تضطر بعض العائلات محدودة الدخل إلى استئجار مكان تعيش فيه نظرا لعدم قدرتها على شرائه لانخفاض دخلها مقابل ما تتطلبه الحياة من مستلزمات كثيرة فتتراكم عليها ديون الإيجار وتصبح عاجزة عن دفعها، وتكون مهددة بالطرد ما يجعلها مشردة في الشارع، وعائلات أخرى طردت إلى الشارع من أقرب الناس إليها دون رحمة. هي عائلات لم تقدر على دفع ديون إيجار المكان الذي تعيش فيه فطردت منه، وأخرى طردت من أقرب الناس إليها فاضطرت إلى اختيار الشارع كمأوى لها. عائلات وجدت نفسها بين ليلة وضحاها في العراء والعذاب تعيش مع شبح الخوف من أن تتعرض للاعتداء أو السرقة من المارين في الطريق، هي عائلات تعيش في حالة اجتماعية مزرية داخل بيوت من الكارتون أو تنصب الخيمات كأنهم من الرحالة وبعضهم من لم يجد بديلا غير الأقبية لتصبح مأوى لهم تحت الأرض لا يشعرون بالاستقرار والأمان ولا يستطيعون ترك أبنائهم بمفردهم خوفا عليهم من الخطر الذي قد يصيبهم بمفردهم في الشارع الذي لا يرحم، وينتابهم الرعب من أن يأتي يوم ويطردون حتى من المأوى الوحيد الذي وجدوه كملجأ رغم أنه لا يتوفر على أدنى متطلبات الحياة. أردنا التقرب منهم لنلمس معاناتهم، وبتجولنا في أحد أحياء العاصمة، وجدنا عائلات تسكن في الخيم في حي بالمقرية «ليفيي» فأردنا معرفة الأسباب التي أدت إلى وجودها في هذه الحالة، وبمجرد دخولنا وجدنا عائلة مكونة من سبعة أفراد، كلهم أطفال أبرياء صغار لا يجدون المكان الكافي لوضع أغراضهم الخاصة ولا يجدون حتى الماء الضروري للحياة أو الكهرباء لإضاءة هذه الخيمة المظلمة في الليل، وعن سبب تواجد هذه العائلة في هذه الحالة الصعبة، تقول الأم أن قصتها المؤلمة بدأت حين أصيب زوجها بمرض جعله طريح الفراش، غير قادر على العمل، وباعتباره المعيل الوحيد لعائلته بدأت ديون البيت الذي كان بالإيجار تتراكم، وكانت ترسل لهم إنذارات كثيرة بالطرد، ولكن هذه الأم التي تشكو هي الأخرى من مرض القلب وغير قادرة على العمل لم يكن بيدها أي حيلة لإنقاذ عائلتها من التشرد، فبالرغم من طلبها المساعدة من عائلتها، إلا أن هذا المال لم يكن يكفي حتى لسد حاجات أفراد هذه العائلة الكبيرة من طعام، خاصة مع ارتفاع الأسعار إلى أن جاء اليوم الذي لم تكن تتوقعه هذه العائلة حين تم تنفيذ قرار الطرد من البيت الذي كان يحمل ذكرياتها فوجدت حياتها في لحظة تنقلب رأسا على عقب، وهو ما أثر على نفسية أطفالها وأصيب أحد أبنائها ب»فوبيا الخوف»، وهو ما زاد من معاناة هذه العائلة ولم يجدوا مخرجا سوى أن يحتموا بهذه الخيمة التي كانوا يستعملونها عند ذهابهم إلى البحر في عطلة الصيف، ولكنها اليوم أصبحت هي المكان الذي يعيشون فيه ويتحملون قسوة البرد داخلها، ولم يجد أطفالها مكانا يلعبون فيه سوى الرصيف أمام المارة، معرضين للإصابة بالكثير من الأخطار ويضطرون إلى