تعد الطفولة المسعفة من بين الظواهر الاجتماعية التي تضاعفت بشكل ملفت للنظر في بلادنا وعبر مختلف المجتمعات العربية والأجنبية، نظرا للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والقيمية التي ساهمت في نشر جملة من السلبيات، والتي لابد من مواجهتها في كل الظروف لأن الحياة شطران، شطر تقاسمك فيه همومك، وشطر تفرض فيه عليك همومها، حيث أصبح على الفرد أن يدفع ثمن أخطاء ليس له أي ذنب فيها. حسيبة موزاوي هناك أطفال يولدون في هذه الحياة، لا يجدون لهم سندا، محرومين من رعاية الأولياء وحنانهم، نحن نشير إلى أطفال افتقدوا أبسط شيء يعطيهم معنى لحياتهم، وجدوا أنفسهم فجأة في عالم يحط كل أنظاره عليهم فقط لأنهم كانوا نتيجة خطيئة لم يرتكبونها، أو لأن الحياة شاءت لهم أن يكونوا هكذا، أطفال من دون أدنى حق حتى لو كان ذلك الحق مجرد حلم. وبما أن أيام الطفولة تعد أسعد أيام الإنسان، فمن العادة أن يفتح الطفل عينيه ومن حوله أفراد عائلته، يحيطونه بما يجب حتى ينمو في بيئة متكاملة العوامل النفسية، غير أن واقع الكثيرين يختلف جملة وتفصيلا، حيث بمجرد أن يرى بعض الأطفال النور حتى يجدوا أنفسهم في مراكز تكفلهم بعد أن وضعوا قصرًا من رحم لم يرغب في حملهم أصلا. المجتمع... المحكمة غير العادلة هي فئة نستطيع القول عنها الفئة الأكثر حرمانا من أدنى مستلزمات العيش، يعيشون حياة قاسية ومريرة لا يحسدون عليها في كثير من الأحيان، وحالة نفسية زادتهم ارتباكا وخوفا في ظل الأعراف الصارمة التي تحكم مجتمعنا، فالكلمات على اختلافها أصبحت لا تجدي نفعا ولا تقدر وصفا لما تحمله قلوبهم. ولأن المجتمع هو المحكمة غير العادلة كان من الصعب عليهم اثبات براءتهم بيننا وإعادة النبض لحياتهم، لأنهم غير قادرين على المواجهة، حيث يعيشون حالة من التشتت والضياع والإحساس بالنقص الدائم، لأن الكل يريد أن يضع حدودا وفواصل ما كان ينبغي لها أن توضع، ولما كانت النظرات إليه تقتله بقسوتها، حضنته المراكز الجزائرية بين جدران لا تقل قسوة عن الأولى وجعلته يعيش دوامة من الأسئلة ويقتسم بمفرده عناء التحمل بكل معانيه ويتلفظ أنفاس حرمانه من أبسط الحقوق، البدء بحياة جديدة والخلاص من كابوس سئموا العيش رهينة فيه كل هذا الوقت. آلام... وأحلام... وليس بغريب عن مجتمعنا، السيد (سمير. ص) هذا الرجل الذي تَحمل روحه ما يكفي من الشجاعة ليعترف بأنه متزوج من امرأة عديمة الهوية، ليس هذا فحسب، (سمير) يربي طفلا من الشريحة نفسها، هو رجل تحدى كل العقبات ليفرض وجود الزوجة والابن معا فقط لأنه يحاول تغيير تفكيرنا، واعتقاداتنا، وافتراضات زادت من حدّة وقساوة تعاملنا مع أناس أبرياء. (ياسر وليدي وليدي وليدي يمرض نمرض يبكي ما نحملش) هي الكلمات التي ظل يرددها (سمير) وهو يعانق ياسر، ليواصل موضحا أن ديننا يوصينا ويحثنا على رعاية اليتيم لما له من منزلة خاصة، مشيرا