بقلم: جواد الحمد ربما تكون فلسفة واتجاهات (الحرب على الإسلام السياسي) قد حلّت في عدد من الدول العربية محل (الحرب على الإرهاب) التي سادت العالم طيلة العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، خاصة بعد نجاح هذا التيار في صناديق الاقتراع من خلال الانتخابات العامة الحرة. وتعزّز هذا الاستبدال في أعقاب الانقلاب على المسار الديمقراطي بمصر في جويلية 2013، حيث أسقِط المفهوم نفسه (الحرب على الإرهاب) على معارضي الانقلاب، فضلا عن أن الحكومة المصرية المؤقتة أصدرت قرارا يصف جماعة الإخوان المسلمين بأنها (منظمة إرهابية بالعضوية والتأييد)، وهو قرار ظهر كجزء من صراع سياسي تشهده البلاد منذ الانقلاب. ومن اللافت أن هذه التوجهات تقاطعت مع توجهات حكومات عربية، خاصة في كل من العراق وسوريا، رغم الاختلاف الكبير بين واقع هذه الدول. لكن المفاجئ أن المملكة العربية السعودية حذت حذو مصر في رمي الإخوان المسلمين (بالإرهاب)، ورغم شمول القرار منظمات أخرى لا علاقة لها بجماعة الإخوان فكريا أو عضويا، فإنه يؤكد أن المملكة فتحت معركة صعبة مع تيار الإسلام السياسي في المنطقة بعد عقود من التعايش وربما الدعم أحيانا من قبل المملكة، في ما فسر بأنه تحول كبير وخطير. ويعني ذلك أن معركة المملكة مع تيار الإسلام السياسي قد تؤثر كثيرا على الأوضاع الاقتصادية والسياسية فيها، كما أنها قد تدخل المجتمع السعودي في خلافات جديدة تضاف إلى مجموع الإشكالات والخلافات القائمة. وبالتالي ربما تضاعف من حجم التحديات التي ستواجهها المملكة خلال السنوات القادمة. وفي السياق ذاته، يأتي الاتهام بأن (جماعات التكفير والعنف) خرجت من تحت عباءة جماعة الإخوان المسلمين، رغم أن التحليل يمكن أن يذهب في اتجاه مناقض بأن أفكار هذه الجماعات وتوجهاتها لم تجد لها مكانا في الإطار الفكري والسياسي للإخوان، وهو ما دفعها إلى أن تخرج على خط الجماعة وتتخذ مسارا آخر، خاصة أن جماعة الإخوان أعلنت مرارا رفضها لأعمال هذه الجماعات وتوجهاتها. ويشير ذلك إلى أن المحافظة على وجود جماعة الإخوان وفكرها وإدماجها في الحياة السياسية الديمقراطية، يشكل فرصة لتحجيم تأييد جماعات العنف والتكفير في صفوف الشباب، كما يُمكن أن يوفر محضنا آمنا ومعتدلا وسياسيا يتعايش مع مختلف مكونات المجتمع، وذلك بدلا من مواجهة جماعات (العنف والتكفير والإرهاب) في عدد من الدول العربية التي اتجهت سياستها الرسمية إلى المغامرة بمصالح الوطن والوحدة الوطنية، وتعطيل فرص التحول الديمقراطي السلمية وإقصاء تيار الإسلام السياسي المعتدل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أحزابا وجماعات قد تمثلت أفكار هذا التيار مثل حزب (الحرية والعدالة) وحزب (الرفاه أو السعادة) في تركيا، وحزب (الجماعة الإسلامية) في باكستان، وحزب (ماشومي) في إندونيسيا وغيرها، وهي جماعات لا تنتهج العنف وسيلة للتغيير الاجتماعي والسياسي. ونظرا لثقل تيار الإسلام السياسي وامتداداته في الوطن العربي، فمن المتوقع أن يكون لتوجهات بعض الحكومات في إقصائه ومحاربته تداعيات كبيرة على المشاركة السياسية لقطاعات كبيرة من المجتمعات العربية، ومن أبرزها قطاع الشباب عموما، والمتدين منه على وجه الخصوص، والذي يرى في انسداد مسار التحول الديمقراطي انكسارا لآماله في الحرية والإبداع والمشاركة السياسية بعيدا عن عنف الدولة والاعتقالات، حيث يبقى حاضرا في وعي هذا الجيل من الشباب مشهد الماضي الدكتاتوري القريب في ظل الحكومات السابقة، مع كل ما يمثله من فساد وتبعية وتخلف اجتماعي واقتصادي. وفي ظل تراجع الحريات وعودة أجواء القمع، لا يُتوقع لكثير من القوى الاجتماعية والسياسية أن تنحني باتجاه المعارضة الجادة لبعض الأنظمة العربية القائمة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى خلق مجتمعات تعاني خوفا وفضاءً سياسيا مُصطنعَا لا يمكنه أن يقدم البدائل للنظام القائم، كل ذلك تحت ذريعة منع وصول الإسلاميين إلى الحكم. والواقع أن هذه الذريعة هي ذاتها التي استخدمتها بعض الحكومات العربية لإقناع الولاياتالمتحدة بالتخلي عن توجهاتها للإصلاح السياسي والديمقراطي في المنطقة العربية بعد إطلاق الدول الصناعية الثماني مشروع الإصلاح في الشرق الأوسط عام 2004، حيث عمدت بعض هذه الحكومات إلى التخويف من حكم الإسلاميين و(تصنيع ودعم) نماذج متطرفة من الحركات