البحث عن الماء بقطع مسافات طويلة، بالإضافة إلى البحث عن مرحاض في الخارج لقضاء حاجتهم الضرورية بعد أن حرمتهم ظروفهم المادية السيئة من أن يعيشوا حياة كريمة تليق بأي إنسان وهذا ما جعل أحد أطفالها والذي كان نجيبا في دراسته يتخلى عن حلمه في إكمال تعليمه ويبحث عن مهنة لمساعدة عائلته رغم أنه لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره، وقد تحمل هذه المسؤولية كونه أكبر إخوته. عائلة أخرى مكونة من ثلاثة أطفال يعيشون مع أمهم وجدناها تعيش داخل كارتون تحت أقواس ساحة الشهداء. أردنا الاقتراب منها لمعرفة سبب تواجدها في العراء، تقول «بدأت مأساتي عندما قررت الزواج والعيش مع عائلة زوجي، وبالرغم من أنهم كانوا على خلاف معي، إلا أنني كنت أصبر، لأني كنت أعيش في منزلهم، خاصة أن زوجي لم يكن قادرا على شراء بيت يأويني مع أولادي، ولكن بعد وفاة زوجي ونتيجة نشوب خلاف بينهم وبيني قاموا بطردي من المنزل دون أي رحمة، ولأنني يتيمة الأبوين، لم أجد من يأويني ويحميني من العيش في الشارع ولم أجد أي سبيل سوى أن أحمي أطفالي بهذا الكرتون وأنا على هذه الحالة منذ ثلاثة أشهر، أسهر الليالي لأحرص أطفالي من خطر الطريق الذي لا يرحم أحدا دون أن ينظر إلى حالتي المزرية أحد من السلطات المعنية، فبالرغم من تقديمي العديد من الشكاوى، إلا أني لم أجد آذانا صاغية»، هي معاناة نقلت لنا من نظرات هذه الأم التي وجدت نفسها وحيدة في هذه الحياة بعد موت زوجها تريد أن تضمن الحماية لأطفالها في بيت صغير يحميهم من قسوة البرد التي جعلت ابنها الرضيع يصاب بمرض في صدره فكادت فقده بسبب حياة التشرد الذي لم تكن لها يد فيه، ولكن ظروفها الاجتماعية السيئة جعلتها تعيش دون مأوى. غيرنا وجهتنا إلى حي السيدة الإفريقية بباب الواد حين علمنا أن هناك أربعة أطفال يعيشون بمفردهم، مشردين في الشارع، فوجدناهم ينامون على الأرض أمام المزبلة بملابس مهترئة، وأردنا معرفة قصتهم، حيث تحكي لنا الطفلة سلمى بنظراتها الحزينة عن حياتهم المأساوية مع التشرد التي بدأت بعد موت أمها، ثم دخول والدها إلى السجن بتهمة السرقة وتراكم ديون الغرفة الوحيدة التي كانت تسترهم، وهذا ما أدى بصاحبها إلى طردهم إلى الشارع بالرغم من توسلاتهم له، لكن هذا لم يمنعه من رميهم مع أغراضهم في الطريق، فاضطرت إلى التوقف عن الدراسة والعمل بمبلغ بسيط لتوفير الطعام لإخوتها، وتضيف بعيون تملؤها الدموع «أخي البالغ من العمر 10 سنوات أصيب بصدمة نفسية، لأنه لم يتقبل أن يعيش في الشارع، ولا أعرف عنه أي خبر، فأنا أضطر إلى أخذ إخوتي معي إلى العمل لحمايتهم من خطر الشارع الذي لا يرحم أحدا». نموذج آخر لمعاناة العائلات المشردة والتي وجدناها تعيش تحت جسر فأردنا الاقتراب منهم لمعرفة سبب وجودهم في هذا الوضع المزري الذي جعلهم يعيشون في قبو مع الجرذان