إلى أن (ياسر) والحمد لله، تربى تربية صالحة ويتمتع بشخصية قوية، كما ناشد (سمير) العائلات التي تتكفل بالأطفال المسعفين، أن يوكلوا مهمة إبلاغ الطفل المسعف بالحقيقة إلى مختص نفساني، على اعتبار أنه الشخص الأقدر على فهم المسعف ومساعدته على تقبل الحقيقة. أما وسيلة ذات 23 سنة متخرجة من جامعة بن عكنون لم يكن لها الحظ الذي وجده (ياسر)، هي الفتاة التي جيء بها منذ سن السابعة إلى قرية sos درارية أو ما يعرف بمركز الطفولة المسعفة، هي هيئة غير حكومية تابعة لمنظمة كيندر دولف الدولية التي تستمد قوانينها من منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والتي تسعى للتكفل بالأطفال المهمشين واليتامى، هي لا تخفي طموحها في هذه الحياة استقبلتنا وعلى وجهها ابتسامة بريئة تخفي وراءها حزنا خلفه الزمن كشفته عيناها لتروي لنا قصتها مع هذا المركز هي وأختيها (عائشة) و(سلمى) حيث كانوا يعيشون في جو عائلي كباقي الأطفال غير أن القدر شاء لهم أن تشتت هذه العائلة بسبب مشاكل عائلية، حيث أصدر قاضي الأحداث حكما بحقهم تمثل في إبعادهم عن المنزل لتتكفل بهم الدولة، وليجدوا أنفسهم يعيشون مأساة فقدانهم الحنان ووجودهم في عالم غريب لا يرحم. وعند سؤالنا عن الأسباب التي سمحت لقاضي الأحداث أن يتخذ مثل هذا القرار، رفضت وسيلة البوح بها غير أنها ذرفت دموعا صامتة مع تنهيدة كشفت لنا النقص والحرمان الذي عاشته طوال هذه السنوات. لتواصل قائلة (التحقنا بمركز sos درارية منذ سنة 1998 حيث كنت أبلغ 7 سنوات بينما أختي الصغرى (سلمى) كانت في عامها الثاني، كنا نعيش مع الشعور بالوحدة والظلم نصارع تقلبات الزمن والمستقبل المجهول، بعيدين عن الأهل والأقارب، معزولين عن العالم الخارجي إلا لما تقتضيه الضرورة كالذهاب للمدارس)، لتتابع وسيلة (حتى أصبحت في سن 17 سنة أين تم إخراجي أنا و 6 بنات أخريات من هذا المركز ليتم إدماجي في المجتمع ويكون لنا تصال وتواصل مع أناس آخرين، حيث قام المركز باستئجار شقة بالقرب من القرية مع تخصيص أم sos أو مربية لتتكفل بنا وبكل شؤوننا سواء كان ذلك من الجانب المعنوي أو المادي). كما أكدت وسيلة أن القرية sos واصلت رعايتهم والتكفل بهم سواء فيما يخص الدراسة أو اللباس أو الأكل أو حتى المصروف، كما يشرف المركز حسب وسيلة على تزويجهم إذا ما تم خطبتهن، لتنهي وسيلة حديثها معنا بتمنيها أن يتم لم شمل عائلتها من جديد لتعيش مع أختيها وأبويها تحت سقف واحد. وردة صغيرة لم تبلغ بعد عامها السادس، تمسك بأجزاء من ملابس والدتها، لتخفي وجهها فيها حينا، وتظهر ابتسامتها البريئة حينا آخر، وحين تسألها عن اسمها تذكر الاسم الأول فقط، وإذا سألتها عن حبها للمدرسة، تجيب بأنها لم تذهب إليها من قبل، والسبب هو عدم امتلاكها لشهادة ميلاد، هو حال الطفلة (سماح)، التي يماثلها آلاف الأطفال، الذين قد يجد بعضهم سبيله