انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة غريبة على مجتمعنا وهي الاعتداء على الأولياء وارتكاب أبشع صور العنف ضد من قال فيهم الله عز وجل في محكم تنزيله «ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما»، والتي أصبحت تأخذ أبعادا خطيرة لأسباب بسيطة رغم حكم الشرع والقانون فيها. لقد أثارت هذه الظاهرة دهشة الكثيرين وعجز البعض عن إيجاد تفسير أو مبرر لها، إنها جريمة ضد الأب أو الأم التي نهى ديننا الحنيف حتى عن مجرد إحساسهم بغضبنا تجاههم، أو التعبير عن ذلك بالتأفف، فالأم رمز الحنان والعطاء تحمل أبناءها تسعة أشهر، والأب يتحمل مسؤولية البيت ويتعب للإنفاق على الأبناء، وفي نهاية المطاف نسمع في هذا الزمان عن حكايات غريبة داخل العائلات أبطالها شباب يستخدمون رجولتهم ويتحدون أولياءهم داخل البيت وفتيات يستعملن العنف اللفظي ضد والدين ضعيفين لأسباب تافهة، سلوكات أشخاص من الجيل الجديد لم يرأفوا بأوليائهم وراحوا يعاملونهم أسوأ معاملة فبدل أن يصبحوا نعمة لهم في الدنيا يعينونهم على أمورها، تحولوا إلى نقمة وبلاء يعكر صفو حياتهم، متجاهلين مقولة كما تدين تدان. عقوق الأبناء... ورأفة الوالدين يشغل الأولياء مكانة كبيرة داخل الأسرة، فالأب هو رمز الاستقرار والأمان في البيت، أما الأم فهي رمز الحنان والتربية، فالجنة تحت أقدام الأمهات، إلا أن الكثير من الأبناء يتجاهلون كل هذه الأمور ولا يجدون حرجا في إلحاق الأذى النفسي أو الجسدي بوالديهم. خالتي فاطمة هي إحدى المسنات التي تعاني من عقوق أولادها، وجدناها جالسة على الرصيف بأحد الأحياء وهي تقول: «أولادي تركوني بعد وفاة والدهم وحين أطلب منهم أن يساعدوني في دفع أجرة البيت وأشكو لهم حالي يسبونني بكلام قبيح، وأنا الآن مطرودة إلى الشارع، لأنني لم أدفع إيجار المنزل وأولادي لا يسألون عني».أما السيد جابر فيعاني من إهانة أولاده له وهو يقول: «أبنائي لا يهتمون بمشاعري، فبعد تقاعدي أصبحوا يذلونني بكلام قبيح ويقولون لي ماذا نفعل بك، لم تترك لنا أي ميراث، وبمجرد أن حصلوا على وظائف أصبحوا لا يساعدونني في تحمل أعباء المنزل، ونسوا ما عانيته من أجلهم طيلة سنوات عملي لدفع تكاليف دراستهم ولكنهم ناكرون للجميل».ومن جهة أخرى، تقول السيدة خديجة: «عشت مع ابني وزوجته في نفس البيت، إلا أنه أصبح يهملني ويفضل زوجته علي، وعندما أشكو له عن همومي يتعصب ويقول لي اسكتي وإلا ضربتك، ربي يهنيني منك».أصبح بعض الأبناء لا يولون والديهم أي اهتمام وبلغت قسوة قلوبهم إلى إهمال الأب أو الأم حتى في حالة مرضهما وتذمرهم منهما، متناسين أنهما أفنوا حياتهما عليهم، وهذا ما حدث مع السيدة نوال التي تقول: «عندما مرضت أصبحت ابنتي الوحيدة لا تخدمني وعندما أطلب منها شيئا ترفع صوتها علي، وعندما أنصحها لا تسمع كلامي وتشتمني في بعض الأحيان».وهو الأمر نفسه، عانت منه إحدى الأمهات اللواتي ألزمها المرض الفراش وهو الأمر الذي يتطلب الكثير من العناية والاهتمام، إلا أن وضعها لم يشفع لها عند ابنها الذي تسكن معه، حيث قام في أحد الأيام باصطحاب زوجته خارج البيت لأكثر من يومين وتركها من دون معين لولا قيامها بإحداث ضجة بواسطة الكرسي حتى يتفطن الجيران لأمرها«. »الكبدة«.. تجعل الأم تقابل إساءة ابنها »بدعاوي الخير« هي صفة من الفطرة لا تتضمن أي ذرة نفاق أو تلاعب، فحب الأم الشديد لأبنائها وخوفها عليهم لدرجة أنها تشبههم بكبدها الذي لا يمكنها العيش بدونه، والذي تتعب كثيرا إن أصيب بعلة وهو الأمر الذي يجعلها