لم يستطع محمد مقدم، وهو مدير مدرسة متقاعد شارك في حرب أكتوبر 1973، مشاهدة البرامج المصرية التي تعرض هذه الأيام بطولات المصريين، ولم تشر إلى الدور النوعي للقوات الجزائرية، وخاصة اللواء الثامن مدرّع الذي كان أحد عناصره، حيث أكد في حواره ل"الشروق اليومي" أن اللواء الجزائري تمكن من فك الحصار عن الجيش المصري الثالث، الذي قاد عملية اقتحام قناة السويس، وعبر عناصره خط "بارليف" المحصن ببراعة. وأضاف أنه لا يزال يتذكر الرسائل الصوتية للإذاعة الإسرائيلية الموجهة للقوات الجزائرية لتحييدها أيام الحرب، وكيف شاركت هذه القوات في أول استعراض للاحتفال بالسنة الأولى لهذا الانتصار، اعترافا من الرئيس أنور السادات، آنذاك بالمشاركة البطولية للجزائر في هذه الحرب. بداية، هل لك أن تقدم لنا وصفا بخصوص ظروف استدعاء اللواء الثامن مدرع للمشاركة في الحرب؟ لقد استدعيت لأداء الخدمة الوطنية كسائر الزملاء بثكنة ببريكة في ولاية باتنة، في اختصاص المدرعات، فتلقينا تدريبا نوعيا على يد خبراء روس (الاتحاد السوفياتي سابقا) وباللغة العربية، حيث كنا أول دفعة تتخرج بسلاح المدرَّعات تكونت باللغة العربية الفصحى، ثم نقل اللواء إلى منطقة بتلاغمة في ولاية قسنطينة. وذات ليلة في جلسة سهر مع الأصدقاء وفي أوائل شهر رمضان من سنة 1973، تلقينا نبأ اشتعال الجبهة المصرية السورية، وهجوم جيش العدو الإسرائيلي، فجاءت الأوامر إلى اللواء الثامن مدرع ليكون في حالة طوارئ من الدرجة الأولى، أي يوم 6 أكتوبر، ثم قررت القيادة السياسية آنذاك أن يشارك اللواء الثامن للمدرعات في الحرب الدائرة بالشرق الأوسط. ونزل العقيد محمد بن محمد عبد الغني، قائد الناحية العسكرية الخامسة على متن طائرة هليكوبتر، وعقد اجتماعا بالقيادات العسكرية للواء، ثم أبلغهم أوامر الرئيس هواري بومدين، بمشاركة اللواء في الحرب، وخاطبنا ضباطنا قائلين سيكون لنا شرف المشاركة إلى جانب القوات العربية في هذه الحرب ضد الجيش الإسرائيلي. وبعدها نقل اللواء الثامن مدرع برا وبحرا وجوا، وكان يتكون من قرابة 7000 مقاتل، وهو لواء شامل لكل الأسلحة، مشاة، مدرعات، وطائرات، ومشاة ميكانيكية، قوات خاصة وغيرها. وكنتُ ضمن عناصر فيلق سافرنا إلى القاهرة برا. انطلقنا بتاريخ 7 أكتوبر فدخلنا ڤابس التونسية، وقدمت هناك أوامر بالمساواة في الإطعام بين القوات الجزائرية والتونسية، ثم عبرنا الحدود الليبية، ونزلنا ضيوفا بطرابلس وقد استقبلنا بحفاوة كبيرة، حيث زارنا العقيد معمر القذافي، وكأنه ضابط من ضباط الجيش الجزائري، وتحدث إلينا، وطلب من القادة العرب آنذاك أن يكون قائد الجيوش العربية في الخط الأول لكن القيادة المصرية رفضت، ثم مررنا ببنغازي، طبرق، الكاف الأخضر، ثم مكثنا ليلة في مدينة مرسى مطروح المصرية، وهي مدينة تقع على شاطئ البحر، ثم انطلقنا إلى مدينة القاهرة، حيث استقبلنا من طرف قيادات عسكرية مصرية، منها وزير الدفاع المشير أحمد اسماعيل علي، محمد القمصي، أبو غزالة وغيرهم. هل لك أن تركز قليلا على تردد القيادة العسكرية المصرية في ضم القوات الجزائرية المشاركة إلى خط المواجهة رفقة الجيش المصري الثالث، وكيف اقتنعت القيادة المصرية بكفاءة المقاتل الجزائري؟ فعلا، لاحظ الضباط العسكريون المصريون أن أعمار القوات الجزائرية تتراوح بين 20 و23 سنة وهم شبان خلافاً للقيادات، وكانت أوامر الرئيس هواري بومدين، أن تكون القوات الجزائرية المشاركة ضمن الجيش الثالث المصري، الذي يعدّ القوة الضاربة في الجيش المصري بقيادة سعد الدين الشاذلي، لكن القادة المصريين استخفّوا بقدرات الجنود الشبان الجزائريين، فطلبوا من القيادات العسكرية الجزائرية أن يقوموا بمناورات عسكرية، للتأكد من قدراتهم القتالية وجاهزيتهم حتى يتسنى السماح لهم بإسناد الجيش الثالث. وبمنطقة تسمى "هيكستيب" قرب القاهرة، أجرينا مناورة عسكرية واسعة بالذخيرة الحية، بحضور ضباط وملحقين عسكريين من الدول العربية، وقد انبهروا في هذه المناورات بكفاءة القتال والتكوين والتحكم والقيادة وغيرها، ثم كانت مهمتنا الرئيسية تتمثل في فك الحصار عن الجيش الثالث، الذي تم محاصرته من كل الجهات من طرف القوات الإسرائيلية بعد نجاحها في إحداث ما يُسمى "ثغرة الدفرسوار"، وتم قطع خطوط الإمداد عنه من جميع الجهات، بعد أن تمكن هذا الجيش من عبور خط "بارليف" وقناة السويس، غير أنه حوصر، فكانت مهمتنا فك الحصار عن الجيش الثالث المصري. هل تعني أن القوات الجزائرية هي من قامت بإنقاذ الجيش المصري الثالث من الحصار الإسرائيلي في صحراء سيناء؟ أريد أن أؤكد أن القوات الجزائرية فقط من بين الجيوش العربية، إلى بقية البلدان من غير دول المواجهة كانت في الخط الأمامي، وتماس مع الجيش الإسرائيلي، في حين تم تكليف القوات العربية الأخرى بحماية المدن المصرية. وقد تمكنا بعد مواجهات عنيفة من دخول مدينة السويس، غير أن القوات الإسرائيلية احتمت بالمدنيين وحوّلتهم إلى دروع بشرية بعد احتلالها، وقد عوضت القوات الجزائرية قِسما من الجيش المصري، وتم فعلا فك الحصار بعد حوالي أربعة أيام من القصف المكثف الذي استخدمنا فيه كل الأسلحة، وفتحنا ثغرة في منطقة "القفرة" أو ما يعرف بثغرة "الدفرسوار" أي فتحنا بدورنا ثغرة داخل هذه الثغرة. إذن، كان للواء الثامن مدرع الجزائري دورٌ هام في حسم المعركة، وإنقاذ الجيش المصري الثالث؟ نعم، وقد فوجئ جيش العدو الإسرائيلي بقوة الجزائريين، خصوصا وأن المخابرات الجزائرية قد تمكنت من خداع نظيرتها الإسرائيلية من خلال نقل عناصر اللواء برا وبحرا وجوا، ما جعلها تعتقد أن الجزائر شاركت بفرقة عسكرية كاملة؛ أي ثلاثة ألوية مدرعة في الحرب، ما أثر على معنويات جيش العدو. وأتذكر حينها، أن الإذاعة الإسرائيلية وجهت خلال تلك الفترة رسائل صوتية إلينا، حيث توجه إلينا المنشط