شاركت في الأمس بندوة علمية تحت عنوان ''العالم العربي يتغير'' تنظمها مكتبة الإسكندرية ومبادرة الإصلاح العربي مع تواجد مجموعة بارزة من مفكري الدول العربية ومن شاباتها وشبانها الذين يشكلون نواة التغيير· وأول مفاجأة لي كانت هي أنه قد تم عقد الندوة في مكان بعيد عن المكتبة التي لها موقع تاريخي وثقافي مهمّ منذ إعادة إطلاقها· وتبين لي بأن السبب الرئيسي هو وجود احتجاجات مطلبية في محيط المكتبة من قبل مجموعة من العاملين فيها تريد استغلال فرصة التغيير القائم في مصر بعد إسقاط رأس النظام لتغيير الإدارة لأسباب عدة لا مجال لي الخوض فيها· ولكن ما أثارني على المستوى السياسي فالفكري هو سيطرة توجه سلفيف براغماتي على هذا الحراك من خلال اتهام القائمين الحاليين على المكتبة بنشر الانحلال الأخلاقي والابتعاد عن مبادئ الدين القويم· ومهما كان تبرير هذا الطرف وتلظيه خلف مطالب إدارية أو رواتبية حيناً، وإجهاره بحقيقة دوافعه حيناً آخر، فهذا مؤشر على توجه خطير لبعض من ركب موجة التغيير الثوري في عديد من الدول العربية التي عرفت الثورة أو المسار الثوري· وفي الندوة نفسها، التقيت بصديقة من تونس، وهي أستاذة جامعية، وتحدثت لي عما يدور في أروقة جامعة المنوبة واحتلال السلفيين التكفيريين لحرم الجامعة ومنعهم الدراسة فيها منذ أسابيع وقيامهم بتكفير الأساتذة إسمياً، معتبرين أن الحكم قد جاء إلى حظيرتهم عن طريق فوز حزب النهضة بالغالبية المريحة· ومطالبين بالسماح للطالبات المنقبات بحضور الدروس وبفصل الجنسين داخل قاعات الدراسة· الخطير في النموذجين هو ليس في تصدر السلفيين الظلاميين للمشهد ومحاولتهم استغلال فترة التحوّل الديمقراطي للسيطرة على أهم منابع العلم والثقافة من مكتبة إلى جامعة، بل الخطر الحقيقي يكمن في استغلال التيار الإسلامي ''المعتدل'' متمثلاً في حزب النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر، لهذه الوضعية للتقدم من خلال مسارين: الأول، يتمثّل في محاولة التموضع في موقع المعتدل أمام تطرف السلفيين، وبالتالي تقديم نفسه على أساس أنه المنقذ من ظلامية هؤلاء، وبأن الحل بين يديه وفي إيديولوجيته ''الوسطية''· وفي مسارٍ ثاني، يستغل هذا التيار السلفيين ليعبّر من خلالهم، بطريقة مباشرة أو متخفية، عن حقيقة تفكير وطبيعة مفاهيم بعض أعضائه، وبالتالي، يتم توزيع الأدوار بين معتدل ومتطرف لخدمة عقلية واحدة تعتمد الإقصائية والتكفير· ويمكن أن يتشكل ضمن الديناميكية هذه مسارٌ ثالث يتضافر فيه المساران، وهنا الخطر الأكبر والانتقاص الأهم من مصداقية هذا التيار الذي اعتقد الكثيرون، وأنا منهم، بأنه ينظر بعين مختلفة إلى مجريات المستقبل الديمقراطي وبأنه قد عدّل من مناهجه العقائدية للتوافق مع طبيعة التطور السياسي الحتمي القائم في المنطقة· بالطبع، لا يوجد حكم على النوايا والخبايا التي لا يمكن الإلمام بها إلا من خلال المتابعة الزمنية ومقاطعة التصرفات والمواقف (أو اللامواقف) لهذا التيار أو غيره· وهنا تتبدى أهمية الوعي المجتمعي في الشأن السياسي وفي مسألة حوكمة السياسات العامة· هذا الوعي يمكن أن يمرّ عبر عدة قنوات، أهمها وأكثرها فاعلية هي منظمات المجتمع المدني· ولكن هذا الرهان صعب ومليء بالعقبات الناجمة عن وهن هذا المجتمع بنسب متفاوتة بين الدول· وهو الذي تعرّض للإقصاء والتهميش والرقابة والقمع طوال عقود من الاستبداد السياسي· وهو الآن مطلوبٌ منه أن ينأى بالمجتمع عن الوقوع في استبداد من نوع آخر تستخدم من خلاله المقدسات والوعي (أو اللاوعي) الديني في تأطير المجتمع وثقافته وممارساته وفي تحديدها وفي قمعها بصورة أقل عنفية ظاهراً، ولكن تحمل في طياتها عنفاً مكبوتاً أشد وطأة ومرارة· بالمقابل، فإن القوى الإسلامية التي تتقدم المشهد السياسي مرتاحة إلى نتائج الانتخابات، وحازت من خلالها على أصوات محبيها وأصوات الناقمين على السياسة التقليدية وعلى الأحزاب الفاشلة والممارسات الفاشلة، مطالبة بوضوح بأن تبرز موقفها من التجاوزات اللاأخلاقية التي تمارسها قوى ظلامية تتلظى تحت راية السلفية أحياناً وأحياناً تلبس لبوس الوسطية لتمرير برامج مشبوهة بالمعنى الثقافي والاجتماعي· ومن المطلوب أيضا، ومن دون خجل أو وجل، بأن تطوّر هذه القوى والتيارات من تنسيقها الوطني مع من خالفها في الرأي عقائدياً، وهي قد بدأت هذا المسار وبنسب متفاوتة أيضا من بلد إلى آخر، بناء على أسس صحيحة ورؤى مستقبلية مشتركة لبلاد ستضم كل ساكنيها المتدينين والأقل ديناً واللادينين من كافة التوجهات· أما التمتع بنشوة الانتصار الانتخابي وممارسة التشفي، فهما داءان قاتلان سيصيبان المجتمع المعني بالخيبة، ولكنهما أولاً وأخيراً سيؤديان بالتيارات ذاتها إلى فقدان ما تبقى من مصداقية لدى الشعب الذي اختارها بأي عمل سياسي أو بأي رؤية تغييرية ظن لوهلة بأن هذه التيارات قادرة على التعبير عنها· وفي النهاية، من الحتمي على التيارات الإسلامية التي هي في طور الوصول إلى السلطة البرلمانية عن طريق الاقتراع الديمقراطي في هذا البلد أو ذاك، أن تعبّر عن موقفها مما يحصل في التجارب تلك، وبأن تبرز بأنها متقدمة فكراً وممارسة عن الوقوع في فخ الغوغائية والسلفية البراغماتية أو محاولة استغلال وجود فئات متطرفة لتوزيع أدوار لن تؤدي ببلادها وبمجتمعاتها إلا إلى الاصطدام بحائط صلب ممتزج بالخيبة وبالندم· ربما·