والروائح الكريهة التي تنبعث من قنوات الصرف الصحي، وأسوأ ما في الأمر وجود طفل يبلغ من العمر أربع سنوات أصيب بمرض خطير في الرئة بسبب الرطوبة وعدم دخول أشعة الشمس إليهم، أردنا معرفة المزيد عن هذه العائلة المعزولة تحت أنفاق الأرض، فاقتربنا من الأم التي تعاني من حالة نفسية سيئة بسبب وفاة ابنها الرضيع بعد إصابته بسرطان الرئة بهذا المكان غير اللائق صحيا، وما زاد الأمر سوءا مرض ابنها الصغير، وتبدأ حكايتهم المؤلمة عندما كانوا مستأجرين لمحل بمبلغ بسيط، لأنهم لم يكونوا قادرين على كراء شقة بعدها تعرض زوجها لحادث مرور جعله غير قادر على العمل، عندها بدأت تتراكم الديون عليهم، وهذا ما جعل صاحب المحل يطردهم، حينها أصبحوا يواجهون مصيرا مجهولا يبحثون عن ملجأ يسترهم من التشرد ويحميهم من نظرة المارة التي سيواجهونها في الشارع، ولسوء حظهم أن لا أقارب لهم يلجأون إليهم، فلم يجدوا سوى هذا المأوى رغم أنهم يقطعون مسافات طويلة لجلب الماء، هي معاناة لمسناها من خلال هذه العائلة التي تعيش حياة غير لائقة، معرضين لخطر الإصابة بأمراض تنفسية، هو واقع لم تختره هذه العائلة ولكنها لم تجد سوى هذا الملجأ ليحميها من قسوة البرد ومن نظرات الناس. خلال جولتنا هذه التقينا بشاب في مقتبل العمر ضاقت به حياته المعيشية وتحولت إلى جحيم بعد أن كان يعيش حياة مستقرة وميسورة أصبح في لمحة بصر مشردا في الطريق بحي ڤاريدي يحتمي بخيمة مكتوب عليها «أخي هو السبب في وضعيتي»، بعيون مملؤة بالدموع ونظراته الحزينة يحكي لنا عن السبب الذي أدى إلى وجوده في حالة الشقاء، فبعد وفاة والديه اللذين كانا يوفران له الحماية، حيث يقول «استغل أخي الكبير وفاة والدنا، ثم مرض والدتنا ووفاتها وقام بالتلاعب بأوراق الإرث وكتب البيت باسمه ومن ثم تزوج وقام بطردي بالقوة أمام الجيران ورمى أغراضي في الطريق دون أدنى مراعاة لصلة الدم بيننا وأنا أعيش حياة التشرد منذ سنة ولا أحد يلتفت إلى وضعيتي المزرية رغم الشكاوى التي قدمتها إلى الجهات المعنية، فأنا أضطر للبحث عن الماء بقطع مسافات طويلة مع أنني مصاب بإعاقة على مستوى رجلي اليسرى. ولكن مرضي لم يزرع أي ذرة شفقة في قلب أخي». شابة أخرى تعيش حالة من التشرد هي وابنتها المعوقة، وجدناها في حي بئر مراد رايس في حديقة تعيش داخل كارتون مغطى بكيس بلاستيكي أسود لا يليق أن يعيش فيه إنسان، والغريب في الأمر أنها طردت من قبل أخيها، حيث تقول: «كنت أظن أن أخي سيحميني ولم أكن أتوقع أنه سيأتي اليوم الذي سأطرد فيه إلى الشارع وأصبح مشردة بسبب زوجته التي كانت تملأ رأسه بأكاذيب، فعندما طلقني زوجي لجأت أنا وابنتي المعوقة إلى بيت أهلي الذي يعيش فيه أخي وزوجته التي لم تتقبل وجودي في البيت، وبدأت تتشاجر معي وتكذب على أخي الذي لم يصدق كلامي ولم يرأف بي أو بابنتي المريضة وطردنا