عندما تسمع القصة تتخيل أنك أمام حقيقة موجودة في مجتمعنا، حقيقة بلا رأس أو مشكلة دون إنذار، فالقصة بدأت بغلطة أو خطأ أو بفضيحة، لتبقى الفضيحة في زاوية المسكوت عنه وخلف جدران الصمت لتتحول بعدها إلى حكاية ربما يتداولها الناس بالألسنة أو تحاول الضحية أو المجني عليها إخفاء الحقيقة بعيدا عن الألسنة·· إنها قصة بنات أو نساء أو أمهات عازبات، بدأن حياتهن في تجرع أخطاء الوالدان وترعرعن بين جدران دور الطفولة المسعفة ليجدن أنفسهن بعد سنوات إما في منازل أهالي كفلهن أو النتيجة أنهن يعشن في تكرار الخطأ واجترار الفضيحة مرة أخرى· كانت تمشي في ساحة الشهداء بقلب العاصمة، تجر بين يديها رضيعا صغيرا ربما لم يكمل شهره السادس، تطلب الصدقة من هذا وذاك، وتحاول أن تستعطف المارة، من ذوي القلوب الرحيمة، لأنها تعرف أن رضيعا لا يمكن له أن يجذب إلا أنظار الاستعطاف والرحمة ولكن هيهات، فهي كانت رضيعة وتعرضت لنفس السيناريو من والدة لا تعرفها اليوم·· الملفت للانتباه أن هذه السيدة التي تقطن الشرافة تمتهن التسول في النهار وتشتغل في أحد المطاعم الصاخبة ليلا، والحكاية ربما تخدش الحياء لأنها تلهث وراء لقمة العيش بأي طريقة كانت، المهم البحث عن ”الخبزة”، خاصة وأنها ترعرعت في دور الطفولة المسعفة من وهران نحو درارية بالعاصمة، لتجد نفسها بعد سن 18 سنة دون عائلة تحتضنها أو زوجا يلملم جراحها، وهاهي اليوم تعرف طريقا، بل طرقا لمواصلة العيش في مجتمع رفضها ولا يقبلها كأي مواطن· مصير مجهول عندما نبحث عن عددهم تصادفنا حقيقة الأرقام المتضاربة الخاصة بالطفولة المسعفة في الجزائر، ففيما تقدرها السلطات بين ثلاثة وخمسة آلاف طفل سنويا، يتم التكفل بهم في مراكز خاصة تديرها وزارة التضامن الوطني، حيث تسمح هذه الأخيرة للطفل بالتنشئة في هذه المراكز حتى سن 18 سنة، وتتوقف عجلة العناية في هذا السن، لتبدأ بعدها رحلة البحث عن بداية جديدة، أو حياة أخرى، فسعيد الحظ هو ذلك الذي يسوقه القدر نحو عائلة يمكنها أن تتكفل به، أما من يقذف بهم الواقع إلى الشارع أو اللهث وراء لقمة العيش فقد تكون حياتهم سعيدة وقد تكون كمن يبحث عن السراب و”المجهول”·· اختارت”البلاد” البحث في دفاتر نساء كن ضحية لذلك القانون الذي يجبر الفتاة أن تخرج من مركز الطفولة أو مركز تربية البنات في سن الثامنة عشر، لسبب واحد وهو أنهن يحتفلن اليوم بعيدهن ولكن خلف أبواب الصمت، فالحياة بالنسبة لهن كثيرة المرارة ولكن في غالبها ضمان لقمة العيش وبأي طريقة، هناك من اختارت طريق العمل والدراسة وإيجاد مكان في المجتمع، مثلما فعلته ”مليكة· ز” التي تبلغ 36 سنة والتي تتذكر بألم وبفرح في آن واحد، تشتغل ممرضة في أحد مستشفيات العاصمة، من حسن حظها أنها وجدت عجوزا احتضنتها بمنطقة ”الأبيار” بعد خروجها من دار الطفولة المسعفة بولاية المدية، ومن حسن حظها أيضا أن تلك العجوز تركت لها غرفة تعيش فيها الآن· الحكاية مؤلمة ولكنها أحسن من قصص الآخرين مليكة تسرد قصتها وكأنها ولدت من جديد، في البداية قالت إنها لا ذنب لها ولكن في النهاية قالت ”كل واحد يتحمل مسؤوليته وهي تنتظر يوما أن تعرف فيه والدتها ووالدها”، نعم لقد دفعت هذه المرأة والصبية والشابة والرضيعة الثمن عندما كانت نتاج ”خطأ” وقع فيه والديها، لتجد نفسها في دار الطفولة المسعفة للأطفال المجهولي النسب، فإلى غاية سن 18 ساقها القدر إلى امرأة عجوز لديها