في الشارع، أو تأويه دار لرعاية الأطفال الأيتام واللقطاء، وفي حين لا يوجد تقدير رسمي معلن لأعداد قضايا اثبات النسب التي تنظرها المحاكم الجزائرية. ظنت في البداية السيدة (ملاك) أم الطفلة البريئة (سماح) أن الفستان الأبيض ولقب الزواج هو أجمل ما يمكن أن يحدث لها، فقد صدقت والدتها عندما أخبرتها بذلك، لتنتقل من عالم الطفولة إلى عالم آخر لم تدركه وقتها، لكنها مازالت تذكر تفاصيله المؤلمة، حتى مل منها الشيخ العجوز الذي تزوجته لتعود للعيش وسط أسرتها لتعيد الزواج بمن توسمت فيه الحب الذي حرمت منه وهو تاجر متيسر ماديا، لكنه متزوج، وعندما عرض عليها الزواج العرفي رفضت في البداية لكن أمام سحر المشاعر وافقت، ومع الوقت تحرك داخل أحشائها جنين انتظرته طويلا، لكن الحبيب رفض الأمر وتخلى عنها، لتجد نفسها مجبرة على الوقوع في دوامة القضاء لاثبات نسب طفلتها (سماح)، وما أن اكتشفت حملها هربت من منزل الأسرة. لاقت أهوالا كثيرة حتى وضعت طفلة جميلة، وبمساعدة من إحدى الجمعيات الحقوقية تمكنت من تحريك دعوى اثبات نسب، على أمل حصول وليدتها على شهادة ميلاد، غير أن الأمر بقي على حاله منذ ست سنوات. رأي الشارع... فكيف لمجتمع أن يقسوا على من هم أمثال (وسيلة) و(ياسر) و(أمين)، يقسوا على أحلام وآمال بريئة رغم ما يحمله من شوائب وظواهر لو التفت إليها لاستنفذت كل قساوته ولما بقي إلا ودّه وعطفه، ولمعرفة رأي الناس حول الظاهرة خرجت (أخبار اليوم) لاستطلاع رأي المجتمع الجزائري حيث كانت البداية مع(محمد) الذي أكد على أن فئة الطفولة المسعفة فئة مهمشة في مجتمعنا خاصة وأنها محرومة من حنان الوالدين، الشيء الذي إعتبره محمد عنصرا أساسيا ومهما في الحياة، مستنكرا النظرة القاسية التي ينظر المجتمع بها إلى هذه الشريحة من الأطفال لكونه يقطن في بلدية درارية قرب قرية sos درارية ما جعله مقربا من بعض الأطفال من هذه الشريحة. أما (ليديا) أشارت في سياق حديثها معنا، إلى أن فئة الطفولة المسعفة ليس لهم ذنب في الحالة التي وجدوا أنفسهم فيها، مضيفة أن على المجتمع مساعدتهم ليتمكنوا من الاندماج ومواصلة حياتهم كبقية الأطفال لأنه في الأخير مجرد أناس كباقي البشر. ومن جهة أخرى، أكدت (باية) على ضرورة إيجاد حلول مستقبلية للحالة التي أصبحت تؤرقهم وذلك منذ الصغر حتى يبلغ سن الرشد ويتم إدماجه في المجتمع لتكون لهم وضعية مستقرة، كما أشارت إلى إلزامية النظر إلى الوضعية القانونية نظرا إلى الصعوبات التي تتلقاها هذه الشريحة من المجتمع خاصة فيما يتعلق بالوثائق الثبوتية. القاصر في حالة الخطر المعنوي عالج المشرع الجزائري مسألة الطفولة المسعفة من خلال قانون حماية الطفولة والمراهقة الصادر بالأمر رقم 72/ 03 المؤرخ في 10/02/1972، والذي أطلق على الطفل في هذه الحالة ب(القاصر في حالة الخطر المعنوي). وفي هذا الصدد أكدت لنا المحامية (خليدة.