بقلم: عدنان أبو عامر بدون مقدمات، حظر وزير الجيش الإسرائيلي موشي يعلون قبل عدة أسابيع جمعيتَيْن أوروبيتين باعتبارهما مقربتين من حركة حماس، وهما: مجلس العلاقات الفلسطينية الأوروبية (CEPR) في بلجيكا، والحملة الأوروبية لرفع الحصار عن غزة في النرويج، لتصبحا خارجتَيْن عن القانون، وبإمكان إسرائيل مصادرة أموالهما ومحاكمة أعضائهما. مبررات افتراضية مصدر عسكري إسرائيلي زعم أن من دوافع القرار أن المنظمتين تعملان ك (لوبي ضاغط) لحماس في الاتحاد الأوروبي، ومن أكبر الجهات الداعمة لها هناك، وتقومان بنشاطاتهما تحت غطاء التعاطف مع الفلسطينيين، ويقف على رأسهما نشطاء كبار في الحركة. لكن المنظمتين المحظورتين رفضتا القرار الإسرائيلي، كونهما مسجلتين ضمن المؤسسات العاملة بالاتحاد الأوروبي، وتعملان لتطوير الحوار بين أوروبا والعالم العربي، وإيجاد حل عادل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي. كما أن من بين أعضاء مجلس أمنائهما عددا من النواب الأوروبيين، وقامتا بتنظيم زيارات لهم للأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة، ضمّت برلمانيين وصنّاع قرار ونشطاء وصحفيين وأكاديميين، للاطلاع على الأحوال السياسية والاقتصادية، وحالة حقوق الإنسان فيها. ولذلك فإن القرار الإسرائيلي ربما ليس مرتبطا بحماس بصورة مباشرة، ولكن بسبب الجهد الذي تمارسه المنظمات، واحتكاكها عن قرب بالقوى السياسية الفلسطينية، والتقائها بحماس كقوة سياسية فازت في الانتخابات التشريعية، بعد أن وضعت حواجز أمام التواصل معها. القرار الإسرائيلي واضح أنه مستند إلى ما بدأه الأوروبيون عبر هذه المنظمات من الاستماع لرواية سياسية من حماس مختلفة عما تروجه إسرائيل، مما أغضبها كثيرا، وهي لا تملك قرائن تطعن بشرعية المنظمات، وإلا لتوجهت للمؤسسات القضائية الأوروبية، لأن ساحة عملها هي القارة الأوروبية بشكل مباشر، وستقوم بمتابعة القرار الإسرائيلي قضائيا، واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة لوقف أية تبعات له، ولو كانت هامشية. وقد اتهمت إسرائيل أعضاء هذه المنظمات بأنهم ناشطون في صناديق التبرّع ونقل المساعدات المالية لحماس، ومحسوبون بآرائهم على جماعة الإخوان المسلمين، فيما تنظر حماس لهذه الزيارات على أنها تحمل مضامين وأهدافا تتجاوز البعد الإنساني، كونها تصطحب معها شخصيات سياسية أوروبية تخترق الجدار المفروض على الحركة، وترفع عنها العزلة السياسية. وقد دأبت حكومة حماس في غزة على تنظيم جولات ميدانية لهذه المنظمات، ولقاءات سياسية مع وزرائها، وعلى رأسهم رئيسها إسماعيل هنية، لنقل روايتها للرأي العام الأوروبي، مما أزعج إسرائيل بالتأكيد. أما فيما يتعلق بتمويل هذه المنظمات التي تتهمها إسرائيل بتلقي أموال من حماس، فقد أصدر مجلس العلاقات الأوروبية الفلسطينية بيانا جاء فيه أنه يتلقى أموالا من التبرعات الفردية من أنحاء العالم، وفقا للمتطلبات القانونية في أوروبا، ولا يقبل أموالا من الأفراد والهيئات التي ترفع شعارات معادية لقيم السلام والعدالة، ما يعني أن هذه المنظمات لا تتلقى أموالا أو تبرعات من حركة حماس، لأن الكشوف المالية للمجلس معروضة أمام الجهات الرقابية في الاتحاد الأوروبي. المقاطعة الأوروبية الجدير بالذكر، أنها ليست