بلهجة جزائرية "يا أبناء الجزائر، يا أحفاد الأمير عبد القادر، المصريون سوف يخونونكم وسيتخلون عنكم، وهذه حرب لا تعني الجزائريين"، من إذاعة القدس، وكانت تعمل على رفع معنويات الجنود الإسرائيليين، إلا أن هذه الرسائل لم يكن لها أي تأثير على القوات الجزائرية. للإشارة، رغم كفاءة الجيش الثالث المصري وخبرة عناصره القتالية، وتمكّنه من عبور قناة السويس وإسقاط التحصينات الإسرائيلية، لكن في الأخير حوصر عناصره، وهم حوالي 120 ألف مقاتل في صحراء سيناء، فكان هدف العدو الإسرائيلي محاصرة القوة الضاربة في الجيش المصري ثم الزحف على القاهرة، غير أن القوات الجزائرية منعتهم من التقدم، وفتحت ثغرة تمّ عبرها إمدادُ الجيش المصري الثالث بالمؤونة والذخيرة وكل ما يحتاج. وهنا أشدد لولا الجيش الجزائري، وبسالة المقاتلين الجزائريين لزحف الإسرائيليون إلى القاهرة. وهل كانت هناك مواجهاتٌ مباشرة مع جيش العدو الإسرائيلي؟ كانت هناك مسافة في حدود كيلومتر واحد بيننا وبين قوات العدو، حتى أننا كنا نستطيع رؤية تحركاتهم بالعين المجردة، وكان هناك قصفٌ متبادل، وكانت طائرات من نوع "سكاي هوك"، و"فانتوم" تغير علينا من حين إلى آخر، لكن أسلحة المضادات الجوية السوفياتية التي تزوَّدت بها القوات المصرية والجزائرية والسورية، خاصة صواريخ "سام7″ كانت ذات فاعلية كبيرة، وأسقطت عدداً من هذه الطائرات، وقد تمكن لواؤنا المدرع من إسقاط عدد منها. ماذا حصل بعد الإعلان عن وقف القتال وإطلاق المفاوضات؟ بعد وقف القتال في 28 أكتوبر 1973، وبدء المفاوضات التي قادها وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك هنري كيسنجر، استمر تواجدُ القوات الجزائرية، بفضل الكفاءة القتالية العالية والعتاد العسكري النوعي. وبعد تدخل القوات الأممية للفصل بين القوات العربية والإسرائيلية، تواصل اختراق الخطوط الأمامية للجيش الاسرائيلي من الخلف عبر عمليات نوعية للقوات الخاصة المصرية والجزائرية، لمنع إسرائيل من إقامة موانع وتحصينات أثناء المفاوضات، وكنا نحن في اللواء المدرع الثامن الجزائري، نضمن التغطية النارية عبر القصف في حال كشف هذه العناصر المتسللة، حيث شاركتُ رفقة عناصر فصيلتي في احدى المرات في التغطية، بعد أن اكتشف العدو الإسرائيلي عملية التسلل، فقمنا بقصف مواقعه لإلهائه وضمان انسحاب عناصر القوات الخاصة الجزائرية المصرية، وقد زارنا تلك الليلة قائدُ اللواء المدرع عبد المالك ڤنايزية، الذي كان متواجدا رفقة قيادات عسكرية مصرية، فشرحنا له حقيقة ما حدث. عند مكوثنا هناك، وفي الذكرى الأولى لانتصار حرب أكتوبر سنة 1973، أقيم استعراض عسكري ضخم تحت قيادة قائد القوات المسلحة الرئيس أنور السادات، وكان الجيش الجزائري مشاركا في هذا الاستعراض. وأتذكر بعض الكلمات التي قالها الرئيس أنور السادات آنذاك، "ليت كل الأمة العربية هنا، تراكم وتفتخر بكم، أبنائي