أولاد ولكن جميعهم لديهم أسر وتركوها لوحدها، فاحتضنتها واعتبرتها والدتها الحقيقية، ومن حسن حظ هذه المرأة أنها تربت في بيت بعدما أكلمت سن الثامنة عشر وهو البيت الذي أمدها بالدفء والحنان الذي افتقدته منذ سنوات، لتجد نفسها أمام واقع وهو أن تقدم ملفها للتكوين في شبه الطبي وبالفعل تحصلت على الشهادة وهذا حسب قولها ”بمساعدة تلك المرأة التي احتوتها”· وتتحدث هذه المرأة عن تلك المرأة بحزن شديد بعدما فارقت الحياة وورثتها غرفة ومطبخ في منطقة الأبيار تقيها من تقلبات الزمن في مجتمع لا يرحم· سن التساؤلات العريضة ·· عنوانها من أكون؟ سن لا يمنح تلك الفتيات اللواتي كن رهينة دور الطفولة المسعفة، فالحل عند بلوغ سن ال18 هو إما إيجاد مأوى أو زوج أو العيش بمفردها أو تعيش في الشوارع وكم هي قاسية تلك الشوارع الباردة ليلا والمكتظة بالعيون المتربصة نهارا· عندما تحدثنا إليها مرة ومرتين وثلاث مرات نجد أن القصة هي نفسها، هي ضحية اغتصاب من طرف مجموعة شباب، لأنها وجدت نفسها في الشارع بعدما عاشت ”سعاد” سن الطفولة في أحضان أسرة تتكون من زوجين لا ينجبان أولاد، تم إخراجها من دار الطفولة ببرج الكيفان، لكن النهاية لم تكن سعيدة، الزوجان تطلقا وهنا بدأت المعاناة تركت الطفلة وهي في سن ال 13 بلا راعي ولا ولي، لتبدأ رحلتها في الشوارع وتعرفت خلال تلك الرحلة المأساوية على نساء وفتيات علمنها طريقا غير سوي وبذلك تتعرض للإغتصاب مرة ومرتين وتنجب مرة ومرتين، لكنها اليوم تلهث وراء لقمة العيش بأي طريقة كانت حتى وإن باعت شرفها وكم هي مؤلمة هذه الكلمات· من أنا؟ الرحلة طويلة، والأسئلة كثيرة، فالسؤال من أنا ومن أكون ومن أين أتيت أسئلة كثيرا ما تدفع بصاحبها إلى الجنون، خصوصا بالنسبة لفتيات في عمر الزهور، في سن الأحلام، تبدأن رحلة البحث عن ذاتهن وكينونتهن الاجتماعية، ومحاولتهن التشبث بحلم إيجاد موقع اجتماعي ومهني يسمح لهن بتجاوز عقدة الأسرة التي حرم منها، وغياب دفء الوالدين منذ الطفولة، وفي ذلك الكثير من المصاعب· تبتسم رغم ألمها، (أمينة 18 سنة) اسم مستعار، في حديثها ل”البلاد”··· ”كثيرا ما تخفيت وراء الأسماء المستعارة، قبل ثلاث سنوات اكتشفت الحقيقة، أنها خرجت من دار الأيتام أو ”دار الطفولة المسعفة” الموجودة بالأبيار بالجزائر العاصمة لتستيقظ على حقيقة أن كل الموجودات في هذا المركز أخواتها بالصدفة، لم تتوقع أنها حقيقة ”صعبة” جدا عليها وهي في هذه السن الحرجة، سن المراهقة، جمعهم القدر فقط بين جدران هذا المركز، يضحكن يتبادلن الأحلام والأوهام أيضا، للأسف لا والدين ولا عائلة، لا منزل· تقول أمينة الأسماء المستعارة ربما تجلب الحظ، على حد تعبيرها، فهي يمكن أن تجلب لي الحظ، طبعا هي من اقترح علينا إعطاءها هذا الاسم لنكتب قصتها لأنها تحبه أو تستلطفه، لحاجة في نفسها، وتمنت لو أعطي لها هذا الاسم عندما وجدت في المستشفى أو رمي بها سنة ,1995 إنها الآن ”مجهولة النسب” ولم تحظ بأسرة كالكثيرين ممن ترأف بهم العديد من العائلات، لكنها تتأسف أنها لا يمكنها تغيير الاسم، بل وعلقت قائلة ”للأسف لا يمكنني تغييره الآن، وأحمد الله أنه أعطي لي اسم بعدما رمت بي من أنجبتني”· تضيف قائلة ”تمكنت من العيش بين جدران هذا المركز ”أس أو أس درارية”، لديهن مربية تقوم على شؤونهم وتعتني بهم إنه المكان الوحيد الذي شعرت فيه بالدفء، أسرة جديدة، أخوات في مثل سني، نلعب