المرة الأولى التي تحظر فيها إسرائيل مؤسسات فلسطينية في أوروبا بدعوى انتمائها لحركة حماس، ومنها مركز العودة الفلسطيني (PRC) في لندن قبل ثلاثة أعوام، باعتباره مؤسسة للدعاية المناهضة لها، ومحسوبة على حماس، ويرسل مسؤولوه قوافل من السفن وغيرها لغزة، ونقل الأموال لها. وبالتالي، فمن الواضح أن قرار إسرائيل بحظر تلك المنظمات جاء بعد مطالبة الأخيرة بإيجاد وسيلة ضغط فعالة على الأولى لإلزامها بالقانون الدولي، وعدم استمرارها في انتهاكات حقوق الفلسطينيين دون عقوبة رادعة، عبر جهود تمثلت في تنظيم زيارات للبرلمانيين والمسؤولين الأوروبيين لفلسطين ليشاهدوا الوضع عن كثب، دون صلة بحماس من قريب أو بعيد، وهي اتهامات حاولت إسرائيل تسويقها في الساحة الأوروبية. وقد أصدرت إسرائيل قرارها بعد نجاح المنظمات في ضرب روايتها عن الأحداث، خاصة حصار غزة، مما أوجد (لوبي ضاغط) في القارة الأوروبية مناصرا للقضية الفلسطينية، ولذلك أرادت من القرار منع الأوروبيين من زيارة فلسطين، ليتعرفوا على الحقائق كما هي، ويلتقوا بجميع الأطراف، ومنها حماس، وهذا ما لا تريده إسرائيل، بعد أن اتضح لصناع القرار في الاتحاد الأوروبي خطأ قرار عزل الحركة عن العملية السياسية. أكثر من ذلك، فإن القرار الإسرائيلي يكشف النقاب عن وقوف تل أبيب بالمرصاد لأي نشاط لحركة حماس في أوروبا، لقطع الطريق أمام استمرار العلاقات، وإلزام الدول الأوروبية بوقف تقديم تسهيلات سياسية لحماس، وهذا ما تم فعلا، فتوقفت اللقاءات الرسمية، وإن جرى بعضها خلف الكواليس بسرية تامة. وهو ما يمكن وصفه بأن إسرائيل مصابة ب(فوبيا حماس)، وتعتبر أي نشاط معاد لها مرتبطا بالضرورة مع الحركة، والأمر ليس كذلك، لأنها لا ترتبط من قريب أو بعيد بالمنظمتين المحظورتين، فوفودهما تأتي إلى قطاع غزة والضفة الغربية، وتلتقي بممثلين عن حماس وباقي القوى الفلسطينية. وبالتالي، فإن القرار الإسرائيلي يعبر عن (تخبط) لمواجهة المد الفلسطيني داخل أوروبا، وتنامي المقاطعة التي تقوم بها دول وجهات غير حكومية أوروبية ضد إسرائيل، بعد أن رحبت حماس قبل أيام بقرارات أوروبية لمقاطعة تل أبيب، بسبب دعمها وتمويلها الاستيطان في فلسطين. حوارات الغرب القرار الإسرائيلي هذا يفتح النقاش واسعا على أن المنظومة الغربية -خاصة الاتحاد الأوروبي- دخلت (مضطرة) لإجراء الحوار مع حماس، بعد أعوام على إدراج مكتبها السياسي ضمن لائحة الإرهاب، رغم وجود ضغوط إسرائيلية كبيرة لإتمام التبعات المترتبة على قراره، بأن يواصل اتخاذ الإجراءات العملية الميدانية لترجمته، بحق حركة تحظى بثقل شعبي ووجود سياسي، ليس بالإمكان تجاهله أو التغاضي عنه. ولم تأت جولات الحوارات السرية في معظمها بين قادة حماس أو مقربين منها ورموز غربية في عواصم أوروبية أو شرق أوسطية، حبا في سواد عيون قادة حماس وكوادرها، بل في ضوء التمدد الشعبي الذي تحققه يوما بعد يوم، على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والإغاثية، رغم قرار الحصار المفروض على غزة التي تسيطر عليها الحركة. ولذلك، لا عجب إذا لاحظنا خلال السنوات الأخيرة تكثيف الزيارات التي يقوم بها القناصل والمسؤولون الغربيون القادمون من القدس وتل أبيب للمؤسسات المقربة من حماس في فلسطين. وبغض النظر عما يدور من