متسامحة معهم لأبعد الحدود حتى وإن قابلوا حنانها بالإساءة، ففي هذه الحالة ترفع يديها إلى السماء لتدعو الله أن يصلحهم ويهديهم ويفتح في وجوههم أبواب الخير، وهو الأمر الذي أكدته السيدة »سعيدة« والتي تقول أن ابنها يعاملها بقسوة لدرجة أنه عندما يراها في النافذة يصرخ عليها من الشارع ويأمرها بالدخول أمام مرآى ومسمع الجيران وكأنها طفلة صغيرة، وتضيف أنه يجلب لها الكثير من المشاكل، كما أن الشرطة كثيرا ما تأتي للبحث عنه في البيت، أما عن ردة فعلها حول كل هذا فتقول »صحيح أن طباع ابني حادة ولكنني أخاف عليه من كل شيء ودعاوي الخير له لا تفارق لساني«. نموذج آخر للمعاناة من عقوق الأبناء وهي السيدة جميلة، أم في الخمسين من عمرها، تشتكي من ابنها بمرارة وهي تقول: »لم أكن أتوقع من ابني ما فعله بي، فبعد طلاقي من أبيه وجه لي اتهامات، ولكن هذا الكلام استقاه من والده الذي عانى من حالة نفسية طويلة، وعشت معه في جو من الشكوك حتى طلقني، وابني الآن يهددني بالضرب إذا لم أترك المنزل، وأنا لا أقدر أن أشتكيه، لأنني أخاف أن يسجن وأسأل الله أن يهديه«. رأي القانون، والقضايا المتداولة في المحاكم حول هذه الظاهرة يقول الأستاذ محمد.ب: «إن هذه الظاهرة غريبة، لأن معظم القضايا فيها استعمال مفرط للقوة ضد من هو ضعيف وعاجز عن الرد بالمثل،وعادة ما يكون هذا العنف إما جسديا كالضرب أو الجرح والقتل أو معنويا كالشتم أو الإهانة والتحرش، والأرقام تعكس إلا التزايد الخطير لهذا النوع من الإجرام رغم صرامة القوانين في التعامل مع المعنيين، فرقم الاعتداءات أكثر بكثير من الإحصائيات الموجودة، لأن معظم هذه القضايا لا يتم الإبلاغ عنها لتفادي الإحراج من جهة ولعدم رضا الوالدين برؤية فلذات أكبادهم في السجون، وهناك قضايا متعددة وبتفاصيل متنوعة عن هذه الظاهرة وهي تدعو للدهشة وتختلف الوقائع باختلاف الأسباب«، ومن بين القضايا التي حدثنا عنها هي قتل شاب لوالده لأسباب تافهة، لأنه رفض إعطاءه السيارة فقام بطعن والده بسكين وقد كان الإبن يدمن المخدرات وحكم عليه بالسجن المؤبد. واقعة أخرى لشاب قام بضرب والده بعد مشادات كلامية بينهما، قام خلالها الأب بتهديد ابنه بفضحه أمام الجيران، فقام الإبن بدفع هذا الأخير على السلالم،ف عرض الأب على الطبيب الشرعي الذي أوضح أن الأب تعرض لكسر في العمود الفقري، فقرر القاضي بسجن الإبن.ويضيف الأستاذ هناك قضية لشاب ثار بشأن أقاويل عن سمعة أخته فقام شجار بينهما وعندما تدخلت الأم لتمنعه من إقحام نفسه في شؤون البيت، وتحت تأثير الغضب لم يشعر الإبن بنفسه إلا وهو يضرب والدته، فرفعت الأم دعوى قضائية ضده، لكنها صفحت عنه فيما بعد. حالة أخرى فريدة من نوعها جرت وقائعها ببلدية بلوزداد تتعلق ببنت قاصر أوصلت والدها لغرفة الإنعاش، ولقد كشفت التحقيقات ووقائع المحاكمة أن المذنبة فتاة منحرفة تسربت من المدرسة فأصبحت تدخل البيت في وقت متأخر، وفي إحدى المرات عادت أمها من السوق فوجدت نفسها أمام الصدمة، لأنها اكتشفت أن ابنتها تمارس الفعل المخل مع أحد الشباب، فتدخل الوالد لينهاها فكان جزاؤه تلقي ضربة عنيفة بمجسم ليجد نفسه في غرفة الإنعاش، ثم رفعت الأم شكوى ضد الابنة إلا أنها سرعان ما تنازلت وصفحت عنها. وتأخذ ظاهرة تعاطي المخدرات أبعادا أخطر من ذلك، حيث أن الاعتداء على الأصول تحت تأثير المخدر قد يؤدي إلى إزهاق الأرواح، ففي قضية لشاب كان يدمن شرب المخدرات والخمر، وكان يطلب من والدته إعطاءه المال بالقوة ويسبها فتدخل الوالد وحصلت بينهما