لقد عرف تاريخ الثورة الطويل أحداثا هامة أثرت على مسار الثورة ودفعتها نحو التقدم والصمود من أجل نيل الاستقلال، ولعل تشكيل الحكومة المؤقتة الجزائرية (19 سبتمبر 1958م) يعتبر من بين أهم الأحداث التي كان لها تأثير واضح في السير قدما نحو الاستقلال. وقد ارتأينا أن نفرد الحديث في هذا المقال حول الظروف العامة التي أدت إلى تأسيس الحكومة الجزائرية المؤقتة بقيادة "فرحات عباس"، ذلك أن معرفة هذه الظروف تمكننا من فهم مختلف المسائل المتعلقة بنشاط الحكومة طيلة أربع سنوات من عمر الثورة. فنشأة الحكومة الجزائرية المؤقتة تعتبر نتيجة لظروف وعوامل داخلية وخارجية عديدة يمكن أن نجمل أهمها في ما يلي: أولا: الظروف الداخلية تعددت الظروف الداخلية التي مهدت لقيام الحكومة الجزائرية المؤقتة، إذ كانت هناك الظروف السياسية، والعسكرية وكذا الظروف الاجتماعية. فبالنسبة للظروف السياسية فإنه يمكننا أن نعيدها إلى انعقاد مؤتمر الصومام (20 أوت 1956م) حيث تشكل أول مجلس تنفيذي للثورة الجزائرية تحت اسم "لجنة التنسيق والتنفيذ". وبالنظر للمشاكل التي تعرضت لها اللجنة فقد اضطرت إلى تحويل مقرها إلى خارج الجزائر، لكن تفاقم الأوضاع أدى إلى ظهور أزمة داخلية سنة 1957م، تجلت في الصراع بين "كريم بلقاسم" و"عبان رمضان"، ليتم بعدها الاتفاق توسيع اللجنة في 20 أوت 1957م. إضافة إلى هذا يمكن أن نذكر أن أهم العوامل هو تغير معادلة الصراع بين طرفي الحرب وذلك بعودة الجنرال "ديغول" إلى سدة الحكم في فرنسا إثر انقلاب 13 ماي 1958م ، خاصة مع المشاريع السياسية والعسكرية والاقتصادية التي حاول "ديغول" من خلالها القضاء على الثورة. ولعل أهم هذه المشاريع هو تحضيره لاستفتاء حول الدستور الفرنسي. في ظل هذه الظروف شرعت الثورة في دراسة إمكانية إيجاد جهاز سياسي شرعي تجابه به مشاريع ديغول، وكذا السعي لإيجاد تسوية سلمية للقضية الجزائرية عبر هذا الجهاز. أما عن الظروف العسكرية فإن معظم الكتب التي تتحدث عن الثورة تكاد تجمع على كون ستة 1958م ،من أحرج سنوات الثورة الجزائرية حيث تعرضت الثورة لضغط سياسي كبير من طرف قوات الاحتلال. كما تلقت الثورة خسائر فادحة في الأرواح سواء في المعارك أو في محاولة جنود جيش التحرير عبور خطي شال وموريس الذين حدا من تدفق السلاح نحو الجزائر وكذا من حركة المجاهدين عند الحدود الجزائرية. أضف إلى هذا قيام جيش الاحتلال بملاحقة الثوار إلى داخل التراب التونسي والمغربي وكمثال عن هذا نذكر حادثة ساقية سيدي يوسف (08 فيفري 1958م)، وكذلك قام الاحتلال بمصادرة سفينة تشيكوسلوفاكية كانت محملة ب 148 طن من الأسلحة الموجهة للثوار. وبالنسبة للظروف الاجتماعية فإن حالة الشعب الجزائري كانت جد سيئة قبيل تأسيس الحكومة المؤقتة ، وذلك بالنظر إلى الإجراءات الفرنسية تجاه السكان الجزائريين وتوسيع المناطق المحرمة والمحتشدات، وكذا سعي "ديغول" إلى النيل من العلاقة المتينة بين الشعب وثورته وذلك من خلال مشروع "قسنطينة" سنة 1985م. هذا إضافة إلى الحرب النفسية التي شنتها المصالح الإدارية المختصة (SAS) لاستمالة الشعب وفصله عن الثورة. كل هذا جعل تشكيل حكومة جزائرية مؤقتة مطلبا شعبيا وثوريا في آن واحد. ثانيا: الظروف الخارجية يمكن أن نجمل الظروف الخارجية لقيام الحكومة الجزائرية المؤقتة فيما يلي: - ضغوط نظامي تونس والمغرب الأقصى على الثورة لأجل تشكيل جهاز دبلوماسي يفاوض فرنسا ، وذلك لتخوف الدولتين الناشئتين(تونس والمغرب) من امتداد الحرب إليهما خاصة بعد إعلان فرنسا حقها في المتابعة العسكرية لجنود جيش التحرير داخل حدود الدولتين، إضافة إلى هذا الإعلان كان ديغول يحاول كسب نظامي تونس والمغرب من خلال تقديم تنازلات لهما حيث وافق على إخلاء المراكز العسكرية المغرب في 14 جوان 1958م ، وبعد ثلاث أيام عقد اتفاقا آخر مع تونس يقضي بسحب كافة الجنود الفرنسيين منها باستثناء بنزرت. وقد تجلت هذه الضغوط بشكل كبير في ندوتي طنجة (27/29 أفريل 1985م) وتونس (17/20جوان 1985م). - كما أن ديغول كان يسعى إلى محاصرة الثورة دبلوماسيا وانتزاع المبادرة منها، لذا كان اقتراح تشكيل الحكومة المؤقتة بهدف كسب الدعم في مختلف المحافل الدولية. - وأيضا كانت الثورة تهدف من خلال تأسيسها للحكومة المؤقتة إلى القضاء على الادعاء الفرنسي أمام العالم بعدم وجود ممثل رسمي يمكن التفاوض معه، ففي تصريح لجريدة "المجاهد" بتاريخ 10 أكتوبر 1958م، ذكر "فرحات عباس" "إن تشكيل الحكومة المؤقتة من شأنه أن يجعل المفاوضات بين الجزائروفرنسا أكثر سهولة ودقة من ذي قبل". - وكذلك من الظروف الدولية التي أدت إلى نشأة الحكومة المؤقتة هو تلك الأحداث التي كان العالم العربي يشهدها، حيث أن فرحات عباس كتب في إحدى رسائله إلى جمال عبد الناصر أن إنشاء الحكومة المؤقتة يعتبر استجابة لنداء العروبة الصارخ، والمتمثل في أحداث متعددة عرفها العالم العربي منها الوحدة المصرية السورية (في إطار ما أصطلح عليه الجمهورية العربية المتحدة) ونجاح الثورة العراقية في 14 جويلية 1958م. إن مجمل الظروف التي تقدم ذكرها في هذا المقال كان لها دور كبير في تحديد مسار الحكومة المؤقتة وفي الإستراتيجية التي عملت بها طوال الفترة الممتدة بين عامي 1958 و1962م، كما أن تأسيس الحكومة المؤقتة كان له دور في رفع معنويات الشعب الجزائري وفي إعطاء الثورة صبغة شرعية أمام العالم أجمع.