مناقشات مطولة بين حماس والمسؤولين الدوليين سرا وعلنا، فإن هناك العديد من الحوافز والدوافع التي تجعل المجتمع الدولي يسعى لإجراء هذه الحوارات معها. ومن أهم هذه الدوافع، التوجه الغربي الحالي بإجراء مراجعة شاملة لسياساته تجاه الحركات الإسلامية ذات التوجهات (المعتدلة) في المنطقة العربية، انطلاقا من إدراكهم قوتها وتأثيرها في الرأي العام داخل مجتمعاتها، والرغبة الدولية في معرفة المزيد من مواقف حماس تجاه عدد من القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية. وتأكد ذلك بعد أن ثبت لديهم أن هناك مسافة كبيرة بين الفكر الإخواني الذي تحمله الحركة -المتسم بالعديد من سمات الاعتدال والوسطية والانفتاح على الآخر- وبين المدارس الفكرية الأخرى في حقل العمل الإسلامي كتنظيم القاعدة والتيارات السلفية الجهادية. ومع ذلك، فلم تكتف الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والرباعية الدولية -عبر حواراتهم مع حماس، مباشرة أو عبر وساطات- بالتلميح لها بضرورة السير في عملية التسوية مع إسرائيل، بل شددوا على ضرورة انتزاع اعتراف فلسطيني جديد بها، متسلح هذه المرة بعباءة دينية إسلامية، ليكون اعترافا مجزيا، لا سيما أن حماس تنظر في بعض أدبياتها على أن جذور الصراع مع إسرائيل عقائدية، باعتباره صراع وجود لا نزاع حدود. ورغم التصريحات المعلنة على ألسنة المسؤولين الغربيين حول ضرورة تغيير حماس لإستراتيجيتها وإلغاء ميثاقها، والتعاطي مع عملية التسوية الجارية، فإنهم لم يتمكنوا من انتزاع موقف منها بالتجاوب مع مطالبهم، وتم إجراء هذه الحوارات بالقفز على تلك المطالب التي بقيت ل(حفظ ماء الوجه). هنا بالذات، ترى قطاعات واسعة مقربة من حماس أنه ليس المطلوب منها أن تصم آذانها عما يطرح محليا وإقليميا ودوليا، لكن رغبة جميع الأطراف بلا استثناء أن تعترف بإسرائيل ثمنا لهذا الحوار العلني، يستهدف أمرا ليس بعيدا عن تصفيتها سياسيا وفكريا، بعد أن فشلت إسرائيل في القضاء عليها عسكريا في ساحات المواجهة. في المقابل، ازداد خطاب حماس فهما للحوار مع القوى الدولية، في ظل مجموعة عوامل أساسية، منها: استمرارية منحنى قوتها الصاعد، بما جذبه من اهتمام إعلامي وسياسي دولي تطلب الاستجابة له بصورة أو بأخرى، واندلاع انتفاضة الأقصى، وبروزها بقوة على الساحة الفلسطينية، وأداؤها وحضورها في العمل العسكري المقاوم، ووصولها سدة النظام السياسي الفلسطيني بفوزها بالأغلبية في الانتخابات التشريعية 2006، وبقاؤها مسيطرة على غزة رغم الضربات الكبيرة التي أثخنتها خلال السنوات السبع العجاف، فضلا عن صعود الحركات الإسلامية عقب الثورات العربية قبيل الانتكاسة التي أعقبت انقلاب مصر. وفي حين اتسم الخط البياني لعلاقة حماس مع معظم الدول الأوروبية ب (التصاعدية البطيئة)، فإنه في علاقتها مع الولاياتالمتحدة مال للهبوط السريع رسميا، وإن كان خطابها السياسي تجاه علاقاتها السياسية التي بدأت بأطروحات سياسية مؤدلجة، تحول لسياسية واقعية، وصولا لوضع المصلحة الفلسطينية العامة محددا ومنهاجا لها، ما يعني أن الحوارات الغربية مع حماس غير مرتبطة بقرار إسرائيل حظر المنظمات المذكورة، مع كشف النقاب في أكثر من فرصة عن مناقشات مطولة بين الجانبين، بغض النظر عن الفيتو الإسرائيلي.