مناوشات كلامية أدت إلى استخدام العنف اللفظي والجسدي ضد الوالد، وضرب الإبن والده بالسلاح الأبيض، حيث ألحق ذلك عجزا معتبرا بالوالد أكده الطب الشرعي. وتنعكس الظروف العائلية السيئة سلبا على طبيعة العلاقة الأبناء والآباء، وما حدث في واقعة أخرى كان سببها هاجس الانتقام، وهي ترتبط بأسرة نشأ أطفالها على مشاهد العنف بين الوالدين اللذين تنشب بينهما الكثير من الخلافات، فالأب متسلط والأم فريسة تتعرض للظلم، وهذا ما لم يتحمله الإبن الذي كان يدرس في الجامعة، وعندما رجع وجد الأب يعامل الأم نفس المعاملة فتوترت العلاقة بينهما وبتنامي التراكمات الانتقامية للإبن، قام بضرب والده ضربا مبرحا أدى إلى وفاته.قضية أخرى متعلقة بالطمع في الميراث، حيث قامت الابنة بتحريض من زوجها بضرب والدتها المسنة «بالمهراس» بغية الاستيلاء على ممتلكاتها. قد تؤدي الصراعات الدائمة بين الحماة والكنة إلى تعنيف الأم في حال ما إذا وقف الزوج في صف زوجته، وهي الحالة التي سرد لنا تفاصيلها المحامي وهي متعلقة بالصراع بين كنة وحماة أدى إلى توليد صراع بين الزوج وأمه، وملء قلب الزوج بالحقد الذي تراكم ليتحول إلى شرارة قابلة للاشتعال، فبمجرد حدوث سوء تفاهم بسيط، قام بضرب والدته حفاظا على الأسرة الصغيرة. هي مجموعة من الأسباب التي لا تبرر السلوكات التي تصدر عن الأبناء وتعاملهم بعنف مع الأولياء، رغم الأحكام الشرعية الصارمة في هذا الخصوص والتي يدرسونها منذ الصغر. وعن القوانين التي تعاقب على التعدي على الأصول، يقول الأستاذ: إن القانون ينص على تسليط أقصى العقوبات على كل من يتعدى على والديه سواء باللفظ أو بالضرب، حيث تصل العقوبة إلى السجن المؤبد والإعدام في حالة حدوث إعاقة دائمة أو وفاة، وتنص المادة 267 من قانون العقوبات أن أي اعتداء على الأصول يؤدي إلى جرح أحد الوالدين يستلزم عقوبة تتراوح بين خمس إلى عشر سنوات سجنا في حال ما إذا لم يؤد ذلك لعاهة مستديمة، وفي حال ما تسبب الاعتداء في إعاقة دائمة لأحد أو لكلا الوالدين فإن العقوبة يمكن أن تصل إلى عشرين سنة وتتضاعف إلى المؤبد إذا تسبب الاعتداء في الوفاة وإذا كانت الجريمة مع سبق الإصرار والترصد فإن العقوبة قد تصل إلى الإعدام.ويضيف الأستاذ: «إن الوالدين رحيمان بالأبناء والبنات ولا يرضون برؤية فلذات أكبادهم رغم عقوقهم في الحبس ومع تنامي ظاهرة المخدرات والانحراف في وسط العديد من الشباب وغياب الوازع الديني ستظل ظاهرة العنف ضد الأصول بمثابة قنبلة موقوتة تهدد التماسك الأسري مادام العديد من الأصول الضحايا يضعون حدا لسير قضية الاعتداء بالصفح«. حكم الشريعة الإسلامية في ظاهرة الاعتداء على الأصول يقول السيد عبد الله بن عالية، دكتور في الشريعة الإسلامية: «هذه الظاهرة غريبة على مجتمعنا المسلم، فالكثير من شباب اليوم لا يهتمون بالأمور الدينية وغياب الوازع الديني داخل العائلات يؤدي إلى عدم الاحترام، ولذلك إتباع القيم الإسلامية ينقص من انتشار هذا النوع من الإجرام ونحن نلاحظ تأثر هذا الجيل بالحضارة الغربية، ويعتبر عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا)، قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وشهادة الزور»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه«. والعقوق أحد المعاصي عند الله سبحانه وتعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا»، وقال الله سبحانه وتعالى: «ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما»ويضيف الأستاذ أن العقوق دين لابد من قضائه في الدنيا قبل الآخرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: «اثنان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين«.