يعبر هنري كيسنجر الذي يوصف بالعقل الأكبر لرسم سياسات الولاياتالمتحدة الخارجية، وهو وزير خارجية «1973 1977»، عن مخاوفه على من أسماهم ب»الذين يعتمدون علينا والذين لا يجب تركهم في العراق، وهي مشكلة واجهناها في العراق وفيتنام» الواشنطن بوست في 2 نوفمبر 2011. قبل أن نتحدث عن الذي يخاف عليهم كيسنجر في العراق، لا بد من العودة إلى المشهد الذي يبدو أنه لا يفارق ذاكرة السياسي المحنك العجوز، كما أن هذا المشهد لن يفارق ذاكرة الكثيرين من الأمريكيين والفيتناميين، وإذا حصلت أحداث ووقائع كثيرة بعد هزيمة القوات الأمريكية في فيتنام، فإن الصورة التي التقطتها كاميرا لأحد الصحفيين وتم نشرها في مختلف وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية، هي التي ستبقى محفورة في الذاكرة، فبعد أن صعد آخر جندي من حماية السفارة الأمريكية في سايجون يوم «29 4 1975»، وبينما كان المصور الصحفي يحاول توثيق ذلك الحدث الكبير، فإذا بشخص فيتنامي يهرع مرعوبا باتجاه آخر طائرة فوق سطح السفارة الأمريكية في سايجون، وتعلق بالسلم الذي يستخدمه الجنود في الصعود إلى الطائرة هربا من المقاومين الفيتناميين «الفيتكونج» الذين حاصروا السفارة استعدادا لاقتحامها بعد هزيمة الأمريكان أمامهم، وتبين أن الشخص الفيتنامي الذي يريد الهروب مع أسياده، هو رئيس البرلمان الفيتنامي الذي نصبه الغزاة الأمريكان، وسرعان ما تعرف عليه مسؤول أمن السفارة الأمريكية في سايجون، لكثرة زياراته للسفارة الأمريكية وظهوره اليومي في التلفزيون ومن خلال صوره التي تنشر في الصحف، فسارع الأمريكي إلى ركل رئيس البرلمان بحذائه، وكانت أكثر من ركلة، فسقط رئيس البرلمان بصفعة من الأمريكي، والتقط المصور الصحفي عدة لقطات، الأولى وهو «أي رئيس البرلمان الفيتنامي» يحاول الصعود على السلم، واللقطة الثانية عندما رفسه الأمريكي بحذائه على وجهه، واللقطة الثالثة يظهر فيها رئيس البرلمان وهو ممدد على الأرض وآثار ضربة الحذاء الأمريكي ظاهرة بوضوح على وجهه، وبينما كان يتلوى من الألم ومصابا بالهلع وينتشر الرعب في كل قطعة من جسده، سارعت الطائرة الأمريكية إلى التحليق عاليا، وكان رئيس البرلمان يستمع إلى زمجرة وهدير أبناء فيتنام الأصلاء وهم يقتحمون وكر الاحتلال الأمريكي الذي عاث فسادا وقتلا وتدميرا في بلدهم. بدون أدنى شك أن هنري كيسنجر الذي يبدي مخاوف حقيقة اليوم على من أسماهم ب»الذين يعتمدون علينا في العراق»، قد استحضر تلك الصورة لرئيس البرلمان الفيتنامي الذي صنعه الاحتلال الأمريكي في فيتنام، وطفرت إلى ذهنه العديد من الصور المشابهة والمرشحة للظهور في الفضائيات، وقد يكون البث مباشرا مصحوبا بالكثير من «الأخبار العاجلة» التي لم تكن موجودة قبل ثلاثين عاما، وإذا كان كيسنجر إبان هزيمتهم المنكرة في فيتنام يشغل منصب وزير الخارجية وكان ضمن فريق الطوارئ الذي يتابع تفاصيل الهزيمة الأمريكية من فيتنام، فإنه قد يتابع مشاهد مصورة في بيته، من الفضائيات الأمريكية مثل «سي أن أن وفوكس نيوز وغيرهما». اللافت أن كيسنجر لم يعلن عن هذه المخاوف قبل سنة عندما كانت القوات الأمريكية تنتشر في 505 قواعد عسكرية في العراق، بمعنى أن الأولوية عند الزعامات الأمريكية لجنودهم، ثم يأتي الاهتمام بالدرجة المئة بالذين يعتمدون على الأمريكيين، وهنا كيسنجر لا يتحدث عن المخبرين السريين والمقاولين والمترجمين كما قد يتصور البعض، بل يقصد القائمين على العمل السياسي والحكومي الذي صنعه الأمريكيون لخدمة مشروعهم، وهنا تبرز أمام الأمريكيين قضيتان أساسيتان: أولهما الإقرار بهزيمة مشروعهم في العراق جملة وتفصيلا، والثانية أن الولاياتالمتحدة غير مستعدة لتأمين أي نوع من الملاذ للسياسيين والحكوميين في العراق، لأنها تعلم حجم الخروقات الهائلة التي مارسها هؤلاء في العراق، وتتوزع بين جرائم على درجة خطيرة من قتل وتعذيب وانتهاك للحريات، ومن سرقات للمال العام، وهناك خروقات بدرجات متفاوتة، وفي الوقت نفسه تجد الإدارة الأمريكية نفسها محرجة عندما تعاد ذات الصور والمشاهد التي حصلت في فيتنام قبل ثلاثة عقود، والتي ما زالت محفورة في الذاكرة، معلنة ببيانها هذا فقرتين، الأولى تؤكد حجم الخيبة والهزيمة الأمريكية، والثانية تكشف مصير الذين يبيعون وطنهم لمحتل غازٍ. لم يطرح البديل هنري كيسنجر، لأنه يدرك أن قرار الأمريكي الذي رفس رئيس البرلمان في سايجون كان قرارا صائبا، فقد انتهت صلاحية رئيس البرلمان ومن معه، وأن الفيتناميين بدأوا حقبة الاحتفاء بالثائر هوشي منه، وأن حقبة المناديل الورقية قد انتهت بانتهاء حقبة الأمريكان، وأعتقد أن الإدارة الأمريكية لا تستطيع اتخاذ أي إجراء في العراق مخالف لذاك الذي حصل فوق سطح السفارة الأمريكية قبل ثلاثة عقود. لهذا يقول كيسنجر إننا نواجه صعوبة كبيرة في هذا الجانب