م) أن الحماية القانونية للطفولة المسعفة في الجزائر من خلال القانون الصادر بالأمر رقم 72/ 03 ، حيث تعرض لها المشرع الجزائري في العديد من المواد ومن ضمنها وأهمها المادة الأولى والتي تنص على أن القاصر الذي لم يبلغ 21 سنة كاملة والذي تكون صحته أو أخلاقه أو تربيته عرضة للخطر أو يكون وضع حياته أو سلوكه مضرا بمستقبله، يمكن إخضاعه لتدابير الحماية والمساعدة التربوية وذلك ضمن شروط عديدة، بحيث قام المشرع بتحديد السن ب 21 سنة حيث أضاف عامين ليكتمل النضج العقلي للطفل، ومادام لم يبلغ هذه السن وضع لها العديد من المسائل والآليات والنصوص المتعلقة بحمايته وإدماجه في المجتمع بتدابير متعددة. كما عمل المشرع الجزائري حسب نفس المتحدثة على تنظيم هذه الشريحة، بالإضافة إلى العمل على إعادة إدماجها في المجتمع بتسخير بعض الهيئات القانونية التي جعلتها تتدخل في الوقت المناسب. وأضافت (خليدة.م) بالنسبة لهذه الهيئات التي تنص عليها المادة 2 من نفس الأمر بحيث تقول المادة الثانية منه، على أن يختص قاضي الأحداث وكهيئة قانونية ورسمية من المكان الذي وجد فيه القاصر للنظر في حالته، وهذا سواء بعد تلقي البلاغ من الشخص أو الهيئة التي تلاحظ هذا القاصر كالضبطية القضائية سواء كانت الشرطة أو الدرك. ومن خلال هذه النصوص نتوصل إلى أن المشرع الجزائري بدأ من الأولويات المتمثلة في تحديد السن بالإضافة إلى تحديد الهيئة التي تقوم على رأس تقديم الحماية. "المال والبنون زينة الحياة الدنيا" ومن نص الآية الكريمة يتضح لنا جليا المكانة الرفيعة التي يحظى بها الأبناء في ديننا الحنيف، ولمعرفة كيف ينظر الشرع إلى أبناء غير مرغوب فيهم وما مكانتهم في الإسلام، قمنا بالاتصال بالإمام (جلول.ن)، حيث أكد أن الإسلام بفضل الله سبحانه وتعالى قد اعتنى بهذه الفئة، أي فئة الطفولة المسعفة سواء فيما تعلق الأمر بالأبناء غير الشرعيين الذين لا ذنب لهم كما قال الله عز وجل (ولا تزر وازرة وزرى أخرى) أو سواء تعلق الأمر باليتامى أو اللقطاء. كما أن الشرع حسب ذات المتحدث، رتب لهذا الصنف من الأطفال حقوقا وأوجب التقاطه ودعا إلى العمل على المحافظة عليه بما يحقق له الأمن، ويقول سبحانه (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). كما أشار (جلول.ن) إلى أن الجميع عليهم أن يعلموا أن اليتامى وخاصة الأبناء غير الشرعيين أو اللقطاء لا ذنب لهم، وهم أبرياء وأحرار ولهم في شرعنا عناية ومنزلة هامة. ويبقى الأمل... فمهما كانت الجهود المبذولة من أجل توفير الظروف المناسبة لفئة الطفولة المسعفة إلا أن الخوف من المستقبل يبقى يؤرقها طالما وأن حالة الخوف التي تحاصرها من غد لا يحمل لها أملا في العيش إلى جانب أقرانها في الحياة المهنية والعائلية، وإلى حين ذلك تعلق هذه الفئة الأمل على من يصنع غدهم ويقدر أحلامهم ويبعث الأمل في قلوب قست عليها الظروف.