بالقوة رغم توسلاتي له وبكاء ابنتي البريئة التي لم تكن تعرف ما يجري حولها، فأنا لم أكن أتوقع أن يتصرف معي أقرب الناس إلي بهذه الطريقة، خاصة وأن والداي متوفيان». وما يزيد من معاناتها وضعية ابنتها الصحية والتي لا تتحمل قساوة البرد بسبب معاناتها من مرض جلدي، خاصة وأن الطبيب قد نصحها بعدم تعرضها لبرودة الطقس التي قد تزيد حالتها سوءا، هي معاناة لعائلات لم تكن تريد أن تكون مشردة، ولكن ظروفها الاجتماعية السيئة جعلتها تختار الشارع كملجأ لها وتعيش حياة البؤس والقسوة دون حماية ،معرضين للإصابة بأمراض خطيرة بسبب قسوة البرد وحرارة الصيف دون أن يجدوا أي سقف يسترهم، فهم ينتقلون من مكان إلى آخر بحثا عن مأوى بسبب حالتهم المعيشية السيئة التي لم تجعلهم قادرين على استئجار بيت يأويهم ظاهرة التشرد تؤثر على نفسية الإنسان تقول الدكتورة كريمة سايشي، مختصة في علم النفس الاجتماعي: «إن الإنسان الذي لا يكون لديه مأوى ينتابه الشعور بعدم الاستقرار والأمان ويشعر دائما أنه دون حماية ويشعر دائما بالقلق والخوف من مصيره المجهول وما سيواجهه في الشارع وهو يعاني من حرمان اجتماعي ونفسي يجعله يشعر بالإهانة وأن كرامته مسلوبة وأنه بدون اعتبار فيحاول أن ينعزل عن المجتمع الذي يعيش فيه ويشعر بالخجل لما يعانيه من حالة مزرية وتهميش في الشارع، لذلك نجد بعض المشردين يفضلون العيش داخل المغارات أو تحت الأنفاق، لأنهم يخافون من نظرة الإحتقار والدونية، التي قد تواجههم من مجتمع لا يرأف بمن يعيش في الشارع، ولا يعترف بالظروف التي جعلته يعيش في هذه الوضعية المزرية، بل يظل ينظر إليه بأنه شخص لا قيمة له في المجتمع بما أنه لا يملك شيئا، وتعاني العائلات التي كانت تملك بيتا وطردت منه من حالة نفسية سيئة واضطراب نفسي وبعضهم يصيبه انهيار عصبي، لأنهم انتقلوا فجأة من حياة البيت الذي تعودوا عليه وكانت لهم ذكريات به إلى بيئة وحياة أخرى في الشارع فتتغير وتختلط عليهم الأمور، وبعضهم لا يتقبل حياة الشارع، لأنهم يجدون أنفسهم فجأة في العراء والبؤس والشقاء، متنقلين من منطقة إلى أخرى، يواجهون مصيرا مليئا بالمعاناة والتعاسة في حياة غير مستقرة، ويصيبهم اليأس وفقدان الأمل في الحياة، وبعضهم يعاني من إحباط شديد وضغط نفسي من الحياة الصعبة التي يواجهها في الشارع دون أن يجد حلا لها، وهذا قد يسبب له اختلالا عقليا إذا استمر في حياة التشرد لمدة طويلة. كما سيؤثر حتى على أطفالهم، لأن طردهم من المنزل سيبقى راسخا في ذاكرتهم وهذا سيجعلهم يصابون بفوبيا الخوف عندما يسلبون من المكان الذي تعودوا عليه ويصبحون انطوائيين ويعانون من عزلة اجتماعية، لأنهم لا يملكون بيتا أو مكانا يلعبون فيه كبقية الأطفال بالإضافة إلى احتمال إصابتهم بعقدة نفسية واختلال في ذاتهم وشخصيتهم نتيجة ما واجهوه من معاناة في الشارع.