في كفارة الغيبة، هل يجزئ قول: (رب اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات) عن الاستغفار لمن اغتبته، أم يجب الدعاء له بالاسم؟ الغيبة من كبائر الذنوب، ولا شك أن جميع المسلمين يدركون هذا، ويعلمون ما للمغتاب من عذاب عند الله تعالى، والخطورة في هذا الذنب تأتي من وجهين اثنين: 1- أنه متعلق بحقوق العباد، فهي لذلك أشد خطرا، إذ يتعدى فيها الظلم إلى الناس. 2- أنها معصية سهلة ينقاد إليها غالب الناس إلا من رحم الله، والشيء السهل يحسبه الناس في العادة هينا وهو عند الله عظيم. وفي أمر كفارة الغيبة لا بد من التنبيه إلى بعض الجوانب المهمة: أولا: إن تقرير كون الاستغفار كفارة للغيبة لا يعني وقوعها كافيةً في ذلك، فإن الأصل أن الذنوب لا تُمحى إلا بالتوبة الصادقة التي يصحبها الإقلاع والندم وعدم العود وصدق القلب في معاملة الخالق سبحانه، ثم يُرجى لمن جاء بهذه التوبة أن يغفر الله له ذنبه ويعفو عنه خطيئته. أما حقوق العباد ومظالم الخلق، فلا يكفرها إلا عفوُ أصحابها عنها ومغفرتهم لها، دليل ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حين يقول: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري فقد جاء الأمر بالتحلل من المظالم قبل أن يوافيَ الناسُ يومَ الحساب، فيكون التحلل يومئذ بالحسنات والسيئات، وتكون الخسارة الحقيقية على من ظلم الناس في أموالهم أو أعراضهم أو دمائهم. ثانيا: فالواجب على من أراد أن يستبرئ لنفسه من إثم الغيبة أن يسعى جاهدا في التحلل ممن اغتابه، فيطلب منه العفو والصفح، ويعتذر إليه بالكلام اللين والحسن ويبذل في ذلك ما يستطيع، حتى إن اضطر إلى شراء الهدايا القيمة الغالية أو تقديم المساعدة المالية، فقد نص العلماء على جواز ذلك كله في سبيل التحلل من حقوق العباد. ولما رأى أهل العلم من السلف الصالحين والفقهاء الربانيين أن التحلل من العباد في أمر الغيبة قد يؤدي في بعض الحالات إلى مفسدة أعظم، فيوغر الصدور ويقطع الصلات، وقد يُحمِّلُ القلوب من الأحقاد والأضغان ما الله به عليم، رخص أكثر أهل العلم في ترك التحلل، ورجوا أن يكفي في ذلك الاستغفار للمغتاب والدعاء له والثناء عليه في غيبته. وإن كان آخرون من أهل العلم ذهبوا إلى أن الغيبة لا يكفرها إلا عفو صاحب المظلمة عنها. لكن الصواب أنه إذا صدقت توبة مرتكب الغيبة، لم يلزمه أن يخبر بذلك من اغتابه، لاسيما إن خاف مفسدة ذلك، كما هو الغالب. إذا فالاستغفار لمن اغتبته إنما هو عذر طارئ وحالة ضرورة اقتضتها الشريعة التي تقدم درء المفاسد على جلب المصالح. وفهم ما سبق يبين خطأ من يتساهل في إثم الغيبة معتمدا على أن الاستغفار كافٍ في تكفير تلك المعصية، ولم يدرِ أنه أخطأ في ذلك من ثلاثة وجوه: 1- أنه نسي أن شرط التوبة الأساسي هو الندم والإقلاع وصدق الإنابة إلى الله تعالى، وهذا الشرط قد لا يوفق لتحقيقه كثير من الناس. 2- أن الأصل في تكفير حقوق العباد السعي في طلب العفو منهم، فإن كان التقدير أن إخباره بالغيبة سيؤدي إلى مفسدة أعظم، فيلجأ إلى الاستغفار حينئذ، وإلا فالأصل أنه يذهب ليطلب الصفح ممن ظلمه. 3- وذلك يدلك على أن المغتاب إن كان قد بلغه ما اغتابه به رجل آخر، فإنه - والحالة هذه - لا بد من طلب العفو منه مباشرة، كي يزيل ما أصاب قلب المغتاب من أذى، وما حمله من كره أو حقد عليه، فإن لم يعف ولم يصفح، فليس ثمة حيلة بعد ذلك إلا الاستغفار والدعاء. ثالثا: ثم بعد ذلك كله، هل يظن السائل أن الاستغفار بصيغةٍ عموميةٍ (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات) كافٍ في تكفير إثم الغيبة ؟!! نحن نقول إننا حين نرجو من الله أن يكون الدعاء والاستغفار مكفرا للسيئات، لا بد أن نصدق الله في هذا الدعاء، فنخلص فيه المسألة، ونبتغي إليه الوسيلة فيه، ونكرره في مواطن الإجابة، وندعو فيه بكل خير وبركة له في الدنيا والآخرة، ولا شك أن هذه الحالة من الدعاء تقتضي تخصيص المدعو له: إما بذكر اسمه أو بذكر وصفه فتقول: اللهم اغفر لي ولمن اغتبته وظلمته، اللهم تجاوز عنا وعنه..إلى آخر ما يمكن أن تدعو به. أما الصيغ العامة فلا تبدو كافية في تحقيق ما ترجو من الله تعالى، فكما أنك اغتبته باسمه أو وصفه، وخصصته بالأذى، فكذلك ينبغي أن يكون الاستغفار والدعاء مخصصا حتى تقابل السيئات بالحسنات. ربعا: ينبغي التنبه إلى أن المقصد من الاستغفار والدعاء هو دفع السيئة بالحسنة، ومقابلتها بها، ولذلك فلا يتحتم الاستغفار دون غيره من الأعمال، بل يمكن أن تعمل العمل الصالح ليكون ثوابُه مقدَّما لمن اغتبته، كأن تتصدق عنه أو تقدم له المساعدة، وتقف معه في محنه، فتحاول تعويضه عن ذلك الأذى بما تستطيع. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: »وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة، وهذا حق، ولا فرق في ذلك بين القاتل وسائر الظالمين، فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلا بد له من العوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يبق مفلسا، ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوض المظلوم من عنده فلا راد لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ولهذا في حديث القصاص الذى ركب فيه جابر بن عبدالله إلى عبدالله بن أنيس شهرا حتى شافهه به، وقد رواه الإمام أحمد وغيره واستشهد به البخاري في صحيحه، وهو من جنس حديث الترمذي صحاحه أو حسانه، قال فيه: (إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه). وفي صحيح مسلم من حديث أبى سعيد: (أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) وقد قال سبحانه وتعالى لما قال (ولا يغتب بعضكم بعضا) - والإغتياب من ظلم الأعراض - قال: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم). فقد نبههم على التوبة من الاغتياب، وهو من الظلم. وهذا فيما علمه المظلوم من العوض، فأما إذا اغتابه أو قذفه ولم يعلم بذلك، فقد قيل: مِن شرط توبته إعلامه. وقيل: لا يشترط ذلك. وهذا قول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد، لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات: كالدعاء له، والاستغفار، وعمل صالح يهدى إليه يقوم مقام اغتيابه وقذفه. قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته«.