بلحيته البيضاء وملامحه الحائرة، استقبلنا الحاج العروسي بقرية "الفرزول" التابعة لبلدية حاسي العش بولاية الجلفة، محاولا إيصال رسالة قرابة ألف ساكن، استجابوا لنداء الوطن سنوات الجمر وكلهم ثقة في الدولة التي طلبت منهم إعمار المنطقة لدحض الإرهاب، فكان جزاؤهم أن حكم عليهم بجمع الحطب لتدفئة أبنائهم. "إنه جزاء سنمار"، يقول الحاج العروسي. الوالج إلى قرية "فرزول" يندهش أولا باقتران كبرها مع حجم البؤس المخيم بها خاصة وأنها نادرا ما تكون محل حديث المسؤولين المحليين رغم خلفيات خلقها التاريخية واستعصاء مشاكلها عن الحل منذ أكثر من 15 سنة مع أن قاطنيها يجتهدون لتبليغ طلباتهم المتكررة والتي اطلعت عليها كلها السلطات المحلية، من الوالي إلى رئيس بلدية حاسي العش مرورا برئيس دائرة حاسي بحبح. الوقوف في وجه الإرهاب وبوادر ميلاد قرية "فرزول" يقول الحاج العروسي أن السلطات المحلية هيأت قريتهم سنوات العشرية السوداء كونها كانت منطقة عبور ونشاط للجماعات الإرهابية بحكم موقعها الذي يمتد من جبال "الأحداب" إلى حدود ولاية المسيلة، فكان الهدف المنشود خلق تواجد سكاني مسلح يشوش على الإرهابيين تنقلاتهم ومحاولات استغلالهم للمكان كقاعدة خلفية. "شهدنا على الأقل معركتين بالمنطقة بأتم معنى كلمة معركتين، شارك فيها السكان الأوائل للقرية واستشهد خلالها أحدهم كما شهدنا عدة عمليات تفجير، وهذا ما يدل على أهمية هذه الأراضي الممتدة للجماعات الإرهابية آنذاك وحرصها على السيطرة عليها"، يوضح محدثنا. الحاج "هتهات" يتذكر أيضا ظروف إنشاء قرية "فرزول" والتي عين موقعها قريبه المجاهد الفقيد "أبوبكر هتهات" الذي اختار "مفترق طرق تحركات الإرهاب" على حد تعبيره، فكانت البداية بمجرد خيمات نصبها من لبوا نداء الوطن في تلك الظروف الحالكة. "بعدها، سمح لنا بالبناء حتى بدون رخصة، الظرف كان استثنائيا وهم السلطات الوحيد آنذاك كان تثبيت تواجد سكاني لدواعي أمنية واضحة، أتذكر جيدا قائد القطاع العسكري حينها عندما طلب منا إعمار المنطقة بمقابل مساعدة السلطات المحلية لنا لاحقا، فاستجبنا ورحنا نشيد البيوت ليلا بطرق بدائية حتى بلغ عدد السكان 400 في ظرف وجيز"، يضيف الحاج "هتهات" الذي يتذكر جيدا زيارة عبد المالك سلال لهم عندما كان وزيرا للموارد المائية والوعود التي التزم بها حينها. وعود السلطات: تنكر أو نسيان؟ مرت السنوات وارتقى عبد المالك سلال وزيرا أولا ولا يزال سكان قرية "فرزول" في انتظار أن يلتفت إليهم، هو، أو أحد الولاة الذين تعاقبوا على الجلفة، والأصح، هو أن قاطني "فرزول" لا ينتظرون سوى تجسيد الوعود الممنوحة والتزام الدولة بالعهد الذي أعطته لهم عندما وقفوا سدا منيعا ضد الجماعات المسلحة. مطالب سكان "فرزول" بسيطة والمتمعن فيها يدرك سريعا أنها حقوق مشروعة وبديهية، لكن تعنت بلديتهم الأم "حاسي العش" على تلبيتها منذ 15 سنة لأسباب مجهولة، جعل منها أحلاما صعبة المنال، وهي التي لم تتحقق في عهد البحبوحة المالية فما بالك بزمن التقشف. الحطب للتدفئة وقارورة الغاز لمن أستطاع إليها سبيلا البلدية والمجالس المتوالية عليها تتردد كثيرا على لسان من تحدثنا إليهم كالمسؤول الأول عن معاناتهم