الغيبة خُلق ذميم يمقته الشّرع كل المقت، ويبغضه العقل النّاضج والعُرف السّليم والذوق الصّادق، ويأباه المجتمع النّظيف، وهو مرض اجتماعي خطره جسيم، وآثاره مدمِّرة، ناتج عن نفس مريضة سلبية محتقرة لغيرها. صوّر القرآن الكريم المغتاب بصورة وحش انقضَّ على أخيه الإنسان بعد موته، فأخذ يلتهم جُثَّته وينهش لحمه ويُمزّق أوصاله! قال الله سبحانه وتعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمُ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيِّتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ ثَوابٌ رَحِيمٌ} الحجرات .12 لذا، تجد السُنّة الصّحيحة تُفصِّل هذا النص القرآني تفصيلاً بيِّناً، وتوضّحه توضيحاً ظاهراً، وتشرح الآثار المترتبة عن الغيبة كما جاء في الحديث الّذي يرويه مسلم والترمذي من طريق أبي هريرة، رضي الله عنه، أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: ''كلّ المسلم على المسلم حرام.. دمُه وعِرضُه ومالهُ''. والمغتاب يؤذي أخاه في عِرضه، لأن العرض هو موضع المدح والذم في الإنسان، وإطلاق العرض على النساء هو عرف الناس. وروى البخاري ومسلم قوله صلّى الله عليه وسلّم: ''ولا يغتَب بعضكم بعضاً وكونوا عباد الله إخواناً''. كان السلف الصّالح يقولون: أدركنا السّلف، وهم لا يرون العبادة في الصّوم ولا في الصّلاة، ولكن في الكفِّ عن أعراض النّاس. لذلك. لمّا سمِع سيّدنا عليّ بن الحسين زين العابدين السجّاد. رضي الله عنهما. رجُلاً يغتاب آخر، قال له: إيّاك والغيبة، فإنّها إدام الكلاب. تأمّلوا كيف أدَّب النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، زوجته السيّدة عائشة، رضي الله عنها، كما جاء في الحديث الّذي رواه أبوداود والترمذي والبيهقي من طريق عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلتُ للنّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، حسبُك صفية كذا وكذا (قال بعض الرواة: تعني قصيرة)، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ''لقد قلتِ كلمة لو مُزِجَت بماء البحر لمزجته''. قال العلماء: الغيبة هي أن تذكُر أخاك المسلم بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرتَه بنقص في بدنه أو نسبه أو خُلُقه أو فِعله أو دينه أو دنياه، بل حتّى في ثوبه ودابته. روى مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: ''أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: ذِكرُك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيتَ إن في أخي ما أقوله؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه''. إنّ الغيبة حرام بالكتاب والسُنّة والإجماع، بل نقل شيخ المالكية في عصره، الإمام القرطبي، الإجماع على أنّها من الكبائر، بل ويُحرَم سماعها أيضاً كما قال الإمام النووي: ''اعلم أنّ الغيبة كما يُحرَم على المُغتاب ذكرُها يُحرم على السّامع استماعها وإقرارها، فيجب على مَن سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرّمة أن ينهاه إن لم يخف ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه ومفارقة ذلك المجلس''. لابدّ على المغتاب أن يبادر بالتوبة، وذلك بالنّدم على فعل الذنب والعزم على عدم الرجوع إليه والإقلاع عنه وتركه. وقد اختلف العلماء في الغيبة، هل يشترط أن يطلب المغتاب ممّن اغتابه أن يغفر له ويسامحه، أم يكفي أن يستغفر لنفسه ولمن اغتابه، أم يجب أن يطلب الصفح والمغفرة ممّن اغتابه إن بلغته الغيبة ولا يجب إن لم تبلغه؟ فبالأول، قال الجمهور، وهم الأكثرون، إنّه مطالب بالاستحلال وطلب المعذرة والمغفرة ممّن اغتابه، وبالثاني قال الحسن البصري، وبالثالث قال ابن المبارك. يُستَحب مَن سُئل من أخيه أن يُحلّله ويسامحه أن يبادر إلى ذلك، جاء في الأثر: ''أيَعجِزُ أحدُكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟ كان إذا خرج من بيته قال: اللّهمّ إنّي تصدّقت بعرضي على النّاس''. وكما قال الإمام المطلب محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: ''مَن استُرضيَ فلَم يرض فهو شيطان''. ولا شكّ أنّ العفو عن النّاس مندوب إليه ومحبوب عند الله وعند النّاس وله ثواب جزيل: {فليعفوا وليصفحوا ألاَ تُحبُّون أن يغفر الله لكم}. *إمام مسجد بن باديس الجزائر الوسطى