ولذلك يجب مناشدة أئمة المساجد وخطبائها بتقديم توضيحات ودروس فقهية وشرعية لهذه الظاهرة الغريبة للحد من زيادة انتشارها في مجتمعنا الإسلامي. رأي مختص في علم النفس الاجتماعي يقول الأستاذ يوسف املايح، دكتور في علم النفس الاجتماعي: «تعتبر هذه الظاهرة عار في عرفنا الاجتماعي، والعادات والتقاليد في المجتمع الإسلامي لا تسمح بعدم احترام الوالدين نظرا لمكانتهم المهمة في المجتمع، وتنتشر هذه الظاهرة، خاصة في الأوساط المدنية مقارنة بالقروية وهذا راجع إلى الصعوبات والضغوطات التي تخلفها الحياة داخل المدينة وعادة ما نجد أن الجناة هم أغلبهم من الشباب والمراهقين والقصر الذين يجدون صعوبات كبيرة في التكيف والتطبيع مع المجتمع، ولقد تفشت هذه الظاهرة بشكل كبير في المجتمع لأسباب وعوامل عديدة منها تدني الوضع الاقتصادي للأسر وانحراف بعض الشباب وتعاطيهم للمخدرات، إذ يضطر المدمن تحت تأثير المخدرات إلى ارتكاب أفعال مشينة تدفع إلى التصرف بعدوانية مفرطة تجاه الآخرين، فإذا طلب من والديه أن يعطوه المال لشراء المخدر ورفضوا طلبه، فإنه يستخدم جميع أنواع العنف لتحقيق مطالبه، وحين يتعاطى الشخص المخدرات تقتل فيه الجوانب الإنسانية من إحساس بالأصول والدفء العائلي، فالإنسان المخدر لا يعي سلوكياته ولا يفرق بين شخص عادي ووالديه، وأي حوار معه يسبب له إزعاجا ورد فعل عنيف يتجلى في الضرب والسب إلى جانب انتشار البطالة في الأوساط الفقيرة، حيث أن الضغط وتراكم المشاكل الاجتماعية والمعيشية يولد الانفجار والعنف في العديد من الأحيان لاسيما أن الكثير من أبناء الجيل الحالي لا يتحملون المسؤولية ولا ينظرون إلى الأولياء بنظرة الاحترام، بل بصفة مشحونة بالانتقام على أساس أن أولياءهم أساس معاناتهم وتخبطهم في البطالة، بالإضافة إلى التفكك الأسري الناجم عن الخلافات، ونشأة الإبن على مشاهد العنف، ومع توالي الأيام يعمد الإبن إلى الانتقام من الوالدين محملهم المسؤولية عن الوضعية التي آل إليها، بالإضافة إلى الوازع الأخلاقي، فاختلال منظومة القيم وتراجع الأخلاق يشكل أحد الأسباب في انتشار الظاهرة، فقد أصبح مجتمعنا بفعل هيمنة القيم السيئة وتغليب المصلحة الذاتية يعيش نوعا من اختلال المعايير وتراجع العديد من القيم الاجتماعية كالتضامن والتكافل وتفشي الفردية أو الأنانية وغياب التواصل بين مكونات الأسرة وغياب آليات الحوار داخل الأسرة وانعدام التواصل وعدم القدرة على حل المشاكل الاجتماعية تسود لغة العنف ويحل معها فقدان الثقة بين مختلف أعضاء الأسرة وهو ما ينعكس سلبا على العلاقة مع المجتمع مما يخلق لدى الإبن إحساسا بالضياع والقلق فيدفعه من ثم إلى الانحراف واعتماد العنف تجاه ذاته وتجاه الآخرين، بالإضافة إلى حالة القلق والاحتقان التي عانى منها الفرد بعد معاناة سنوات من العنف الإرهابي فتولدت صورة العنف والعقد في تفكير بعض الأفراد. فنظرة بعض الأبناء لوالديهم هي نظرة انتقام، لأنهم ليسوا أثرياء، بل عاجزين عن تكوين ثروة، ويقول الأستاذ «أما عن الانعكاسات النفسية لهذه الاعتداءات على الوالدين، فهي جد خطيرة على استقرارهم النفسي، إذ أن الأشخاص المعنفين يتولد لديهم شعور حاد بالانقباض والإحباط وعدم القدرة على العيش بشكل طبيعي وحالة من فقدان الأمل في المستقبل وعدم الشعور بالأمان والاستقرار وفقدان الثقة في النفس».