المستمرة التي لخصها أحد السكان بقوله: "نعيش التمييز والتهميش وكأننا مواطنون من الدرجة الثانية". ففي أحد بيوت قرية "فرزول" مشهد يلخص لوحده حجم البؤس والعناء الذي يتكبده الساكنة: أطفال وشيوخ يتدفئون على نار الحطب… حطب مشتعل يجعل الزائر يتساءل عن المشقة المترتبة عن جمعه ونقله وتخزينه وتقطيعه. "نعم، في 2016، لا يزال بعض الجزائريين يستخدمون الحطب للتدفئة في بلد يصدر الغاز إلى أوروبا ولكنه يعجز عن إيصاله مسافة 07 كلم فقط لمواطنيه"، يسخر رب عائلة. من يعرف الجلفة، يعي جيدا أن انعدام الغاز بأحد تجمعاتها السكانية كارثة كاملة الأركان، فالمنطقة قاسية المناخ ببردها القارص والمتواصل طيلة ثمانية أشهر، من أكتوبر إلى ماي، فلا حيلة إذا لسكان "فرزول" سوى بالعودة إلى الأساليب البدائية التي يفترض أنها ولت دون رجعة، فإما جمع الحطب وإما اقتناء قارورات الغاز التي تبلغ تكلفتها ألف دينار باحتساب مصاريف النقل وهي التي لا تكفي سوى لتسخين غرفة واحدة لمدة قصيرة. ويقول أحد سكان القرية بهذا الشأن: "ثمن قارورة الغاز عند نفطال 230 دينار، لكننا هنا في منطقة باردة ومرتفعة ومعزولة تماما ما يضاعف تكلفة نقلها إلينا التي تناهز 1.000 دينار. نحن أمام خيارين أحلاهما مر، الإفلاس المادي أو البرد الشديد". عزلة شبه تامة والمتهم: وضع الطريق مشهد الأطفال أمام المدفأة التقليدية ينتظرون أن يصل إليهم الحطب لينعموا بالقليل من الدفء يمتزج في قرية "فرزول" بهجرهم لمقاعد الدراسة بسبب عزوف الأساتذة عن التدريس بالمجمع الدراسي للمنطقة. "أبنائنا يقطعون كل يوم مسافة تفوق 20 كم للالتحاق بمقاعد الدراسة بمدينة حاسي بحبح والسبب هو أن الأساتذة يرفضون التدريس بالقرية لصعوبة الوصول إليها بسبب تدهور الطريق"، يقول أحد أولياء التلاميذ. وضع الطريق المؤدي إلى القرية والبالغ طوله 11 كم يساهم أيضا في محاصرة سكانها وتعريضهم لعزلة شبه تامة، فالطريق شريان الحياة وإن غابت، انعدمت الحياة، هكذا يقول سكان "فرزول". "منذ سنوات ونحن نناشد البلدية تهيئة الطريق ولو كمسلك ريفي ولكن لا حياة لمن تنادي والنتيجة عزل السكان وحرمانهم من أبسط ضروريات الحياة"، يقول أحد السكان مضيفا: "الأستاذة والأطباء والممرضين يرفضون التنقل إلى القرية بسبب وضع الطريق، بالإضافة إلى التجار وبائعي قارورات الغاز، ناهيك عن تدهور مركباتنا وعزوف ناقلي المسافرين عن خدمة الخط الرابط للقرية، هل توجد عزلة أكثر من هذه؟". الحاج "لعروسي" يقول أنه لا يمكن حصر مشاكل قرية "فرزول" في نقاط محددة، لأن تراكمات السنين جعلتها خارج مجال التنمية وأجبرت سكانها على تبني أساليب العيش البدائي التي من المفترض أنها ولت. لكن المستعجل الآن في رأيه هو توفير أدنى متطلبات الحياة من غاز وطريق، قد تسمح للقرية إن توفرت أن تشهد ديناميكية تنموية اقتصادية بفضل سواعد سكانها الذي ينشط أغلبهم في مجال الفلاحة وتربية المواشي. "على الدولة أن تتذكر وعودها وتفي بهم"، يقول الحاج "لعروسي" وكله إيمان أن معركة التنمية تلت الصمود ضد الإرهاب وأن التضحية في سبيل الوطن ليست منا وإنما واجبا، تتبعه حقوق حتى لا يقال أن الجزائر أنكرت جميل من لبوا ندائها وقت الحاجة.