الأعزاء، أعاهدكم وأعاهد الله ألا أفرط في أي شبر من أرض فلسطين، وباسمكم جميعا أتقدم بالشكر الجزيل للرئيس الجزائري هواري بومدين". وخلال التحضير للاستعراض كان المصريون يستفيدون من النظام المنظم للقوات الجزائرية، نتيجة الانضباط، حيث كنا مثلاً للانضباط في الجبهة لباقي الجيوش العربية، بقدرتنا على التحمّل ومكابدة المصاعب نتيجة الأوضاع المتردية أثناء الحرب، بحكم التدريب النوعي والشاق الذي تلقيناه في الجزائر. والحقيقة أننا ظهرنا خلال الحرب أكثر تجربة وخبرة وانضباطاً من المصريين، حيث أبهرنا المصريين بإرادتنا في القتال وقدرتنا على الثبات والصبر والتحمّل. خلال تواجدكم في الجبهة، هل زارتكم قياداتٌ عسكرية من الجزائر للاطمئنان عليكم؟ في ذكرى وفاة ملك السعودية، عرّج علينا الرئيس هواري بومدين، رفقة وزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، وقام بزيارة القوات الجزائرية الرابضة في الجبهة، حيث وصل على متن طائرة هيليكوبتر، كانت مرفقة بسرب (12 طائرة) قتالية من نوع "ميغ" مع قيادات عسكرية مصرية، وقد اختير من كل فيلق عددٌ من العناصر لتقديم السلاح، واستقبال الرئيس ومرافقيه عسكرياً، وكنت من بين المشاركين. وأتذكر أن الرئيس كان مرفقا بالرئيس أنور السادات، وقال له مازحا "يا سيدي هاهم ولادك"، فنظر إليه الرئيس هواري بومدين، نظرة عكست عدم رضاه، ورد عليه "هم أبناء العروبة". ثم دعانا الرئيس بومدين إليه، وقال لنا "مهمتكم لم تنته بعد، المهمة تنتهي بعد تحرير القدس"، ثم أمر بمنحنا إجازة لمدة أسبوعين. هل لك أن تحدثنا عن قصة استشهادك ثم عودتك إلى الحياة من جديد؟ في سنة 1973، تلقى أهلي خبر "استشهادي" في الجبهة، وقد ذهب الزملاء الذين كنت أشتغل معهم معلما إلى رئيس بلدية الجلفة آنذاك، وأبلغوه نبأ "استشهادي" واقترحوا تسمية المدرسة باسمي، فوافق رئيس البلدية بتسمية مدرسة تقع بقرية "نثيلة" باسمي، وأقيم عزاءٌ خفية عن أمي لتأثرها الشديد. وبعد تعليمات الرئيس بأخذ إجازة، عدت إلى مسقط رأسي بالجلفة ليلا، واستقبلتني والدتي وإخوتي وهم منبهرون ومستغربون وأخبروني بقصة "استشهادي" بفعل انقطاع أخباري في الجبهة، ثم التقيت بزملائي الذين رووا لي حادثة تسمية المؤسسة التربوية باسمي فزرتها معهم، وقد عدت من جديد إلى الجبهة بعدها حتى نهاية المهمة. ما الرسالة التي تود توجيهها في ختام هذا الحوار؟ أرجو من القيادة السياسية للجزائر، أن تفرج عن المنظمة الوطنية لقدامى محاربين 67، 73، لأنها منظمة تفتخر بها الأجيال، ولكي يعوا حقيقة مشاركة الجزائريين في الحروب ضد العدو الإسرائيلي، فالجزائر شاركت في حرب 1967، رغم أنها كانت حديثة الاستقلال، ثم حرب 73 لتؤكد انتماءها العربي، وتمسكها بالقومية العربية وانتماءها لهذه الأمة. وأرجو أن تلتفت السلطات إلى من شارك في هذه الحروب، فأغلبهم يعانون من ظروف صحية واجتماعية جد صعبة.