الإسلامية لخدمة توجهاتها في الإمساك بالسلطة وتعطيل أي تحول ديمقراطي حقيقي. كما تحمل هذه المواجهة -إن استمرت- مخاطر متحققة على الأمن والاستقرار في المنطقة، حيث سينعش ذلك تيارات متشددة، بل وتيارات عنفية مقابل عنف الدولة، كما ستكون انعكاساته طويلة الأمد على الاقتصاد والتنمية والاستثمارات، فضلا عن تأثيرها على البنية الاجتماعية والثقافية. وعلاوة على ذلك، فإن فرص تحقق نظرية الديمقراطية والحكم الرشيد -بوصفها نهجا معاصرا- ستتضاءل في بعض الدول العربية، مما يهدد بردّة عن الديمقراطية وعن الحريات نحو الدكتاتورية وإرهاب الدولة، ويفقد القوى السياسية والاجتماعية -ومنها الإسلامية- الفرص المتكافئة لتحقيق البرامج والأهداف السياسية، كما سيشجع ذلك على مزيد من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، ويتسبب في تراجع الشفافية والمحاسبة في هذه البلدان. وعلى صعيد آخر، ستؤدي المواجهة العنفية مع تيار الإسلام السياسي العريض في الشارع العربي إلى استمرار الفجوة بين المشروع السياسي للدولة والمشروع الاجتماعي للقوى الاجتماعية، وخاصة الإسلامية منها، في ظل فقدان الثقة بالنهج الديمقراطي نتيجة الصمت الغربي أو دعمه غير المعلن للانقلاب على المسار الديمقراطي ولإجراءات وصف أكبر جماعة في تيار الإسلام السياسي بأنها إرهابية، دون أن تقوم بأي عمل إرهابي وفق تعريف الأممالمتحدة أو تعريف الوثيقة العربية لمكافحة الإرهاب. ويمكن أن يفضي ذلك إلى تفاقم الأزمة في العلاقات العربية الشعبية مع العالم الغربي بسبب تزايد الاتهامات الموجَّهة للغرب بازدواجية المعايير في التعامل مع المنطقة، لا سيما عندما يقبل بما يسلكه حلفاؤه في المنطقة العربية من ممارسات تتعارض مع القانون الدولي والمواثيق الإنسانية ضد تيار منتخب ديمقراطيا، أو تيار سياسي وسطي معتدل يؤمن بالإصلاح والديمقراطية والمشاركة السياسية، وهو ما يجعل حديث الغرب عن الديمقراطية محلّ نقد كبير، ويُوفر لجماعات متطرفة على شاكلة القاعدة (ذخيرة لا تنضب). ومن المرجح في حال استقرار توجهات إقصاء الإسلام السياسي في أي دولة عربية، أن لا تقف حدود الإقصاء عند هذا التيار، وإنما ستصل إلى ممارسة السلطة الحاكمة -أيا كانت- مثل هذه التوجهات وبدرجات متفاوتة مع خصومها السياسيين، أو مع القوى الاجتماعية التي تخالفها في التوجه الفكري، أو مع الشركات التي تنافس مصالحها، وبالتالي فإن شكل النظام السياسي سيبقى رهنا باستمرار طبقة محددة في السلطة وتفردها في ممارستها، وهو ما سيجعل هذه التوجهات مدخلا خطيرا لتمزيق المجتمع وبث روح الفتنة والكراهية بين أبنائه. وفيما يتعلق بالمستقبل، فإن حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي والتي تعدّ جزءا من ماضيه وجزءا من حاضره، ستبقى على الأرجح جزءا هاما من مستقبله أيضا، ويجدر بالآخرين -من غير التيار الإسلامي- أن يدركوا أهمية التعامل معها وفق قواعد اللعبة الديمقراطية لبناء دول ديمقراطية مستقرة وناهضة وآمنة فكريا واجتماعيا وسياسيا، وإن جاءت هذه الديمقراطية في جولة بالإسلاميين إلى السلطة فقد لا تأتي بهم في جولات أخرى، حيث إن من أهم مقتضيات نجاح التحول الديمقراطي إلغاء ظواهر التهميش والإقصاء التي تُشكِّل عادة بؤرا تُقوِّض أي مسار ديمقراطي في العالم، فكيف إذا كان الإقصاء لمن يفوزون بانتخابات حرة مرات عدة ثم يُجرَّمون ويودعون في السجون! وأخيرا، فإن توجهات (شيطنة) تيار الإسلام السياسي تعدّ (صناعة رسمية) للشرّ في المنطقة، ورعاية أمنية لتشكيل جماعات العنف والتكفير، فضلا عن أنها توجهات ضارة حتى بمصالح الحكومات التي تمولها أو تشجعها. ويبدو أنه بات مطلوبا اليوم الشروع في حوار عربي شامل لإبعاد شبح العنف والتطرف والتكفير عن المنطقة، يُسمح فيه للعقلاء الذين لا تخلو منهم دولنا وأمتنا العربية العظيمة من أخذ دورهم، وذلك لوقف الاستنزاف الداخلي في بلداننا، ومنع نشر الكراهية بين أبنائها، وتحقيق نظريات الشراكة الوطنية، ووقف ظواهر الإقصاء والتهميش الفكري والحزبي والطائفي والإثني، حتى تتمكن كل دولة من تحقيق مفهوم الجماعة الوطنية في المجتمع، ثمّ في الأمة القومية على مستوى العالم العربي. ولعل ذلك يوفر للأمة هيبة وقوة ونجاحا يحقق لها فرصة الدور الإقليمي الرائد والمستقل، وهو الدور الذي ما زال يرسم لها في دوائر الأمن وكواليس السياسة من قبل الدول الأخرى.