ونضحك ونتمنى ونحلم أيضا وأحيانا نبكي، لأننا نتذكر، من هم أولياءنا ومن هم أخواتنا وإخوتنا، القصة مؤثرة حقا وذرفت لها الكثيرات ممن قبلن الحديث الدموع· رغم مأساة ”سمية 18 سنة” فهي لا تعرف شيئا عن أسرتها، لكنها تحلم أن تجد أسرة تتكفل بها لتكمل دراستها ولم الدخول إلى الجامعة· الظاهر أن هذه الفتاة لا تحبذ الحديث عن ماضيها، بل وتتهرب من الكثير من المشاهد المأساوية· وحسب زميلاتها في الشقة، فإنها كثيرا ما تعزف عن مشاهدة فيلم اجتماعي يثير الشفقة ويحول أوقات المشاهدة، إلى حزن وبكاء، بل وأكثر من ذلك لا تحب جملة ”فتاة مجهولة النسب”، لكننا سألناها عن ماضيها، لتقول ”لا أعرف، أريد فقط أن أجد المساعدة من الدولة، الحمد لله أننا نعيش هنا في كنف أسرة لم تكن من اختيارنا، لكن القدر هو الذي ساقنا هنا، فلا ذنب لنا سوى أننا ولدنا هكذا ولكن المجتمع لا يرحم· ملف شائك ملف الفتيات خصوصا بعد 18 سنة ملف شائك وهو ماذكرته المربية السيدة سعاد زياني، وهي مختصة في علم النفس واشتغلت كثيرا في العديد من مراكز الإسعاف والطفولة المسعفة، وكذا مراكز إعادة التربية سواء هنا في الجزائر العاصمة أو في المدية في تصريح ل”البلاد”، أن الأمر واقع مرير وصعب، رغم أن الكثيرات يعرفن حقيقة تواجدهن في أي مركز أو دار الإسعاف ”أس أوأس”، وهذا حتى لا تصطدم أي واحدة في حياتها· وأضافت أن السلطات المعنية سواء وزارة التضامن أو وزارة الأسرة وضعتا على عاتقهما التكفل بهذه الشريحة، التي لا يمكننا أن نحيلها على الهامش فهم منا ونحن منهم، تواصل المتحدثة· وفي ردها على سؤال يتعلق واقع الفتيات، قالت ”المشكل في السن الحرجة، نحن نعتمد على تدريبهم على مواجهة الآخرين، خارج أسوار المراكز ودور إعادة التربية أيضا، لتواصل قائلة إنه في مثل هذه المرحلة تعيش الفتاة العديد من الصعاب· وأشارت المختصة إلى أنه ما بين سن 13 إلى غاية 18 سنة وهو السن القانوني لتخرج الفتاة من مركز الإسعاف على أمل إيجاد أسرة تعيش فيها أو تجد شريك الحياة وتؤسس بيتها إن أمكن· ولفتت المختصة زياني الانتباه إلى أن الفتاة تمر بمرحلة المراهقة الصعبة وهي مرحلة حساسة جدا، وتبدأ خلالها تطرح العديد من التساؤلات وتتشكل لها حالة إحباط يومي، بفعل تلك الأسئلة وتلك الاستفهامات والتي في الغالب لا تجد لها أجوبة أو نتحاشى نحن المربون أن نجيب عنها تفاديا لإحداث ”شرخ نفسي”· ولكن ما هو مؤلم تضيف محدثتنا أن الكثيرات ممن درست حالتهن أو عرفتهن عن قرب حاولن الانتحار، لأنهن يجدن أنفسهن أمام مصير مجهول، ويعشن في نفق مظلم وهذا ما يسبب لهن ذلك الشرخ، بل وتحدث لهن أزمة نفسية دائمة، تتعامل معهن المربيات بحذر· وعن تشريح هذه الحالات تقول ”الفتاة في هذه السن تبقى محاصرة بالأسئلة وتبقى في صراع داخلي مستمر، لأنها تبحث عن أصلها وفصلها وتطرح السؤال ”من أكون؟ ولم رمي بي هنا وأين هم أهلي؟· بل وتصل الفتاة حسب المختصة إلى حالة التنصل من واقعها ومن جلدها كما يقال، بل وتدخل في عالم آخر من انفصام في الشخصية، حتى تتخيل نفسها وسط أسرة وأحيانا تتحدث مع نفسها وكأنها مع والدتها أو مع أختها أو حتى تتصور نفسها أحبت شخصا وتعلقت به وستتزوجه وكيف ستتم مراسيم الزواج أيضا· هذا الصراع أحيانا يدخلها عالما آخر من الخيال وبعيد عن الواقع، لأنها في طريق البحث عن مصير أو عن هويتها الحقيقية ولماذا وصلت هنا؟