام العلماني المعسكر، حيث يقوم العسكر بتنصيب الحكام وحماية العلمانية، وما العملية الديمقراطية الا ديكورا تجميليا لنظام عسكري عنيف، وفي اللحظة التي تنتج الديمقراطية أوضاعا مختلفة عما يراه العسكريون، تقوم المؤسسة العسكرية بالانقلاب وتغيير الوضع، وكانت الديمقراطية التركية مقبولة تماما من الغرب، حيث تقوم العسكرتارية التركية بحماية الأوضاع القائمة في التحالف الاستراتيجي مع الغرب على اعتبار تركيا عضو في الحلف الأطلسي وصديق متميز لإسرائيل.. واستدعى ذلك القيام بعمليات استبدال الانتماء والدور من دولة تحمي المنطقة إلى دولة تهدد المنطقة وتتحالف مع أعدائها والانقضاض على الهوية الحضارية.. من هنا كانت المهمة الملقاة على حركات التغيير تنطلق من اجل استرداد البلد الهوية والانتماء والدور، ومن بعد تحديد جبهة الأصدقاء والحلفاء وجبهة الأعداء.. وعلى هذا الطريق، كانت حركة العدالة والتنمية الاسلامية أمام مهمات مرحلية خاصة، اضطرتها الى ترك قضايا والبدء بقضايا أخرى، وذلك لتوفير شروط افضل لاتخاذ قرارات قادمة من شأنها تحديد وجهة الدولة التركية.. وهذا يعني بوضوح ما قامت به الكتلة البرلمانية للعدالة والتنمية باستصدارها لجملة تشريعات ترفع يد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية والاعلامية في تركيا، وكل نجاح حققه حزب العدالة والتنمية يعود في تجميده لتناقضات جوهرية مع السياسة الغربية والعلاقة مع اسرائيل وهي لعبة تركية خالصة. * أما ايران، فالذي جرى ويجري في ايران لا قرابة له بالذي يجري في مصر من حيث التكتيك ولا من حيث المجريات اليومية، ولا الأهداف ولا أولويات ذلك. ان ايران كانت على مدار تاريخ الكيان الصهيوني حليفا استراتيجيا لاسرائيل وتقوم بالمشاركة مع اسرائيل في تهديد المنطقة العربية لاسيما في الخليج العربي والعراق، وكان نظام آل بهلوي يعتمد لذلك خططا ثقافية واقتصادية وأمنية تنتهي بالشعب الإيراني إلى ان يصبح عدوا للعرب وأهل السنة، واستدعي ذلك تدمير المرجعية الاسلامية وملاحقتها وصناعة طوابير من العلماء المرتبطين معه.. وتولد في ايران نتيجة ذلك حالة طائفية وقومية عدوانية نحو الأمة فجاءت الحركة الاسلامية ونهضة علماء الدين الثوريين وعلى رأسهم الإمام الخميني للتصدي لمخططات الشاه ورفض التصالح معه نهائيا، فكان جهد الإمام الخميني منصبا على فضح النظام وداعيا بقوة الى العودة للإسلام والتصدي لمحاولات تفسيخ المسلمين وتجزئتهم والتأكيد على ضرورة وحدة الأمة، وأن العدو الصهيوني هو العدو، وأن أمريكا هي الشيطان الأكبر.. كان اجتهاد الإمام الخميني في الأساس عملية كبيرة من اجل التجديد في الفكر الاسلامي الشيعي في موضوع الانتظار والتقية والمذهب فقدم إجابات متجاوزة للفكر الشيعي التقليدي، وكانت معركته كبيرة على صعيد الفكر الموروث، كما كانت معركته مع الشاه ضد مظالمه وعمالته للأمريكان والغرب، فكان لابد من تأهيل للمجتمع الايراني للانخراط في قضايا الأمة بلا قيود او حواجز مذهبية او قومية.. * وهكذا وجدت الثورة الإيرانية نفسها أمام ضرورة تصفية جيش تشكل لمهمات ضد الأمة ونظام مرتبط حتى النخاع بالثقافة الغربية والسياسات الغربية وكذلك بقوى اقليمية تستغل الاختلاف المذهبي والقومي، فكان على الثورة ان تنهج سبيلا يرتب أولوياته. * أما في مصر، فالوضع مختلف عن البلدين الإسلامين الكبيرين، ففي مصر لم تكن العلمانية نظام حكم، ولم يكن الشعب في منآى عن الحرب مع اسرائيل، بل قدم شعب مصر اكثر من 150 ألف شهيد في معارك عديدة ضد اسرائيل، وهذا يعني ان عقيدة عسكرية بنيت عليها القوات المصرية انها الصراع مع العدو الصهيوني رغم كل الجهود الجبارة التي بذلت لصرف مصر عن دورها، كما كانت مصر دوما هي معقل ثورات العرب والمسلمين، ذلك إن تجاوزنا فترة حسني مبارك، وقامت مصر بأدوار تاريخية في افريقيا والعالم للتأكيد على دورها القيادي.. ثم إن لمصر محيطا مختلفا، فهي بلد عربي في القلب من العرب وفي قيادة العالم السني.. ولمصر محيط أمني استراتيجي، حيث التواجه مع اسرائيل ومشروعها، وحيث العمق الإفريقي ومياه النيل، وحيث القرن الإفريقي وأثره على قناة السوبس وعلى الأمن القومي لمصر. * أولويات الإجابات على الصعيد الداخلي تكمن في ارساء التعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة والتوزيع العادل للثروة والاهتمام للتنمية والتصنيع وتحقيق الاكتفاء الذاتي على اكثر من صعيد.. وإعادة الاعتبار للبحث العلمي والمنظومة التربوية، وعلى الصعيد الخارجي مواجهة الأخطار الأمنية وترميم العلاقات المدمرة مع البلدان العربية، وإعادة الدور المصري إلى حيويته ومجاله الحيوي في الخليج والقرن الإفريقي والسودان والخليج وفلسطين. * ثم ان الذي حصل في مصر ثورة، لكنها ليست كثورة ايران.. كما ان الذي حصل في مصر هو لاسترداد الدور وتكريس الحريات، ولكنه ليس كالذي حصل في تركيا.. اننا ازاء نموذج خاص، فهو نموذج مصري سيجد تأثيره البالغ في البلاد العربية قريبا. * *