الكاتب الكبير، والصحفي الشهير، الأستاذ محمد حسنين هيكل، خص قناة الجزيرة القطرية بحلقتين من أحاديثه، للذكرى الستين لنكبة فلسطين، وكعادته دائما، استعرض الأستاذ، وحلل بدقة كاملة، وببراعة تامة، وبغزارة، وتراكم، وتزاحم المعلومات، الأوضاع، والظروف، والملابسات، وحتى التحضيرات التي سبقت ورافقت، اغتصاب الأرض المقدسة، وإعلان دولة إسرائيل بها في 15 ماي 1948. وبمناسبة تطرقه لما اسماه بالحرب العربية الإسرائيلية في سنة 1948، والجيوش العربية التي شاركت فيها، كشف الأستاذ هيكل، بأن العرب لم يستطيعوا تجنيد أكثر من 30.000 نفرا، أغلبهم من المتطوعين، في حين حشدت إسرائيل ما يزيد على 101.000 جندي، بقيادة 135 جنرال، وكلهم خدموا، وحاربوا في أقوى جيوش العالم، خلال الحرب العالمية الثانية، إن في الجيش الأحمر السوفياتي، أو في جيش المملكة المتحدة البريطانية، أو في الجيش الأمريكي. ويحكي مبتسما ضاحكا قصة طريفة عن الملك الهاشمي عبد الله الأول، الذي حاول أن يتصدى للطائرة الإسرائيلية المغيرة، ليلا على عمان، برشاشة عادية. الأستاذ هيكل أورد قصة الملك عبد الله، في سياق حديث، يوحي بأن القوى، والوسائل، والأدوات، والعدة، كانت غير متوازنة، ولا متكافئة بين العرب وإسرائيل، في حرب سنة 1948، وحرصا منه على بلورة أفكاره، وتوضيح نظرته، يذكر الأستاذ هيكل، بأن هنري كيسنجر، لما جاء موفدا من رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلى الشرق الأوسط، كوسيط بين العرب وإسرائيل، بعد حرب العبور في سنة 1973، لم يكن يعرف على الإطلاق، أي شيء عن الشرق الأوسط، فطلب من مستشاريه، أن يعطوه فكرة عن هذا الكيان الإقليمي من العالم، فحضروا له ورقتين: تتضمن الأولى، الخيمة، والشيخ، وتتضمن الثانية، السوق. إن مستشاري هنري كيسنجر، أفهموه، بأنه عندما ينزل في الشرق الأوسط، فسيجد أمامه خيمة منصوبة محروسة، فوقها علم يرفرف، ويجلس بداخلها شيخ، حوله أقوام يتملقونه، ويمدحونه، بقصائد شعرية، ولا يختلف الأمر، عما إذا وجد نفسه في خيمة منصوبة في أقاصي الصحراء المقفرة، أو في قصر منيف، في عاصمة كبيرة. وبالنسبة للسوق، شرحوا له، بأنه عندما يدخل السوق، في الشرق الأوسط، فبالتأكيد أنه سيجد نفسه، وسط صخب وضجيج، وهرج، ومرج، وأصوات تتعالى، وأسعار معلنة وينادى بها، لكن أوصوه، بأن لا يتردد في عرض أي ثمن، يناسبه لشراء أية سلعة مهما بدا له ثمنها المعلن، أو المطلوب، مرتفعا أو غاليا، لأنه بإمكانه أن يشتريها بربع أو خمس أو سدس، القيمة المطلوبة. إن مستشاري وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، السيد هنري كيسنجر، يريدون أن يفهموا وزيرهم، بأنه مقبل على قوم ميزتهم الأساسية، السذاجة، والسطحية البدوية، والعفوية القروية، نظرتهم لا تتجاوز، ما حول الخيمة من عشب، وغدير، وأفقههم الزمني لا يتعدى عدد الأيام، التي يكفي العشب المحيط بالخيمة، تلبية حاجيات القطيع فيها، ليبحثوا عن مضارب ومرابع أخرى، للضعن والارتحال إليها. وأما السوق فيعني أن حاسة تقييم الأشياء منعدمة لدى العرب، ومعايير تقدير الأمور حق قدرها، منتفية لديهم تماما. إن ثلاث كلمات بسيطة (الخيمة، الشيخ، السوق) حددت بدقة للسيد كيسنجر، الإطار العام، الذي ينبغي أن تجرى ضمنه المفاوضات مع العرب، ورسمت القواعد الأساسية التي يتعين عليه إتباعها، ومراعاتها، ليحقق بسرعة أفضل النتائج. إن مستشاري السيد هنري كيسنجر، وفروا على أنفسهم وعلى وزيرهم الكثير من الجهد والعناء، فقدموا له خلاصة الدراسات الكثيرة والمتعددة التي أجريت على العرب، من كافة النواحي، الاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية، والثقافية، فكانت تلك الخلاصة تعكس خصائص ومميزات، تطبع الإنسان العربي، وتسمه بسمات متفردة حسب الأمريكيين، الذهنية البدائية، والسطحية القروية، والسذاجة في التفكير، والقصر في النظر، والطيش في العقل، والاختلال في المنطق. إن التحليل الذي قام به الأستاذ هيكل، وهو يستعرض واقع العرب وأوضاعهم يعتمد منهجا علميا راقيا، ويتبع نمطا فلسفيا معقدا، ولذلك أراه في بعض الأحيان، عندما يعقد مقارنات، أو يجري بعض الإسقاطات، لا يتمالك نفسه عن الضحك. إنني أعتقد أن الأستاذ هيكل، يسرف بعض الشيء، ويغالي في أحكامه، عندما يحاول أن يعاير أو يقيس أحوال العرب، بمعايير أو بمواصفات غربية و حتى دولية، إذ لا أحد يجادل أو ينكر التخلف العربي الشامل، إن لم أقل المطبق، في جميع الميادين في سنة 1948. إن 135 جنرالا إسرائيليا، يقودون جحفلا عدد جنوده 101.000 عسكريا محترفا، من الطبيعي أن يهزموا في أقصى سرعة 30.000 متطوعا بدائيا، لكنهم لا يستطيعون قهر أو هزيمة إرادة الملايين من العرب، إن كانت لديهم إرادة صادقة، وعزيمة راسخة، وإصرارا ثابتا، وإيمانا جازما بعدالة قضيتهم، واستعداد للتضحية، من أجل استرداد حقوقهم، ذلك أن مرور الأيام وتوالي الأعوام، اثبتا أنه مهما تقدمت التكنولوجيات، وتطورت الأسلحة، يبقى الإنسان على الدوام هو العامل الرئيسي، في حسم الصراعات، وكسب المعارك والحروب، فالحروب هي صراع الإرادات، والإرادة الحازمة المؤمنة الصلبة، الثابتة، هي التي تنتصر في النهاية، والأدلة كثيرة ومتنوعة من الفيتنام إلى ثورة الجزائر، إلى حرب جنوب لبنان، إلى ما يجري في العراق حاليا، فالجنرالات المتخرجون من أرقى الكليات العسكرية، المدججون بمختلف الأسلحة المتطورة، قد يهزمون الجيوش النظامية، إلا أنهم لا ينتصرون على الإرادة الصلبة، الرافضة، المقاومة، ذلك أن إرادة الشعوب، من إرادة الله، فقد نستعجل، ونسيء التقدير.