· المصير···!! تعكف كل من وزارة التضامن ووزارة الأسرة على إيجاد سبيل للعناية بالفتيات في ”شدة” كما يصطلح عليه، لأنه ملف الفتيات المجهولات النسب واللواتي وضعن في العديد من دور الإسعاف سيتم إعادة دراسته من الهيئات المختصة· السؤال الذي دق ناقوس الخطر في العديد من الأوساط سواء وزارات أو مراكز أو حتى لدى حقوقيين والأساتذة المختصين في علم الاجتماع وعلم النفس، هو أين ستتجه الفتاة بعد خروجها من دار الإسعاف في سن 18؟ وما مصيرها بعد ذلك؟ ففي غياب النصوص القانونية، فإن الدولة تتكفل بالأطفال المجهولين النسب منذ ولادتهم إلى غاية سن 18 سنة، لكن الحقيقة أن الشارع لا يرحم· كما شدد المحامي محمد سعدوني، في تصريح ل”البلاد” على أنه واقع مفروض، ففي ظل افتقار الضمانات القانونية يقول المحامي فإن الدولة مطالبة بإعادة النظر في مثل هذه الشريحة، والتي لا يمكن رميها للشارع دون حماية قانونية· وتطرق المحامي إلى أن القانون الجزائري يحدد سن الرشد ب19 سنة وبالنسبة لتلك المراكز يتم تسريح الفتيات والذكور على حد سواء في سن 18 سنة، لأن القانون يؤكد أنه في هذا السن فإن كل شخص يصبح مسؤولا عن نفسه وكل ما يصدر عنه من مخالفات وتصرفات غير قانونية وتطبق عليه نفس العقوبات، مثله مثل الراشدين· من جانب آخر، تناول المتحدث مصطلح ”المسعف” قانونيا وهو ذلك الفرد الذي يبحث عن أشخاص يقدمون له الرعاية والإيواء وهناك ثلاث فئات، الأولى، وهي حسب القانون ”الفئة التي يتم نقلها من المستشفيات إلى المصالح المعنية بتربية الأطفال ولا علاقة لهم بعائلاتهم الطبيعية ”الوالدين”، وهي الفئة التي تضم الطفل ”غير الشرعي” الذي تم إنجابه خارج إطار الزواج أو يحمل اسم والدته· ويتم التكفل بهذه الفئة من طرف مصالح الشؤون الاجتماعية التي تشرف عليها وزارة التضامن والأسرة· أما الفئة الثانية وهم الأطفال الذين يوضعون في مراكز إعادة التربية بأمر من قاضي الأحداث لمدة مؤقتة بعد معاناتهم في عائلاتهم الأصلية، وبإمكان عائلاتهم زياراتهم· أما الفئة الثالثة فهي الشريحة التي يضعها الأولياء في المراكز، بسبب صعوبة ظروفهم المادية أو بسبب عدم اتفاق الزوجين· مجتمع لا يرحم تشير الأرقام التي حصلت عليها ”البلاد” من قرية الطفولة المسعفة ب”درارية” التي يوجد فيها أربعة منازل التي بنيت سنة ,1992 إلى أن 63 بالمائة من الأطفال الذين دخلوا، تم إرجاعهم إلى أوليائهم البيولوجيين بعد تشجيع العائلات على الاحتفاظ بأولادها الحقيقيين، وذلك بعد التكفل بهم نفسيا· وفي هذه القرية وقفنا على العناية الكبيرة للقائمين عليها، ففضلا عن الجو العائلي التي تجده الفتيات في هذا المركز فإنهن تحظين بجو عائلي، بالإضافة إلى العناية الصحية وكذا التكفل بهم في مجال التكوين التربوي وإلحاقهم بالمؤسسات التعليمية المتوفرة· وتستفيد القائمات هنا بثلاث مراحل بيداغوجية، الأولى تشمل بداية من السن الأول، أي منذ سن السادسة إلى غاية 15 سنة، والثانية تشمل فئة المراهقين من 15 إلى 18 سنة، والثالثة تشمل فئة العشرين سنة فما فوق· ومن جانب آخر تم تزويج الكثيرات من النزيلات من شباب رغبوا في الزواج، دون الكشف عن عدد المتزوجات حفاظا على خصوصية حياتهن· كما أن هناك العديد من المراكز التي نجحت في تزويج الفتيات اللواتي وصلن إلى سن 18 سنة، وهي محاولة لتخليصهم من مصير مجهول بعد تلك السن الحرجة، مثلما حدث في مركز إعادة التربية للبنات الأحداث ببئر خادم بالعاصمة·